التدين .. بقلم: كميل فياض
2015-07-31 15:56:32
التدين ..
لكل شيء مستويين من الوجود ، الجمال ، الحب ، الخير ، الفرح ، المعرفة الخ .. الوجود نفسه في مستويين ، لكل منهما انعكاساته في النظر والقيم والفكر والادب والتدين والتوجه .. واذ نختار الحديث في ذاك عن التدين ، نقول :
المستوى الأول في الوجود هو الوجود بذاته ، أطلق الفرابي عليه واجب الوجود لذاته ، اي ان سبب وجوده من ذاته وليس من خارج ذاته ، بينما العالم هو واجب الوجود بغيره ، فكل الاشياء فيه تحتاج الى اسباب لوجودها من غيرها ..
الحيوان يحتاج الى النبات والنبات الى الماء والغذاء والهواء ، وهذه لا تقوم بدون الشمس والشمس مرتبط وجودها بغاز الهيليوم ، ثم هناك دور مختلَف القوانين والحيثيات الطبيعية والكونية ، التي تربط بين جميع الكائنات في نظام دوري متكامل ، بحيث اذا اختل اي تناسب بين اجزاء معينة فيه ، يترك اثره ربما على الكون كله ..
غير ان الكون كله لم يوجد بداية من نقطة عدم – كما يتم التصور في معظم المعتقدات - على اعتبار منطق الاسباب وتسلسلها الحتمي ، (فحجارة الدومينو) السببية لا يمكن ان تكون لا متناهية في منطق العقل ، فلا بد ان تستند بدءاً الى وجود لا يستمد سبب وجوده من غيره ، بل حتمًا يجب ان يكون من ذاته ، ولا بد ان يكون الوجود الاول كاملاً في ذاته ، هو ما نسميه الله او العقل الاول المحرك الاول لجميع اسباب الوجود ، وهو الحافظ لها والمهيمن عليها ، بحكم وجوده ذاته لا بحكم ارادة خاصة فيه ، فلم يوجد العالم بكل ما فيه بتخطيط وبتقدير مسبقين كما يتصور ذلك معظم المؤمنون ، بل هو فيض عفوي منه يتشكل الخلق بحسب قابليات جزئياته وكلياته ، ومنطقنا الظاهري نفسه جزء من ذلك الفيض والتشكيل معًا ، فلا بد من تخطي الظاهر فينا كانكعاس لذلك التشكيل ، في سبيل الكشف روحيًا عن تلك الحقيقة ..
وما التدين بمعناه الجوهري الحقيقي الا اولا الكشف عن المبدأ الاول للوجود وهو فينا اقرب الينا من حبل الوريد كما هو في كل شيء وخلف كل شيء ، ثم اعادة الاتصال به تجاوزيًا ، فالتدين اعادة وصل ما انقطع مع مبدأ الوجود الكامل ، وهو تدين العارفين ، اما تدين الجهلاء وهو تدين معظم شيوخ الاديان ، الذي يستند الى الوجود بغيره لا الى الوجود بذاته ، اي الى وسائط ووسطاء وظواهر ، اولا هو ليس تديناً باطلاً بل حق ايضًا ، شرط ان يكون نابعًا من نية صادقة ومسترشدة بتوجيهات العارفين ، فتدين الجهلاء هو تدين نوايا مبنية على ادلة قياسية حسية ظواهرية ، فاذا كانت النوايا نقية خالصة لوجه الله ، يكون تدين ايجابي ، فالنية تسبق الفكر والفكر يسبق العمل ، واذا كانت النية خيِّرة كذلك يكون الفكر ، ويشكلان معًا باطن العمل ، كما لو كان التدين ثمرة لها قشر ولب وبذر ، البذر هو الاساس ، ما يعادل النية في الانسان ..
ما هو التدين تقنيًا :
التدين هو تغيير وتبديل علاقة بالوجود .. عند العارفين هو كشف روحي عرفاني عن مبدأ الوجود الاول الكامل ، وعمل المتدين العارف يتمثل اساسًا في نشاط داخلي تأملي تفكري تحقيقي وكشفي لإعادة الصلة بالوجود الاول بصورة مباشرة ، يُستغنى فيها عن الوسائط والوسطاء ، كالكتابات المقدسة والشروح والطقوس والمظاهر والازياء ، حيث من الوجود الاول ينبع نور الحياة والخير والفرح والاستقرار ..
ان التوجه الجاد للكشف هو تعبير في ذاته عن طبيعة نية راقية ، والكشف هو ثمرة وجزاء للسعي .. وهو ما يحمل معنى الجنة والسعادة الاخرى ، باحتمالات وإلماحات نسبية ، حتى يتم الخلاص الطبيعي من الوجود المادي الكثيف ، والانسلاخ كلياً في عالم اللطيف البسيط ، غير القابل للتفكك والزوال في ذاته ، وهو نشاط جدلي عرفاني متواصل في سر الذات ..
كميل فياض
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير