هل سيبقى "الميدان" في الميدان؟ د. حاتم عيد خوري
2015-11-20 10:38:10
ارادت هيئةُ مؤسسي مسرح الميدان، وكان لي شرف المساهمة في عضويتها، قبل اكثر من عشرين سنة، ان يكون هذا المسرح المتوخى قاعدةً، او قُلْ ركيزةً عربيةً ثقافيةً فنيةً مستقرة، ترتكز بدورهاعلى ثلاث دعائم ثابتة متكاملة، هي: (اولا) وزارة الثقافة، (ثانيا) السلطات المحلية في قرانا ومدننا العربية وفي المدن المختلطة ايضا، كحيفا ويافا واللد والرملة وعكا ومعلوت ترشيحا وغيرها، (ثالثا) الجمهور العربي بصورة عامة.
لقد كنّا ندرك جيدا أنّ إستقرار هذا الجسم الثقافي وثبوته وتطوره، مرهونٌ بركائزه الداعمة، فغياب أيّ منها او تقزيمه او تقزّمه ذاتيا، سيؤدي حتما الى ضعضعة إتزان المسرح إيذانا بسقوطه وانهياره، او سيصبح في احسن الحالات أعرجَ بعيدا ومُبْعدا عن مجاراة اصحاب اللياقة الثقافية، إن لم يكن متسوّلا على قارعة طريقِ الحضارة، يستجدي الحسناتِ ويجمع الفتات المتساقطة عن مائدة اللئام. لقد تصورتُ، ربما تحت تأثير حبّي وإعجابي بالمسرح البريطاني اثناء إقامتي الطويلة في لندن، انّ مسرحا يرتكز على وزارةِ ثقافةٍ تعْتمرُ مبدأ المساواة وتحترم حرية الرأي والابداع، وعلى سُلطات محليّة تدركُ انّ تنمية الثقافة لا تقلّ اهميةً عن إزالة القمامة، وعلى جمهور عربيّ مُميّز كمّاً (مليون ونيّف) وكيفا(يزخر بالكفاءات)، اقول لقد تصورتُ ان مسرحا كهذا سيتجذر وينمو ويترعرع  ليصبح دوحة نستظل بها ثقافيا كبيتٍ دافيء لفنينا المعروفين الذي فرضوا مكانتهم بجدارة واستحقاق على المسرح العبري، وكمدرسةٍ تحتضن فنانينا الناشئين وكدفيئةٍ تنمّي المواهبَ الفنية المكتشَفة الواعِدة وكمصدرٍ لمتعةٍ روحية يبحث عنها المشاهدون حاضرا ومستقبلا.
واليوم، وبعد مرور عشرين سنة على تأسيس مسرح الميدان، أتساءل مرة اخرى هل  تصوري تحقّق أم بقي مجرد حلم وردي؟ وهل الواقع الموجود يجسّد الاملَ المنشود؟ قد تختلف الاراء بهذا الصدد وقد تتباين المواقف، لكني اعتقد ان هناك اجماعا بأن مشكلة مسرح الميدان الاساسية كانت وما زالت القضية المادية التي اعاقت تطوّرَه وكبحت انطلاقتَه وقزّمت برامجَه وها هي تجعله اليوم يقف على شفا الهاوية  وعلى عتبة الاغلاق والغياب نهائيا عن الساحة الفنية.
إن الدعم المالي الذي حصل عليه مسرح الميدان من وزارة الثقافة، في السنة الاولى لتأسيسه (1995)، كان نحو ثلاثة ملايين شيكل. غير ان هذا المبلغ اخذَ بالتراجع سنويا، رغم غلاء المعيشة وانخفاض القيمة الشرائية للشيكل، ليصبح في السنة الماضية(2014) مليون وربع المليون شيكل فقط. وفي حين كان المسرح يتوقع وينتظر زيادةَ الدعم المالي من وزارة الثقافة، في السنة الحالية(2015)، صبّت عليه تلك الوزارة المستنيرة جامَ غضبِها لأنه تجرأ على عرض "مسرحية الزمن الموازي"، وقذفته بقرارها المجحف القاضي بتجميد الدعم المالي كليّا.
عبثا حاولَ مسرحُ الميدان جاهدا ان يُثبت لمعالي وزيرة الثقافة، بالدليل المحسوس، سمعا ونظرا، ان مسرحية الزمن الموازي براءٌ ممّا ينسبه اليمينُ الاسرائيلي اليها، كما رُفضت ادلةُ المسرح الدامغة حتى عندما قدّمَها المسرحُ الى السيدة الوزيرة في "سلةٍ ثقافية" حملتْها الى معاليها "مديرةُ السلة" بالذات. فرمت معاليها السلة َ في وجه المسرح وطيّرت المديرة.
لكن عندما قال المستشار القضائي للحكومة السيد يهودا فاينشتاين، بأنه لا يحقّ لوزارة الثقافة أن تعتبر مضامينَ العملِ الفنيّ مقياسا لتقديم الدعم المالي، سارعت وزارةُ الثقافة فاستلّت من جعبتها تهمةً جاهزةً اخرى هي "حصول مسرح الميدان على تمويلٍ من جهات معادية".  وعندما دحضَ المسرحُ هذه التهمة ايضا، أطلّت عليه "اوركسترا"  كاملة يقودها ذات المايسترو الخفيّ، مؤلفةٌ من مسجّل الجمعيات ومن ضريبة الدخل، ناسين ومتناسين ان مسرح الميدان يتعامل بالكلمة الموثقة المكتوبة وبالارقام الواضحة التي لا لبس فيها، بدليل انه يحصل سنويا، وبالتحديد منذ سنة 1998، على شهادة الإدارة السليمة من هذين الجسمين بالذات. وهكذا تمكّن القائمون على المسرح من تبديد كافة علامات الاستفهام التي حاول وضعَها ابطالُ الاوركسترا، وان يعطوا الاجابات الكاملة المدعّمة بالوثائق والارقام. 
لكن ما ان لفّت تلك الاوركسترا ذيلَها وانسحبت خلف الكواليس، وإذ باصحاب قاعات المسرح، يطلون على المنصة مطالبين إدارة المسرح بدفع إيجار القاعات. علما بانهم يعروفون جيدا أن إيجار القاعات كان يُدفع منذ سنة 1995 من بلدية حيفا مباشرة، كقسمٍ من الدعم المالي السنوي الذي تقدمه البلدية الى المسرح، هذا الدعم الذي قررت بلديةُ حيفا تجميدَه تحت تأثير اعضاء يمينيين متطرفين من الائتلاف البلدي، تماثلا مع موقف وزارة الثقافة. لم يتجاوب اصحابُ القاعات مع طلب المسرح بالتريّثِ ريثما تُحلُّ الازمة، إنما سارعوا لاستصدار أمر حجز على ممتلكات المسرح، تمهيدا لإستصدار أمر إخلاء القاعات أي زوال مسرح الميدان نهائيا. وفي هذه الحالة، وكما كتبتُ قي سياق آخر، لن تقوم في تقديري، قائمةٌ لهذا المسرح في غضون العقود القليلة القادمة، اي ريثما يعيد التاريخ نفسه فتتزامن ذات الظروف التي كانت قد توفرت لمسرح الميدان لدى تأسيسه، حيث كانت المرحومة السيدة شولميت الوني وزيرةً للثقافة والسيد عمرام متسناع رئيسا لبلدية حيفا.
إزاء هذا الوضع المحرج جدا، الذي فرضتْه على المسرح وزارةُ الثقافة وبلديةُ حيفا، وامام هذه الضائقة الحقيقية، كان لا بدّ لمسرح الميدان إلا أن يستصرخ اقرب الاقربين اعني السلطات المحلية العربية والجمهور العربي بصورة عامة، في بيان مؤثر موجَّه الى الراي العام، يوضح فيه بأن "مسرح الميدان بأمسّ الحاجة للدعم الماديّ" وذلك "من خلال شراء عروض لمسرحية الزمن الموازي ومسرحية 1945، او دعمنا ماديا مباشرة، لمساعدتنا في الصمود والتصدي.." ومعربا عن "أمله بجماهيرنا وشعبنا، الذين لن يقبلوا بإغلاق احد روافد فنّنا وثقافتنا".....
تجاوبَ البعضُ من ابناء وبنات "جماهيرنا وشعبنا" مع البيان، وهبّوا لنجدة "الميدان" وتجمعوا في قاعته. وهناك أطلقت شعاراتُ التأييد والقيت خطاباتُ التنديد، أمّا مجموع عدد السلطات المحلية العربية والجمعيات والمؤسسات والافراد الذين اقبلوا على شراء عروض مسرحية أو تقديم دعم مالي، كان اقل من عدد اصابع يد واحدة. وهذا ذكرني بالشاعر ابراهيم طوقان الذي قال مخاطبا الزعامات الفلسطينية:
            "واجتماع منكم يردّ الينا       غابر المجد من فتوح أميّة"
           "وخطاب منكم يعادل جيشا                   بمعدات زحفه الحربية"
كما جعلني في حينه، اكتبُ مقالا بهذا الصدد بعنوان "مسرح الميدان ما بين طقّ الحنك وطقّ الجزدان!" اختتمته بقولي: "فهل سنهبُّ اخيرا لدعم هذه المؤسسة الجماهيرية العربية وإنقاذها ممّا يُحاك ضدّها، أو ان تأييدنا ونضالنا سيتوقفان عند حدود طقّ الحنك فقط، بدلا من طقّ الجزدان ابضا؟". وكما يجعلني الان أتساءل: "أبعد كل هذا، هل هناك من يستغرب ان الهيئة الادارية لمسرح الميدان، وقد لمست هشاشةَ الدعم العربي، قد تقدمت بالتماسٍ الى المحكمة المركزية ضدّ بلديةِ حيفا والى المحكمة العليا ضدّ وزارة الثقافة، سيّما الان بعد ان اقرّت المحكمةُ المركزية قبل بضعة ايام، صدقَ إلتماس المسرح وامرت بلديةَ حيفا بدفع مستحقات المسرح فورا ؟".
Hatimkhoury1@gmail.com
 
     
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق