إنْ شــاءَ اللـه د. حاتم عيد خوري
2015-12-25 10:31:38
عندما أنهيتُ مقالي السابق (الدجاجة المتدينة) متسائلا: "هل مقولة "إن شاء الله" تكشفُ دائما حقيقة مشاعرِنا وجدّية وعودِنا وتحدّدُ منسوبَ صدقنا وصراحتنا؟"، كانت تتبادر الى ذهني قصة الاستاذ فهمان.
كان الاستاذ فهمان من اوائل خريجي دار المعلمين العرب في يافا، فتمّ تعيينُه مديرا لمدرسة قريته التي كانت آنذاك(اواسط الخمسينات من القرن الماضي) قرية ً زراعية بعيدة عن التطور، زراعتُها تقليدية بدائية تعتمد على الثيران في فلاحة الارض وعلى الحمير والجمال كوسائل للنقل، اما الاضاءة فبواسطة قناديل الكاز، والتدفئة على الحطب، ومياه الشرب من آبار تُجمع فيها مياهُ الامطار. جميع اهل القرية منهمكون في حقولهم. يتركون القرية صباحا ويعودون اليها في ساعات المساء، كقوافل منفصلةٍ قوام ُ كلٍّ منها: فلاحٌ يمتطي ظهر حماره، وامامه ثيرانه، وخلفه جمله مقطورا بالحمار.
كان الاستاذ فهمان مُحبّا لقريته، غيورا عليها ومتحمّسا لها ومُدرِكا لأهمية إقامة مجلس محلي يرعي شؤونها ويُشكّلُ رافعة لتطوريها. ومع ذلك، عندما اعلنت وزارةُ الداخلية في مطلع الستينات عن الانتخابات الاولى للمجلس المحلي، تردّد الاستاذُ بشأن ترشيح نفسه، وذلك تحسّبا منه بأنَّ هذه الانتخابات ستكون على غرار ما حدث في القرى العربية الاخرى، انتخاباتٍ حمائلية ً، وبالتالي فهو لا يستطيع ان ينافس مرشحي الحمائل الكبيرة وفي مقدمتهم ابو جميل المعروف بلقب "مختارالحاكم". يقول الراوي بهذا الصدد، أنّ ابا جميل قد "فاز" بهذا اللقب المشبوه، لان الحاكم العسكري كان قد عيّنه مختارا نكاية ً بالمختار الانتدابي السابق الذي رفض أن يكون مخبرا وعميلا للحاكم العسكري.
صحيح أن الاستاذ فهمان تردّد في بداية الامر، إلا أنه ما لبث أن صمّم على خوض المعركة الانتخابية، فقرر ترشيح نفسه على رأس قائمة عضوية، طمعا في تشكيل ائتلافٍ ينتخبُه رئيسا للمجلس المحلي، إذ لم يكن آنذاك انتخابٌ مباشر للرئيس كما هو متبع اليوم. هذا التغيير في موقف الاستاذ فهمان، قد جاء، كما قيل لي، نتيجة ً لمداعبات اثنين من زملائه المعلمين الاغراب، حيث قال له احدُهما: " يا أستاذ فهمان، كل شي في بلدكم زفت الا الشوارع". أما الثاني، الذي كان معلما للعلوم، فلقد قال: "أنا بدي استقيل". ذهِلَ الاستاذ فهمان من هذا التصريح غير المتوقع ابدا، وقبْل ان يسأل : "لماذا تريد ان تستقيل؟"، تابع معلم العلوم حديثَه قائلا: " نعم، انا بدّي أستقيل، لأنني كذّاب". فسأله الاستاذ فهمان مندهشا: "كذّاب!! كيف يعني كذاب؟". فاجابه المعلمُ قائلا: "أنا أعَلّمُ دائما، أنّ الماء سائل لا طعم له ولا لون ولا رائحة، والمياه في قريتكم لها طعم ولها لون ولها رائحة". ضحكَ الاستاذ فهمان مقهقها، لكنه ما لبث أن قال بينه وبين نفسه: " والله صدق من قال ان مزحَ الرجالِ جدّ. فشوارع بلدنا ترابية وضيقة ولم تذق طعم الزفتة (التعبيد) في حياتها، أما نوعية مياه الشرب، خصوصا في مطلع السنة الدراسية أي قبل تساقط امطار الشتاء، فهي حقيقة ً في وضع يُرثى له". هذه المداعبات أثارت روحَ التحدّي لدى الاستاذ فهمان. أمّا ما حسمَ الموقفَ نهائيا لصالح ترشّحِه، فكان الخبر المثير الذي تناقلته ألسنةُ اهالي القرية، ومفاده ان "مختار الحاكم" قد قام بزيارة سرية الى بيت قريبه ابي شاكر، طالبا تأييده ودعمه، ومصرّا ان لا يشرب القهوة إلا إذا أخذ وعدا قاطعا من ابي شاكر. كان ابو شاكر معروفا بصدقه وجرأته وصراحته التي لا تساير احدا، فقال لمختار الحاكم: "خليني أحكيلك القصة التالية:
فلاح بسيط مثل حالتي، قرر بعد أن تقدّم بالسن، وساءَ وضعُه الصحيّ، أن يحاسب ضميرَه ويعتذر الى كل الذين أساء اليهم بما في ذلك كلبه وعنزته وبقرته وحماره وجمله. قَبِلَ الجميعُ إعتذارَه باستثناء الجَمل الذي قال له: "أنا اسامحُك يا صاحبي، بتَعَبي وبعطشي وبجوعي، لكني لن اسامحَك ولن اغفر لك ذنبا رهيبا بحقي، وهو أنك كنت تقطرني (تربط رسني) بالحمار وبالتالي جعلتَ حمارا يقودوني على امتداد سنوات طويلة". يقول الراوي، أن مختار الحاكم فهِمَ الرمزَ "المشبرح"، فلم يشرب القهوة وغادر بيت مضيفِهِ ابي شاكر غاضبا....هذه الحادثة جعلت الاستاذ فهمان يقول لزوجته: "أنا شايف ان عهد العائلية والحمائلية قد أفلَ، وان الوعي قد غزا بلدتنا أيضا، ولذلك قررتُ ان أخوض المعركة الانتخابية".
أعدّ الاستاذ فهمان برنامجا إنتخابيا راقيا مطبوعا على ورق لامع، تضمّن إنارةَ القرية بالكهرباء ومدَّ خطوط مياه ومجاري وتلفون، وإقامة َ نوادٍ للشبيبة وللمُسنّين الخ....كما قرّر ان تكون حملتُه الانتخابية هادئة ومباشرة ومنظمة، فوضع برنامج زيارات للبيوت، لعرض برنامجه الانتخابي ولكسب تأييد الناس، خصوصا وانه لم يكن من عائلة كبيرة. إستهلَّ نشاطه بزيارة دار ابي يوسف الوجيه المعروف، حيث قوبل بترحاب كبير وحظي بإصغاء كامل. إستبشرَ الاستاذُ خيرا خصوصا وان ابا يوسف "يمون" على عشرين صوتا. تنحنح الاستاذ في نهاية الزيارة ، وسأل مضيفه: "هل سأنال تأييدكم يا ابا يوسف ؟". فاجابه ابو يوسف مبتسما: "إن شاء الله".
إستمدّ الاستاذ فهمان من هذه الزيارة، قوةً ومعنوية ً جعلتْهُ يتابع زياراتِه الى بيوتٍ أخرى أحسنت هي ايضا استقباله والترحيبَ به، وكالت له وعودَ التأييد المشروطة، والأصح المُختزَلة، في معظم الحالات، بتعبير "إن شاء الله"...قال الاستاذ مطمْئِنا نفسه: "طالما أن التأييد معتمد على مشيئة الله، فإن هذه الاصوات هي أصوات مضمونة، وبالتالي فلا خوف على القائمة"، ثم أضاف متسائلا :"ولماذا لا يشاء الله؟ فنيتي حسنة وقصدي شريف ويدي نظيفة". ومع ذلك كان الاستاذ فهمان ينتظر يوم الانتخابات بمشاعر مشحونة باطمئنانٍ تعتريه احيانا بعضُ الظنون المشوبة بقلقٍ نابعٍ من مقولة طالما رددها أمام تلاميذه "عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان ". لكنه عندما كان يمعن النظر في "سجل الاصوات المضمونة" الذي اعدّه، كان يشعر بموجة إطمئنان غامرة، فأبو يوسف الوجيه 20 صوتا، وابو يعقوب الحداد 26 صوتا ، وابو طارق النجار 18 صوتا وهكذا الخ ..... والمجموع 228 صوتا اي 28 صوتا فائضا عمّا تحتاجه القائمة للنجاح....
واخيرا وصل يوم الانتخابات، وجرى الاقتراع في اجواء هادئة مميزة، واقفِلَ الصندوقُ وابتدأ فرز الاصوات...وفي حين أخذت الاشاعات حول النتيجة تتسرب عبر همسات وغمزات، الى الجمهور المحتشد حول مركز الاقتراع، كانت زوجة الاستاذ فهمان، قابعة في البيت مع اولادها الصغار، منقطعة عن المستجدات، متلظية على نار الانتظار لمعرفة النتيجة، وإذ بالاستاذ فهمان يدخل ضاحكا. هبّت اليه تحتضنُه قائلة: "مبروك، ربحت القائمة؟". فاجابها، وقد عادت الى وجهه جدية ٌ إقتضاها الموقف: "طبعا ربحَت بس خسرَت. ربحْنا مئة وخمسين صوتا من صنف "إن شاء الله" وخسرنا الانتخابات". فسألته مذهولة: "إذن على ايش بتضحك". قال لها: " اضحكُ على حالي، لاني صدقتُ أنَّ "إن شاء الله" تعني في قاموسنا الاجتماعي "إن شاء الله فعلا"....
فهل تغيّرْنا؟ قولوا معي "إن شاء الله".....
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير