نقد النقد في نقاط متفرقة ..كميل فياض
2015-09-10 13:37:18
بعد بروز رهط من مفكرين ومثقفين عرب من كلا مشرقي ومغربي العالم العربي ، تحت عنوان " نقد الفكر الديني " عبر عدة عقود  ، وعبر دراسات ومؤلفات ومقالات ومحاضرات كثيرة ، في ما قبل " الربيع العربي" برزت اثرها حركتين متناقضتين ، حركة متمردة على الحكم الثيوقراطي الديني ، ظهرت في تونس وفي مصر بصورة جلية اكثر ، وحركة سلفية متطرفة  الى درجة التوحش ، ظهرت في العراق وفي سوريا اكثر، تمثلت في داعش وفي سواها من حركات دينية متطرفة ..  
ولنكن واضحين ان " نقد الفكر الديني " لا يقتصر كما اقتصر في معظمه على النواحي العقائدية والسياسية ، بل ان التعرض لكل ما حرمه الدين من معرفة وتحقيق وتداول ،يدخل كما ينبغي في مجال النقد الديني .. اي ليس فقط فيما تعلق  بمفهوم الله والآخرة والمعاملات والعقائد في ذلك ، انما التعرض للعلاقات الاقتصادية والمعيشية والتفاوت الرهيب في الأجور والظلم الاجتماعي الخ ،ومن مهام نقد الفكر الديني ايضًا التعرض للمسألة الجنسية وللعلاقة غير المعقولة بين الشاب والفتاة في مجتمعاتنا ، حيث أُغفِلت وحرِّمت على مدى الاجيال من المناقشة الصريحة ..
 
لقد بات كثير من المثقفين والمفكرين العرب يتصورون ان من ابرز اسباب تخلف العرب التاريخي الذي يعكس نفسه في التمزق الاجتماعي وفي الحروب والصراعات المذهبية ، وفي عدم مواكبة حركة التطور والانتاج الثقافي والتكنلوجي ..
بات المعظم من هؤلاء يتصور ان عقلية الاتكال على الغيب من جهة ، والقطعانية الجماعية المناهضة للفردية والكابتة لها من جهة اخرى ،هو  ما يقف وراء التخلف والتمزق الحاصل والجاري منذ قرون الى اليوم ..   
وقد اخذ بعض الدارسين  بإلقاء الضوء على مصطلحات القدماء ، بتحليلها ومقارنة بعضها بمصطلحات الحداثة ، دعمًا لنظرية التخلف والتقدم كما يرونها ، خصوصًا ما ارتبط من تلك المصطلحات بالدين وبالتصوف كعاملين في ذلك ..
وفي الواقع اقول : لا يصلح تطبيق المنهج الغربي كما طُبق على الحالة الغربية ، ان يُطبق على الحالة العربية والاسلامية بالتمام لاختلاف في العقليتين وفي البيئتين وفي التاريخين .. ويمكن القول ان هناك الى ذلك نقاط تقاطع والتقاء .. لكن في سياق نقد الفكر الديني ، لا يجوز وضع كل ما هو روحي في نفس الميزان .. لا يجوز الخلط  بين التجربة الصوفية في الاسلام وبين الكهنوت اللاهوتي في المسيحية مثلاً ،ولا يجوز الخلط تباعًا بين قضية انكار الذات اخلاقيًا وكهنوتيًا ، وبين الفناء الصوفي ، 
وهناك فرق كبير ايضًا بين اخذ الفرد حقه الكامل في التعبير عن افكاره بحرية تامة ،وبين انكار وحدة الوجود وشموليته كخلفية واحدة ثابته لكل تفاصيل واجزاء الحياة في النهاية  .. فلا يمكن ان يكون الله عائقاً لحرية التفكير  وللتطور الاجتماعي والعلمي والثقافي ، الا في حالة الجهل بالذات ، والا كما نتصور الحقيقة  عبر (مؤمنون بلا حدود) اي بغير كشف عرفاني بالذات  .. فالايمان بلا حدود هنا هو الجهل بلا حدود ، هو العيش في الغيب على حساب الواقع الروحي والحسي المباشرين  ، وهو الاتكال على المجهول  والاستسلام السلبي للقدر ، وهو اعتبار ان كل شيء منزل ومحسوم سلفاً ،  وبين كل ذلك وبين تجربة ابا يزيد البسطامي او اكارت تول بون شاسع ..
 ولا يكفي ان يصف الدارس حالة الصوفي العارف من الخارج ولا يكفي ان يقرأ كلماته – كما جرى من قبل البعض -  والا فهو لا يرى من النار سوى الدخان ، ولا من الفضاء سوى الغبار او الغيوم .. ولا خلاف مع الذين يرون في التقوقع وفي التطرف الديني المذهبي سببًا في التخلف والتمزق التاريخي ، لكن ينبغي الا نخلط بين التنور الروحي والاخذ به نهجًا ، وبين الاعتقاد الديني بالمفهوم الضيق والمذهبي  .. 
لقد اختلف تعريف الفلسفة قديمًا وحديثاً ، كما اختلف تعريف مصطلح التنوير والانوار والاستنارة وما الى ذلك ، فبينما مفهوم الاستنارة عند رجل الدين هو الفقه بأصول وتعاليم الدين ، فان مفهوم الاستنارة لدى العلماني هو الاخذ بمفاهيم  الحداثة وتبنيها نهجًا في التعليم وفي الحياة الاجتماعية .. في حين يُعتبر مفهوم الاستنارة والتنور لدى العرفاني ، هو الكشف روحيًا عن الله والاتصال به باعتباره جوهر وجودنا ، وهو تحرير الوعي من التقييدات العقائدية التقليدية ، عوض مناهضة التطرف الديني .. فاين النزعة الفردية بين الفهم الشخصاني للوجود وبين التجربة الروحية التجاوزية ؟ ان وجودنا الشخصي يبدو من داخل التجربة العرفانية وجود رمزي مجازي وهمي ، حيث ان وجود الله الذي  هو الوجود الحقيقي الدائم الثابت ، في حين نحن كأشخاص لسنا منفصلين عنه بل نحن منه كالأمواج من المحيط ، حيث على قدر هدوء امواجنا نتحد مع المحيط ونكتشف وحدتنا معه ، وهذا الشعور العميق بالوجود لا يعني التخلي عن مواجهة التحديات الواقعية التوترية الذاتية والعامة ، بل يصبح العمل محررا اكثر من الدوافع المحض فردية ومحض شخصية ..  
 
كميل فياض
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق