التسامُح بقلم الشيخ رياض م . حمزة
2015-12-09 13:01:01
عندما نريد أن نتحدث عن التسامُح لا بُد لنا مِن أن نعلم أنهُ يعتبر أحد ركائز وأعمدة المبادئ الإنسانية . وهو مِن الأمور المطروقة في الدين بشكل واضحِ ملموس ومحسوس , وهو يعني نسيان ما أصابنا ويصيبنا مِن مشاكل ومصائب ومصاعب وهموم بكامل إرادتنا . وهو أيضاً التخلي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين أو الانتقام لأيّ سببٍ على ما قد حدث لنا , قريباً كان أم بعيدا , وهو توجيه قويّ الى أن نفتح أعيننا لرؤية مزايا النّاس الايجابية الحسنة , عوضاً عَن أن نحكم عليهم ونحاكمهم , أو نُدين أحداً منهم بسبب غلطةٍ أو زلةٍ أو فعلةٍ ارتكبها بحقنا أو بحق أحدنا أو أكثرنا أو جميعنا .
والتّسامح أيضاً هو الشّعور بالرّحمة , والتّعاطف , والحنان . وكلّ هذا موجود في قلوبنا , وتفعيلهُ مهمٌّ لنا ولهذا العالم البشري من حولنا .
والتسامح أيضاً أن تفتح قلبك للغير , وأن لا يكون عندك شعور بالغضب , ولا لوجود المشاعر السلبية تجاه أي شخصٍ ممن هم حولك وأمامك . وبالتسامح تستطيع أن تصل الى النتيجة البديهية المعطاة في الكتب السماوية الكريمة والتي تجزم بأن جميع البشر يخطئون , وبأنه لا بأس أن يخطئ الإنسان , شريطة أن يُكفِّر عن خطئهِ بالاعتذار ممن أخطاء تجاهه والاستغفار مِن الله , عل الله أن يغفر له , وهو الغفور الرحيم .
والتسامح في اللغة معناه أيضاً التّساهل , وبالتّسامح مع الآخرين كأنك تطلب من الخالق أن يسامحك ويغفر لك ما ارتكبته من زلّاتٍ وأخطاء دون أن يأتي طلبك هذا اليه تعالى , بالشكل المباشر .
والتّسامح هو العفو (العِفةُ) عند المقدرة , وعدم ردّ الإساءة بالإساءة , والترفّع عن الصّغائر , والسُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية . والتّسامح كمفهوم أخلاقيّ اجتماعيّ دعا إليه كافّة الرّسل والأنبياء والمصلحين الأتقياء , لِمَا له من دورٍ وأهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتعاضد وتماسك المجتمعات , البدائية والحضارية على حدٍ سواء , والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات . وهو (التّسامح ) يعني احترام ثقافة وعقيدة وقيم ومبادئ الآخرين , وهو ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان والديمقراطية والعدل والحريات الإنسانيّة العامّة .
وليس التّسامح فقط من أجل الآخرين , ولكن من أجل أنفسنا وللتخلّص من الأخطاء التي وقعنا بها , والإحساس بالخزي والذنب الذي يُعشش في داخلنا . التسامح في معناه العميق هو أن نتسامح مع الآخرين ونسامحهم كي نستطيع أن نسامح أنفسنا .
كم هي عظيمة تلك النّفوس المتسامحة التي تنسى إساءة من حولها لها , وتظلّ تمتصُ حماقاتهم وأخطاءهم , لا لشيء سوى أنها تحبّهم حبّاً صادقاً يجعلها تُشْفِق عليهم مِن حماقاتهم تلك , مُعتبرةً أنه لا يوجد إنسان خالٍ مِن الخير مُنعَدِمَهُ , وأن كل ما يحتاجه ذاك الانسان هو البحث عن المُخَلِّص ليبحث عن ذلك الخير فيُظهرهُ لصاحبه وللناظر على السواء , ولهذا فهي تعذرهم عندما يُخطئون , لأنّها تضع في اعتبارها أنّ من يسيء لغيره قد يكون يعيش ظروفاّ صعبةّ أدّت به الى أن يسيء لمن حوله , وعندما يجد من يعذره ويتسامح معه ويتغاضى عن زلّته فانه لا بدُ سيندم على ما فعل , ولا بُد مِن أن يعود الى الصراط المستقيم , إما خجلاً مِن المسامحِ له أو هداية مِن الله سبحانهُ ..
فالتّسامح قد يقلّل كثيراً من المشاكل التي تحدث بين الأقران والأحبّة , لسوء الظّن أو عدم التماس الأعذار وقبولها , وقد يكون الشخص المَدين لك صديقك وأخاً لك , أو غير ذلك . وبغير قصدٍ , ولتصرّفٍ صدر منه خطأً , قامت الدّنيا ولم تقعد ! , وبدأ الشّيطان يوسوس هامساً في أذنك قائلاً : " لا بدّ بأنّه فعل ما فعله معك لأنّه يريد أن يسيء اليك " , أو " لابد أنه قال كذا وهو يقصد كذا " , والواقع أنهُ لم يقل تلك الكلمة أو يفعل تلك الفعلة لشيء ولا لسبب , إنّما خرجت من فمه أو صدرت عنه دون قصد. لذلك نقول أنه علينا أن نزن كلماتنا قبل أن تخرج من أفواهنا لأنّ الكلمة كالرصاصة , إذا خرجت لن تعود , والفعلةُ إن خرجت الى حيِّز التنفيذ يصعب محو آثارها مهما استعملنا مِن " المساحيق " .
ولكي تُصبح نفوسنا عظيمةً كتلك النّفوس العظيمة , صافيةً شفّافةً لا تعرف الأحقاد ولا تحوي سوى الحبّ والإخلاص , يجب علينا أن نكون مِن المتسامحين المسامحين المحبين المخلصين , فتلك النّفوس حقّاً هي الّتي تستحقّ أن تُقدّر وتُحترم , فهي تأسر القلوب من أول نظرة , لأنّها صدقت مع الله سبحانهُ , ثمّ مع نفسها , وبالتّالي مع جميع الخلق .
إن الذات السلبية في الإنسان هي التي تغضب وتَحُثهُ على الأخذ بالثأر , وهي التي تعاقب . إن الطبيعة الحقيقة للإنسان هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين .
وقد يرى البعض أن التسامح انكساراً , وأن الصمت هزيمة , لكنهم لا يعرفون أن المُتسامح يحتاج الى قوةٍ أكبر من القوة التي يحتاجها طالب الانتقام مِن أجل تنفيذ ميولهما , وأن الصمت أقوى من أي كلام قيل أو يقال . والأمثلة على ما للتسامح مِن قوة جبارة , كثيرة كثيرة , ومنها بذكر القليل القليل :
• المثل الإنجليزي يقول : " أشرف الثأر العفو "
• أما الامام علي بن أبي طالب ك , قال : " أعقل الناس أعذرهم للناس " .
وأختم بمِسك ختام هذا الكلام مُعتمداً كلام السيد المسيح عليه السلام , حين قال :
" سمعتم أنه قيل عينٌ بعينٍ وسنٌ بسن , وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر , بل من لَطَمَكَ على خدك الأيمن فحول له الآخر (خدك الأيسر) أيضا " .
جعلنا الله وإياكم مِن المتسامحين المسامحين الذين لِمَرضَاته تعالى , طالبين مُبتغين نائلين . تسامحوا يسامحكم الله سبحانه وتعالى .
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير