حِمار الأستاذ !! بقلم : أمـير شـفيق حـسانين-مصر
2015-06-02 06:04:04
كان للأستاذ مأمون أفندي ، حماراً قوي البنية ، عالي المنكبين ، ذو صحة جيدة ، تؤهله بأن يمشي أو يجري لمسافات طويلة دون كلل أو تعب مهما حمل علي ظهره من الأثقال أو كثُر علي ظهره عدد الراكبين . وكان الأستاذ مأمون معلم اللغة العربية بمدرسة القرية أوائل الستينيات ، يمتطي حماره البهي ، ذوالبردعة المستوية زاهية الألوان التي تشد انتباه المارون بجانبه في الطريق .
وقد تعود المعلم علي أن يتوجه صباح كل يوم في طريقه إلي مقر عمله بالمدرسة في باكورة كل صباح ، حيث كان لـ" مأمون " أفندي مجموعة مقربه من طلابه من صبية المدرسة ، والذي طالما إعتبرهم خاصته و طوع بنانه في أي شيئ يريد عمله ، ولذا فقد عودهم بأن يحضر واحد من هؤلاء الصبية إلي داره صباح كل يوم ، لكي يسحب له حماره الذي يمتطيه إلي المدرسة ، مقابل أن يترك هذا الصبي يهرب خارج المدرسة ، ويلهو ويلعب طوال اليوم الدراسي بعيداً المدرسة وتلقي دروس العلم !!
بالفعل تعود بعض التلاميذ الكارهين للمدرسة بأن يذهب واحد منهم لدار معلمهم لأجل سحب الحمارالذي يركبه الأستاذ مأمون إلي المدرسة حتي يوصله إلي باب المدرسة التي لا يدخلها الصبي ، ثم ينزل الأستاذ مأمون من فوق ظهر حماره ، ثم يعود الصبي بالحمار إلي حقل الأستاذ الذي لا يبعد كثيرا عن المدرسة ، ثم يسلم الحمار للعم " عويس "هذا الرجل الأجير الذي يتولي شئون العمل والزراعة بحقل مأمون أفندي ، وبعدها يظل الصبي يلعب ويجري هنا وهناك ، أو يذهب ليتعلم حرفه ليساعد أسرته في تحمل المسئولية في سن مبكرة ، أو ربما يرجع لينام في بيته أو أن يذهب ليساعد والده المزارع البسيط في أعمال الزراعة ، بعدما يخبر والده صاحب الثقافة البسيطة بأنه شيئ طبيعي أن يترك مدرسته ويتغيب عنها لأنه إنصرف بإذن من معلمه ، بينما لا يدري الأب المسكين أن إبنه يسلك طريق الهرب من المدرسة بحجة واهية ، وهو بذلك يتسرب من التعليم شيئاً فشيئاً بسبب توجيه هذا المعلم الغير نصوح والغير حريص علي المصلحة التعليمية لطلابه ، في الوقت الذي تبذل فيه الأسر البسيطة الكادحة قصاري جهدها كي يتعلم أبنائها ويصبحوا أصحاب شأن عظيم في المجتمع ، ولكن الكثير من تلك الأسر والبيوت كانت تراقب الأمل المرجو وهو ينهار أمامهم ، مع تقهقر أولادهم للوراء ، وعزوفهم عن الإلتزام بالحضور المدرسي ، وإنشغالهم بسحب حمار أستاذهم الذي لم يجلب للصبي إلا الضرر والخيبة والندامة !!
وعندما تمر الساعات سريعاً ويأتي موعد الإنصراف بالمدرسة ، يعود الطالب إلي حقل أستاذه ليتسلم الحمار من الأجير ، بعد أن يطمئن بأن الحمار ملئ بطنه بالبرسيم الأخضر الطازج ، ثم يذهب ساحباً الحمار حتي يصل لباب المدرسة التي يقف خارجها ، ويأبي دخولها ، وينتظر قليلاً حتي يخرج الأستاذ رشاد ويقفز علي ظهر الحمار، فيعاود الصبي اللعوب سحب الحمار وفوقه أستاذه مرة أخري إلي بيت حضرة المعلم المحترم ، الذي يخدع الصبي الخائب ببعض كلمات الشكر ، غير مبال بكونه سبباً في صنع فجوه كبيرة بين الصبي وبين المدرسة وحب التعلم .
بعد أن يفرغ الصبي من أداء مهمته يرجع إلي بيته فرحاً مسروراً ، معتقداً أن ما قام به من عملية جر لحمار أستاذه ، هو شيئ من قبيل الشهامه ، وزيادة علي ذلك اعتبرها ، حجة يومية مناسبة للهروب من المدرسة ، بينما لا يدري الطالب المسكين أنه دخل مغارة مظلمة مكتوب علي بابها "المتسربون من التعليم " ، مع تكرار الإنقطاع عن المدرسة ، وهجر الدروس وتلقي العلم والانصراف إلي اللعب والمرح في الشوارع والحواري ومرافقة أصدقاء السوء.
مرت الأيام تمضي والسنوات تنقضي وصارت قضية سحب حمار الأستاذ مأمون ، عادة لا تتجزأ من الروتين اليومي ، لصبية المعلم الذين بدأوا يأخذون خط التسرب من التعليم والسيرعلي طريق الفشل والجهل بخطي منتظمة ، بسبب الانصياع لتعليمات المعلم الغير سوية وإسناده إليهم مهمة غريبة ليست من واجباتهم نهائياً ، وهي سحب الحمار من البيت للمدرسة ثم إلي حقل المعلم ، ثم إلي المدرسة مرة ثانية ، وأخيرا العودة إلي رشاد أفندي معلم المدرسة المبجل .
صارت عملية سحب هذا الحيوان نكير الصوت مجالاً للتنافس والسباق اليومي بين الطلاب الفاشلين العاشقين للحمار أكثر من العلم الذي يلقنه لهم صاحب الحمار ، حتي أنهم صاروا يتسابقون ويهرولون صباح كل يوم نحو حمار مأمون أفندي للأخذ بلجامه اللامع ، لنيل رضا الأستاذ مأمون ، ورضا حماره ، بل وبدأت شعبية الحمار خفيف الظل والمسلي في الإزدياد ، بين الأجيال المدرسية المتتابعة ، بل وصار الحمار مصدر فرح وسرورلكل من يشاهده وهو يتبخطر في مِشيته ، حاملاً علي ظهره صاحبه الأستاذ مأمون أفندي ، ولا يفكر الحمار أبداً في رفع إحدي قدميه لرفس من يمشي خلفه ، أو يعض بأسنانه الكبيرة الحادة من يسحبه للأمام ، لكنه إلتزم الألفه والهدوء مع الجميع ، ولهذا السبب صار للحمار كثير من الأصحاب والخلان والمؤنسين لطريقه ذهاباً وإياباً من المتسربين وفاقدي الرغبة في التعلم أو الانتظام في الحضور للمدرسة ، بل باتوا ينامون ويحلمون بمرافقة الحمار الذي صار في منزلة الصديق والرفيق .
وكان الطبيعي جداً أن تكون هذه العادة اليومية التي ربطت تلاميذ الأستاذ مأمون بحماره ، سبباً يكفي وبقوه لإنصراف الكثير من الأولاد عن حقل التعليم ونفورهم من الاستمرار أو المداومة علي الحضور للحرم المدرسي ، بل بسبب صاحب الحمار ، لجئ كثير من صبية المدرسة إلي الشارع فرحاً باللعب المستمر أو الإتجاه نحو تعلم صنعه في سن مبكره ، طالما أنهم لم يجدوا من يشجعهم علي التعلم أو الاجتهاد في المدرسة ، وقد رأوا أمام أعينهم معلماً يحمل صفة الأنانية وحب الذات ، والتجرد من أي صفات تربوية ولم يعهدوه أبداً حريص علي مصلحتهم بالتعلم والاجتهاد وحب المدرسة ، ولم يروا في شخصيته أو سلوكه ما يحفزهم علي المثابرة والمذاكرة وحب المدرسة لكي يصبحوا يوماً ما في أعلي الدرجات وأرقي المراكز .
لكن د
مأمون أفندي أبدي الإهتمام بمصلحة حماره عن الإهتمام بمستقبل الكثير من الأجيال التي جلست أمامه للتعلم ، وكان سوء توجيهه لهؤلاء الصبية واستغلاله لطلاب الأسر الفقيرة والراغبة في التسرب ، لسحب حماره بدلاً من تشجيعهم علي الإلتزام بالحضور للمدرسة ، هو ما صنع الضررالبالغ لهم .
أما الصبية الفطناء محبي العلم والتعلم والذين نشأوا في بيئة تهتم بالمذاكرة وحب المدرسة ، فكانوا حريصين أشد الحرص علي مستقبلهم ودراستهم والانتظام في مدرستهم ، ورفضوا تماماً أن يكونوا ضمن الفريق اليومي المعروف لسحب حمارالأستاذ رشاد ، وابتعدوا عن طريق الحمارالملبد بالفشل والغباء واللعب ، وسلكوا طريق العلم والإستذكار والاجتهاد وتنظيم الوقت ، ولذلك لم ينجح المعلم في استقطاب هذه الفئة الواعية من الطلاب أوضمهم لفريق الحمار العازفين عن التعليم ، حتي نجي الطلاب المجتهدين من الوقوع في بئرالتسرب من التعليم . هذا البئر المظلم المهلك ، الذي وقع فيه الكثير من صبية المدرسة ، وصاروا شباباً ثم رجالاً ، وهم أميين لا يعلمون القراءة ولا الكتابة ، فلم يكن أمامهم إلا أن يمتهنوا أصعب المهن وأقساها ، ويتعلموا الحرف المختلفة بعدما حُرموا من الوظائف الراقية لأنهم أٌجبروا علي التسرب ومقاطعة المدرسة ، واليوم تراهم وقد إشتعل الرأس شيباً ، وتستحسهم في حالة ندم شديد وحسرة لا توصفها الأقلام ، لما هم فيه من أدني الدرجات ، عندما ينظروا لزملائهم أصحاب المراكز السامية ، فما نفعهم أستاذهم الذي رحل منذ عقود، ولا نفعهم حِماره الذي نفق ، وصار تراباً تحت تراب !!
amirshafik85@yahoo.com
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير