مدارسنا أثمن ما نملك / الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى
2015-09-11 00:02:49
تشهد مدارسنا في الوقت الرّاهن حملةً لا تُخفي في طيّاتها أهدافًا مشبوهةً من سلطةٍ يمينيّةٍ متطرّفة، تسعى من حينٍ إلى آخر بافتعال أحداثٍ تحمل رسائل واضحة للمجتمع العربيّ عمومًا، وللمجتمع المسيحيّ خصوصًا. من بين هذه الأحداث، كتابة شعاراتٍ همجيّةٍ ضدّ المسيحيّين على أبواب الكنائس والأديار؛ ناهيك عن ما حدث مؤخَّرًا من حرقٍ متعمَّدٍ لكنيسة الطابغة، وصولًا إلى تقليصٍ فاضحٍ لميزانيّات مدارسنا المسيحيّة الّتي أنبتت الكثير من نُخَب مجتمعنا العربيّ برمّته.
لقد تمّ كلّ هذا من قِبَل مجموعاتٍ متطرِّفة إنْ حكوميّة أو شعبيّة، فكلاهما يُعبِّر عن حقيقةٍ واحدة لا غير: الفوضى الخلّاقة الّتي تهدف إلى إعادة صياغةٍ جديدة لشرائح المجتمع العربي، مبنية على "الإفراغ".
فماذا فعلت مدارسنا لتلقى هذه المعاملة غير العادلة؟
نعم، بكلّ تأكيد. لقد فعلت ما لا يستطيعون هم أن يفعلوه:
تعليمًا نوعيّـًا:
أمدَّت المجتمع بطاقاتٍ علميّةٍ هائلة حتّى كان من بين خرّيجيها الكثير من العلماء، الّذين كانوا وما زالوا طلائعيّي النّهضة العلميّة والتّكنولوجيّة الّتي طالت كافّة جامعات ومعاهد إسرائيل، حتّى ذاع في كلّ المسكونة صيتهم.
تربيّةً إنسانيّةً نوعيّة:
حافظت هذه المدارس على صِيَغ وحدة المجتمع العربيّ بمسيحيِّيه ومسلميه، فلم تُفرِّق يومًا بين عربيٍّ وآخَر، حتّى باتت رمزًا من رموز التّربية الوطنيّة الصّحيحة. ما نظرت لا بالأمس ولا اليوم ولا غدًا إلى الإنسان كشيء، بل نظرت إليه كقيمةٍ إنسانيّةٍ وإلهيّةٍ انطلاقًا من إيمانها بتعاليم معلِّمها الإلهيّ يسوع المسيح.
فهل بدأنا نَكتشف خيوط هذه المعاملة المُجحفة بحقّ مدارسنا، منارة بلادنا المشعَّة وأَكَمَتها النيِّرة؟ إنّها أثمن ما نملك، إذ لم يبقَ لنا سوى مؤسَّساتنا التربويّة وكنائسنا وأديارنا، حتى يظلّ وجودنا مستمرًّا في بلادنا، الّتي لن نهجرها مهما قست علينا الأيام.
ستبقى القدس منبع نضالنا وإيماننا وعقيدتنا وقوّتنا، فمنها نستمدّ الاستمراريّة في رسالتنا المسيحيّة في بناء الإنسان والمجتمع. فكما أنّ قيامة المسيح كانت بداية البشريّة الجديدة المفتداة، كذلك ستبقى مدارسنا المسيحيّة الحشا والحشى الّلذين يولِّدان بُناة هذا المجتمع وقيادييه وعلمائه وخُبرائه...
لذا، إنّ نضالنا هذا ليس نضاليًّا مسيحيًّا بحتًا، بل يجب أن يكون نضالًا وطنيًّا تشترك فيه كلّ أطياف المجتمع العربي، لأنّ القضيّة ليست قضيّة فِئَوِيَّةً تخصّ المسيحيِّين لوحدهم، بل قضيّةٌ وطنيّةٌ بامتياز. لا يُفكِّرنّ أحدٌ أنّ هذه القضيّة لا تعنيه لأنّه ليس مسيحيًّا! تيّقظوا واحذروا، لأنّ التّفرقة تُضعفنا وضياع الهدف يُشتّتنا عن الهدف الحقيقيّ من وراء هذه التحرّكات العنصريّة!
أمّا الّذين يقولون إنّ هذه السّياسة تهدف إلى إفراغنا من بلادنا، فأقول لهم: نعم، إنّها خطوة تصعيديّةٌ نوعيّةٌ وغير مسبوقة. لكنّ هذا لا يُخيفنا، لأنّنا نؤمن بربٍّ حيّ. هو الّذي سكَّنَ العاصفة الّتي كادت أن تُغرق جماعة التّلاميذ في بحيرة طبريا، وقال لهم: "لا تخافوا"؛ هو الّذي قام منتصرًا على الموت بموته، ووعدنا بأنّه سيبقى معنا حتّى انقضاء الدّهر.
وعليه، فإنّي أُبارك كلّ تحرّكاتكم العادلة ولا تُخفضوا أصواتكم ولا تتوانَوا عن المطالبة بحقوقكم كاملة. أعلم أنّ آذان الكثيرين مُغلقةٌ عن سماع صوت الحقّ، ولكن استمرّوا في إسماع أصواتكم للسّفارات الأوروبيّة والأمريكيّة، وعلى الفاتيكان أن يتدخّل بقوّته الدّبلوماسيّة لوقف هذه السّياسة الغاشمة ضدّ مؤسَّساتنا التربويّة، حتّى إنّي أقترح على قداسة البابا فرنسيس أن يُهدِّد هذه الحكومة المتعجرفة بسحب السّفير البابويّ من إسرائيل إنِ استمرّت في سياستها هذه.
وهنا لا يسعني إلّا أن أتقدّم من الأخ العزيز أيمن عودة، رئيس القائمة العربيّة في الكنيست بجزيل الشّكر على وقفته البطوليّة بما يخصّ ملف مدارسنا، فأنت يا أبا الطيّب تعطي صورةً حقيقيّةً عن أصالة مجتمعنا العربي. أمّا لقيادتنا الدينيّة فأقول: لا يكفي أن نُندِّد ونستنكر، فما أحوجنا في هذه الظّروف القاهرة إلى الوحدة ثمّ الوحدة ثمّ الوحدة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير