ليس مجرد واجب تجاه الورقة ..كميل فياض
2015-09-13 17:46:05
ليس مجرد واجب تجاه الورقة ..
يوقظني القلم لأحدثه ..
لأحفر به في اعماق الصمت ، استنطاقاً للجمال الذي لا اجده في هذا العالم ، واستجلاباً للخير الذي لا تمنع حدوثه عوامل من طبيعة او من بشر .. واستمالةً للحب الذي لا تفسده علاقات عابرة ومزاجية وقسرية ..
وانت .. انت تبحث عن ذلك ايضًا .. انت تبحث عن نفسك ايضًا، ربما في "الفيسبك" تكرر نفسك في مقولات ، في خواطر ، في نكات ، في .. في ظنون ، في تشكي وتظلّم واغتياب ، او انك تؤلف من توافه الناس ، او من مآسيهم شيء من إدهاش وإعجاب .. لكنك دائمًا تنظر الى نفسك بعد كل جهد ، فتجد انك لا تزال كما كنت منذ اول مقولة او قصيدة او نكتة او نميمة .. فارغ .. فارغ تمامًا الا من الحاجة نفسها (للعطاء والأخذ) .. لا تزال تشعر بالعطش نفسه وبالجوع نفسه بعد سنوات من ممارسة الكتابة ..
وقد تكون من الذين يبحثون عن انفسهم في كتابة اوسع وابعد مرامًا ، لكن ان يكن حلمك ابعد واعمق لا يعني انك تجد نفسك اكثر من اصدقاءك (الصغار) .. والأكيد ان صدمتك مع الواقع تكون اكبر وابعد ، ليس فقط عندما تريد رفع صوتك عاليًا - اعتقاداً منك ان لك صوت يجب ان يُسمع - فتجد ان الجدران تردد ما تقوله بصورة افضل من معظم العقول .. او حين تريد تحويل الكتابة الى مشروع اجتماعي ، فلا تجد مجتمع بل قطعان لا يربط بين رؤوسها سوى العلف والبرسيم ..
الصدمة تكون ربما اشد حين تقترب من مفارقة جسدك - من حيث كونك كاتب اجتماعي - انك اذن لفي ضياع مبين ، وإذ تحترف الكتابة قبل التعري الروحي ،اي قبل ان تعرف ان تصمت حتى يتحدث الله فيك ، انما انت تحترف الوهم ، وتغوص في الحلم لتظفر بالحقيقة ..
طيب انت تكتب أفلا تكتب لمن يقرأ بل لمن يقرأ ويفهم ، بل لمن يقرأ ويفهم ويتفاعل ، لكن لماذا تريد ان تصل الى ذلك اصلاً ؟! وانت تعترف انك لم تستكمل معرفتك لنفسك بعد ، بل ربما لم تبدئها ولم يخطر امرها على بالك ..؟!
في الواقع اذ أتعرض لمشكلة الكتابة لا اقصد لا المضامين هنا ولا الناحية الفنية والشكلية واللغوية .. بل اطرح الموضوع من وراء اشكالية اخرى ، هي أساس معاناتي يدخل في خلفية كل انسان ، كاتب وغير كاتب ، وقد لا ينتبه واحدنا الى جوهر معاناته في كل ما يسعى .. والسؤال ما الذي يمكن ان يملأ حياتنا ويشفي جراحنا العاطفية والفكرية ..؟ التجربة تقول لا شيء .. لا الكتابة ولا القراءة ولا الجنس ولا التمتع بالطعام والشراب ولا الكحول ، لا حفلات الهرج والمرج ، ولا السفر والترحال ما يأتي بالشفاء والامتلاء ..
وهناك من يظن انه وجد نفسه في الدين .. وفي الحقيقة يمكن ان يكون الدين طريقاً لإيجاد النفس ، لكن ليس في المعابد وفي تكرار الصلوات والطقوس والشعائر ، وليس في حفظ الكتابات الدينية ولا حتى في فهمها وفي شرحها .. بل في الله ذاته ولا في شيء سواه ، اذ هو فقط ما يملأ النفس ويجعلها تشعر بالاكتفاء والرضى ، حتى يلغيها فيه ويريحك منها في النهاية ..
لكن مرة اخرى ليس الله الذي اعتقله المؤمنون من جميع الاديان والمذاهب في معابدهم المختلفة ، بل في الحيّ ، وليس الحي الذي في بعض الاسماء والكلمات والاصوات والافعال .. بل الحيّ الذي في الحيّ ، الذي في كل شيء ، الذي يُرى ويتحقق بعين ما ليس مثله شيء ..
باختصار هناك طريقين لإيجاد النفس طريق لإثبات الأنا وآخر لنفيه ، وقد تكون من الذين يبحثون عن الانا من الطريق الذي تظن به نفيه ، وهي مشكلة جميع (القديسين) هي مشكلة المؤمن والمثقف والآدمي وكل ما يقابلهم .. هي مشكلة كل من لم يكشف حتى العظم عن حقيقة وجوده اولاً ، وأولاً يعني قبل ان يتكلم او يخط كلمة في الموضوع .. اذ معظم الفلاسفة فقط يحلمون ، وفي أحلامهم فقط يكتبون وفي احلامهم يقلبون العالم رأس على عقب .. ولكل من الطريقين - اثباتاً ونفياً – للأنا ثمناً باهظًا ..
اثبات الانا يكلف سعيًا لاهثاً حتى الموت ، لإقناع الآخرين بأنك جيد بل ربما الأجود ، وما تقدمه هو الواجب والجيد ، بل ربما الأوجب والأجود .. بينما الثمن الذي يقتضيك من نفي الانا يتمثل في السعي الدائم لإقناع روحك - اولاً وآخراً ودائمًا - بالتخلي عن العالم وعن كل شيء ، لتجدها كما هي بدون شوائب من دنيا ومن آخرة ، واذ ذاك تكون استيقظت ، وتكون قد اكتشفت العين التي تروي من عطشٍ وتغني من جوع .. ومالا يستطيع غير العارف فهمه ، هو ان الذي يفعل في كل شيء من وراء ستار الجهل هو المطلق الروحي الذي نسميه الله ، والمنقسم وهميًا في فكر الانسان الحسي بين خالق ومخلوق .. وحين يبلغ التوتر ذروته لدى الفنان يبدع ، وحين يبلغ التوتر اقصاه عند طالب العرفان ، يستحيل جُزءاً لا يتجزأ من المبدع لكل ابداع من وراء الحُجُب ..
كميل فياض
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير