جمل المحامل يا عليّ - بقلم:شهربان معدي
2015-11-20 08:56:48
جمل المحامل يا عليّ - قصة قصيرة بمناسبة يوم الطفل العالمي
عليّ صبيّ كبُر قبل أوانه! انخرط في عُمالة الأطفال السوريين الذين نزحوا للأرّدن بعد اندلاع الحرب الطائفية في بلاد الشام, عليّ أدرك أن نزوحه ليّس نزّهةٍ أو رحلة ! بل هروباً من حربٍ ضروس أودت بحياة والده وحوّلت بيّتهُ الكبير الزاخر بالحب والأماني العِذاب لكومة حجارة ! وأجّبرتهُ أنّ يعيش بخيمةٍ مُمَزّقة، هو ووالدته وأخواته القاصرات الثلاث وجدّته المُسنة !
عليّ الصبيّ حلو الملامح الذي كان يحلم أن يصبح طبيباً كوالده، تحوّل للمُعيل الوحيد للعائلة بعد رحيل الوالد لأنّهُ أدرك كباقي الأطفال السوريّين، الذين انخرطوا في ورشات عمل كثيرة وأحيانا شاقّة ومحفوفة بالمخاطر، بأن العمل هو الوسيلة الوحيدة الذي تؤمّن لهم مطالب أساسية في حياتهم الجديدة، التي اتسمت بالفاقة والحاجة والبؤس والتشرّد!
عليّ الصبي الذي حوّلته الصدمة والعزلة والمُعاناة، وهو دون الثانية عشرة الى رجل ، مارس الكثير من الأعّمال الحرة ، عمِل بتصنيف وتحميل الخُضار وهو الذي كان لا يعرف غيّر السلطات الشهية التي تُحضّرها والدته في بيّتهم الدافئ الذي تحوّل لأطلال!!
اشتغل بورّشات الحدادة والصيانة كالكثير من أترابه الصبية الذين رضوا بوسط عمل سيئ وظروف معيشية صعبة، مقابل أُجرة زهيدة ولطالما جلس في ساعات الفراغ بجانب الإشارات الضوئية ليبيع رقائق البطاطس ليشتري حفنة حلّويات وسكاكر، بالنقود القليلة التي ربحها ليعوّض أخواته عن طفولتهن المنقوصة وعن يدِّ والدهن الكريمة التي كانت تفيض بالخير والحب والحلوى!!
لم يُقلق علي لأن النقود القليلة التي كانت تتلقاها والدته من وكالة الإغاثة بالكاد تسد الحاجات الأساسية للعائلة...ولا دموعها الغزيرة التي لو شاءت لحاكت منّها شالات! ولم يقلقه لأنه ليس لديه أصّدقاء ولم يشفق على الساعات الطويلة التي هدرها على الأرصفة وفي الأسّواق بحثاً عن لقمة العيش، بدل أن يحمل قلما وكتاب!
هذا الاعتياد المؤلم الذي خدّره كما خدّر الآلاف من هؤلاء اللاجئين الذين انقطعت بهم سُبّل العيش بشكلٍ مُفاجئ وباتت حياتهم في حالة من التجمد الشديد ! ( بعد أن تبددت أمانيهم وضاعت ممتلكاتهم ومدخراتهم وحتى أصولهم في هذا الواقع الجديد...
ولطالما رددت جدّته بأسى:" الغربة مضيّعة ألأصل" كل ذلك لم يقلقه!
حتى أنّه رضيّ كباقي أفراد أُسرتهِ الصغيرة بوجبة التونة المًعّلبة والأرز التي كانت تتلقاها من وكالات الإغاثة، رغم أنّه في هذا السن الحرج يحّتاج لقفّازات حريرية، تمدهُ بتغذية صحّية سليمة تماماً كما تمدّه بالرعاية النفسية لكي يصّلب عوده ويشّتد !!
ولكن الذي أقلق عليّ (جمل المحامل) وضع أُخته جود ابنة الخمس سنوات التي أصيبت بالتلعثم والتبوّل الليلي بعد الصدمة التي تلقتها بعد قصف بيتهم الكبير ومصّرع والدها وهي حتى الآن لا تَقِرّ برَحيلهِ وما زالت تتحدّث عن الدمية الجديدة التي وعدها بأن يبتاعها لها في عيد الفطر السعيد! ولطالما ذرفت مقلتيها الدعجاوين عبراتٍ كالدرر، سالت على خدّها النضر لتوقد جمرات تلسع قلب عليّ الحنون، الذي وعدها بأن يشتري لها أجمل دمية من المدينة الكبيرة عشية عيد الفطر.
نهض علي مع ساعات الفجر الأولى صبيحة يوم العيد، وحمل صنّدوقه الكبير المُكدس بأكياس رقائق البطاطس وكان مزّمعاُ أن يبيعه في ساعات الصّباح الباكر ليشتري لأًخته دمية جميلة كان قد شاهدها في احد المتاجر في المدينة الكبيرة، قبل أن تختطفها يد أحدهم فاليوم عيد وكل الأطفال يحظوّن بشراء الهدايا والألعاب ولو كان يملك نقودا لأبتاع كل الألعاب التي في المتجر لأخته الغالية جود، ولكن ما باليد حيلة!
بدأ عليّ يسير في الشّوارع المزدحمة يميد به القلق ويجيش بصدّره الّهم, وتساءل: "اليوم عيد! فكيف سيُبدّل الاطفال الكعك المحشو بالعجوة والطعام الدسم برقائق البطاطس خاصته ذات الجوّدة المنخفضة! والماركة المجهولة" وجَهِد أن يتجاهل نظرات المارّة السادرة ! وليّتهم يدركون مدى حاجة علي للمال ليبتاع بهِ حُلّما وردياً يخفّف عن أخته جود بعض الآلام !
تجاهل علي الشمّس الحارقة التي كادت أن تذيب رأّسه، ومسح دمعةٌ عصيّة سالت على خدّهِ الأسّيل بيده الحرير، وكاد قلّبه ينّفطر عندما تذكر والِده الذي رحل وعائلتِهِ المُشتّتة! واستمر بالتجوال بالشارع الرئيس، حيث كان يلف ويدور حول الميدان الكبير ثم كان يعود للمتجر ليتأكد أن الدمية ما زالت مكانها...
وخُيّل إليّهِ وكأنها تنتظر يدي جود العاجيتين لكي تحتضنها...
ليس ثمّة أحدكم يستطع احتواء فرحة علي، الذي نجح في بيّع كيس البطاطس الأخير، ودسّ النقود الزهيدة التي جمعها بجيب بنطاله المُمزّق واتجه بسرّعة البرق نحو متجر الألعاب، ليبتاع لغاليته جود هدية العيد.
في قلبه المختلج فاضت ينابيع الفرح، عنّدما شاهد الدمّية الجميلة تبّتسم لهُ من خلال الواجهة الزُجاجية! ترجّل ودخل للمتجر، وهو يتحسس جيّبه المُهترئ ليتأكد أنّ محفظته ما تزال هُناك، ولسخرية القدر اكتشف أنّها اختفت! سقطت من جيّبه المُمزق!!
حتى أحلام الفُقراء تتمزّق كملابسهم المُهّترئة؟ مسكين أنت يا علي!
نظر حوله كالملسوع ولكن ثمة أثر لأي محفظة ! عاد أدّراجه يبحث عن محفظته البائسة، حوّل الميدان وعلى الشّارع الكبير المزّدحم بالسيّارات والمارة مؤملاً نفسه بأن يجدّها ولكنّه لم يجد إلاّ أضغات أاحلام....
ورغم خيبته التي بدت جليّة على محياه الوسيم لم يسّتسلم علي! وكيّف يسّتسلم وينكث بوعّده لأغلى جود؟
دلف الى المتجر الكبير وخاطب البائع العجوز وفي عينيّه رجاء ينطق وشرح لهُ عن مُصيبته وهو يكاد يذوب من الخجل والحياء، كيف لا وهو ابن العز والدلال الذي لم يحتاج يوماً أن يمد يد الفاقة والعوز لأحدهم! نظر إليّه الرجُل العجوز، صاحب الوجه الرّصين والقسمات الجّافة كمساء خريفيّ عابس...
وقال وقد تضخّمت أوّداجه: "الدفع قبل الرفع "وأرّدف قائلاً وهو يحدّق بِملابس علي التي تنم عن فاقة: كيف أُفرّط بدمّية باهظة الثمن لمُتسوّل لا أّعرف أصّله من فصّله!
يا لك من بائع خشبي القلب قال علي في سريرته ! اه لو تدّرك مدى حاجة أُخّتي جود لهذه الدمية التي ما هي سوى كُتّلة بلاستيك وخرقة قماش صغيرة لا تتجاوز كفّ اليد!
حاول علي أن يرمم زُجاج حُلّمه المكسور مرّة أُخّرى طالِباً من البائع بإصّرار فاضح أقّرب إلى التوسّل أن يمّنحه الدمية , مقّسما أنّه سينقده ثمنها و"شوية زيادة" في الغد القريب! ولكن هذا البائع الصلف, ارتأى أن لا يسّمع كلمة واحدة , متظاهِرا بأنّه مشغولاً بترتيب الألعاب القليلة التي بعّثرتها يد الصِغار , عندئذ انقض علي على الدمية الصغيرة كالصقر الجارح الذي ينّقض على فريستهِ من المُرّتفعات العالية! وهرّول مسّرِعا يعدو كالعاصفة بين المرّكبات المسرعة, متجاهلاً الإشارات الضوئية الحمّراء وصُراخ الرجل العجوز: أمّسكوا اللص! اقبضوا على السارق!
شعر علي وكأنّه يُحلّق في السّماء، وكأن العالم بأسّره انمحى وزال من حوّله, كان لا يرى غير يديّ أخّته جود تحتضِنان الدمية وضحّكتها البريئة تصّدح بعث الأرض والسّماء...أحبك يا علي...أحبك ...
بالقرب من الميدان، تماماً أمام التّمثال الحجري الكبير الذي يتوسّط الميدان والذي يرمز للحرية والعيش الكريم! سقط عليّ...
بُحَّ الطيّر الغريد وذبُلت ياسمينة الشام! وعلى الشارع الرئيس سقطت الدميّة الصغيرة لتحولها عجلات المركبات لأشلاء مبعثرة بعد أن إن درست ملامحها الآدمية... اه يا ولدي يا عليّ! أنت لم تسلِب أرّضاً ولم تَمِسّ عرضاً، أَردْت فقط أن تشتريَ لأختك حفّنة فرح! يا ولداه يا عليّ...
توقفت حركة السير فجّأةً، صَفّرَت المراكب, سألوا ابن من؟ ولم يجب أحد! ليس ثمة أحد يعرف اسم هذا الصبي الغريب! سِواه !
أُعّلن عن موْت في الميدان...يا ولداه يا عليّ...لم تمسد شعّرك أم! أو يسبل جفنك والد! يا جمل المحامل يا عليّ....صدّرك الصغير قد همد ويدك الكريمة احتضنت الرصيف، بدل أن تحتضن فرّحة العيد ! اه يا علي , هل آن الإوان لأقّدامك التي تشرّدت كثيراً أنّ تستكين !ولنجّمك الساطع أن يأّفل ! أدّغشّتَ كثيراً يا عليّ!
أقّبلت سيّارة بيّضاء , أخَذت الصبي الغريب وبقيت أشّلاء دُمّية مبعّثرة بيّن الشارع والميدان.
ملاحظة: القصة مُهّداة لهّؤلاء الأطفال الذين كان يجب أن تكون رؤوسهم مرّفوعة لتحدّيات العصر! وقلوبهم مفّتوحة لطيّب العيش ! هؤلاء الصبّية والبنات الذين كدّرت صفّو أيامهم وسرقت رموز طفولتهم هذه الحرب الطائفية الضارية, التي لم تدرك أنّها فرّطت في خيرٍ لن يرجع وبذّرت في ثروة لن تعود.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير