لماذا لا يتم الادراك الروحي للإنسان بنفس بساطة الادراك الحسي ..؟كميل فياض
2015-10-03 16:02:26
عمومًا علاقة الناس بالروح علاقة اعتقادية ، المصدقون بوجود الروح يُسَمون مؤمنون ، وغير المصدقين ملحدون او علمانيون ..
وبما ان الروح لا يقع ادراكه باي من اعضاء الحواس ،اذ ليس هو غرض او موضوع حسي ،وبما انه غير محصور في زمان ومكان ، من حيث هو حضور دائم ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان ، لا يمكن التعامل معه كمعلومات يمكن تخزينها في الذاكرة وتناولها متى امكن كسائر المعلومات .. وبما ان الروح كائن لا زماني ولا مكاني فوجوده فينا وجود مباشر ، بل الوجود الوحيد المباشر ، وهذا دليل ان الروح هو ذاتنا ، وليس كائناً يحتمل الاعتقاد والايمان والحصر في تصور وفي تفكير ، اذ التصور والتفكير تجزيئ واقتطاع وإدخال في زمان ومكان .. وبالتالي فان معرفة الروح لا تُستمد من تجارب الماضي ولا تؤجل للغد ، فهي تقتضي حضوراً كليًا للوعي ..
اذن ليس الروح كائناً هلاميًا منفصلاً عن وجودنا وعن وعينا الأساس ،كما يتخيل الناس عمومًا ، بل هو الوعي الأساس فينا الذي هو وعي الوجود وليس وعي الشخص ، او وعي الأشياء والأفكار التي يتشكل منها الشخص ، كما يتشكل الغيم المضيء بضوء الشمس والمتلون بألوانها داخل نورها الشفاف ..
الفرق بين الادراك الروحي والادراك الحسي والفكري :
عندما تدرك شخص متواجد بجوارك ، يمكن ان تتصور لأول وهلة انك تدركه بشكل مباشر ، لكن هذا الشعور نابع من كونك تدركه داخل حضورك الروحي من وراء المدركات الحسية والذهنية والذاكرية بصورة لا شعورية لا واعية ، لكنك في الواقع انت لا تدرك اغراض الحواس - حسيًا وفكريًا - بصورة مباشرة فهناك وسائط كثيرة تدخل بينك - كروح - وبين موضوعات الادراك ، وتعمل على بلورتها من خلال حيثياتها ومكوناتها ، وبسبب تلك الاختلافات في مقاييس وانواع المدارك الحسية – مثلاً – بين الكائنات المختلفة ، يكون الادراك مختلفاً بينها كثير او قليل .. يختلف ادراك الاغراض الحسية بين انواع الحشرات ، ويختلف بين مختلف الحيوانات والطيور ازاء بعض الحواس او كلها .. فالإدراك البصري للإنسان يختلف حدة منه عند النسر مثلاً ، وحاسة الشم عند الكلب اقوى وهكذا ..
وسائط الادراك الحسي ومقوماته :
عندما تحدِّث اخاك او صديقك او زوجك وهو الى جانبك او قبالتك ، انت تعتقد انك تعرفه معرفة اساسية وتدركه بصورة مباشرة ، لكن في الواقع انت تدرك رموز وصور ونسب علاقات بين ذبذبات وأمواج طاقة ، تتشكل في وعيك في صورة شخص ذا اسم وقربة معينة وتاريخ علاقات وتجارب ومعلومات ، ولمعظمها تصورات سابقة في الذاكرة .. الادراك الحسي يتم عبر مراحل وانتقالات ، فبينك وبين من يوجد برفقتك وحضورك ،اعضاء حواسك ، والاعصاب التي تنقل المدركات الحسية ، والمخ الذي يتلقى المعلومات ثم يترجمها الى الوعي – غالبًا - حسب المعلومات الحاصلة من الماضي والموجودة في الذاكرة ..
وسائط اخرى تشترك في توصيل المعلومات عن الشخص الذي تحدثه ، بل هي ايضًا مقومات لوجود الشخص ولوجود حواسك واعصابك ومخك ، ليس مجرد وسائط .. وهي القوى الجاذبية والكهرطيسية وعوامل الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة الخ الخ ، كلها تشترك في صنع وفي بناء الشخص الذي تحدّثه ( هنا والآن) وتشترك في تمكين ادراكه ..
الادراك الروحي ازاء الادراك الحسي :
بينما الادراك الروحي لا يحتاج الى اي من تلك الوسائط الموضوعية ، ولا الى اي من تلك المقومات والقوى الخارجية .. اذ ان الروح هو حضور مطلق مباشر ، ولذلك فان اقامة علاقة واعية به ، تحتاج الى تجاوز للتفكير الذي هو آخر الادراك الحسي فيك ، ويحمل فيه صورة العالم الحسي بعلاقاته المختلفة متضمنة عنه بصور لا واعية .. فالإدراك الروحي حقيقة هو الإدراك المباشر الوحيد ، وهو الادراك الحي الحاضر والواعي الوحيد .. وبما ان الروح هو الكائن الواعي في ذاته، الحي البسيط الذي لا يتفكك ولا يفسد وهو سبب وجود ذاته بذاته لذاته ، فان سائر الادراكات ، كالإدراكات الفكرية والصورية المجردة والحسية العينية الملموسة ، تتم داخل الروح وضمن الوجود الروحي فقط ، ولا يوجد اي ادراك لشيء خارج الوجود الروحي .. ومن هنا فإن اهمية المعرفة المباشرة بالروح ينبغي ان ترتدي اكبر عناية من بين سائر المعارف والعلوم .. وهي في الواقع ابسطها واصعبها في آن ، فالروح كالعين التي تدرك بصائرها ولا تدرك ذاتها ، ولذلك شَبَّه حكماء "الزن" المعرفة بالروح كتصفيق بيد واحدة .. فالمعرفة العادية الحسية تتم من خلال ثلاث : ذات ، موضوع ، وواسطة او مجال بينهما ، في حين ان المعرفة بالذات او الروح ، تقتضي ان يكون الذات هو المدرِك والمدرَك وواسطة الإدراك في آن .. فلا يدرك الذات بواسطة او بمادة من خارجه ..
اين الله من الروح وما علاقته بها ؟
ان التصورات العقائدية الدينية لله تعتمد على الوسائط جميعًا بسبب الفهم الحسي الخالص للذات ، فكون الانسان في التصور وفي الوصف الديني جسداً ، فانه يقيم بين جهات وفوقه سماء والاله في السماء او وراء السماء من حيث ضرورة ان يكون هو الأعلى ، فيكتسب صفة العلو من المفهوم الحسي ومن الجهات المكانية ، ولذلك فان الانسان يحتاج الى وسيط يقيم علاقة وصلة بينهما ، ويوصل ارادة الاله له عن طريق التنزيل والوحي من فوق الى تحت .. بينما الله في الفهم المباشر هو الروح المطلق داخل وخارج الاجساد والافكار والتصورات والعقول والنفوس ، وهو في كل شيء وخارج كل شيء في آن ..
اما السؤال الذي يوجبه تداعي اشكاليات هذا الطرح ، هو كيف تم الخلق وهل الروح المزعوم هنا هو الخالق ؟ واذا كان الروح او الله كاملاً في ذاته لماذا يخلق ولماذا يحتاج للخلق ؟ في الحقيقة لم يكن هناك خلقاً بالمفهوم الذي صورته الاديان ،اذ الخلق جاء ويجيء نتيجة عرضية لا نتيجة ارادة الهية مسبقة مقدرة ، كعلاقة الغيوم وتكونها بواسطة الشمس وحرارتها ، دون ان يكون للشمس ارادة واعية بذلك ، وهي علاقة سببية موضوعية توحي بمنطق عقلي مسبق ، هكذا هي علاقة الروح بالمادة ..لا يوجد تشكيل مصمم من قبل ، بل الخلق كآثار صرصار على الرمل يترك نقشًا متناسقاً دون قصد وتخطيط لذلك من قبل الصرصار ، والفهم بان هناك خالقاً مُصمِّمًا للعالَم ،كالفهم بان الصرصار يقصد ان يترك آثاراً على الرمل، بصورة واعية بأصول الهندسة .. الخلق مطبوع بحركة الطاقة ذاتها كارتباط النقش بأرجل الصرصار ، ليس خلق العالم عملية منفصلة بين ذات وموضوع ، صانع ومصنوع ، بل هي كعلاقة بحر وامواج .. لكن الانسان المؤمن لا يستطيع ان يتصور الوجود بغير إلاه مدبر معتن رحوم فوقي مفارق مختلف منزه الخ .. وذلك بسبب ضعفه النابع من جهله النابع من تطابق ذاته الروحي مع الوعي الحسي والنفسي بالنتيجة ، وهنا يأتي دور المعرفة العرفانية التجاوزية للفصل والتمييز بها بين انواع المدارك المختلة ، التي تقف وراء المفاهيم المختلفة والمتضادة ..
كميل فياض
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير