ألحسد .. بقلم: كميل فياض
2016-03-30 00:25:01
هناك نوعين من المشاكل التي تعرقل حياة الناس ، ذاتية وموضوعية ، والمشاكل الموضوعية يمكن ان تصبح اقل حدة اذا ما كشفنا عن طبيعتها وعن اصلها .. وقد يكون عدم الفهم من المشاكل الموضوعية ، كذلك النسيان ، عدم الرؤية ، العجز عن الاختيار الخ .. لكن على الغالب مشاكل الناس ، صراعاتها حروبها – ان على المستوى النفسي وان على المستوى المادي – نابعة من الذاتي لا الموضوعي ، ويبدو ان مشاكل الانسان هي مشاكل اخلاقية تحديداً ونفسية عمومًا ، والخلفية هي الحسد ،الكراهية ،التعصب ،التعالي ، رفض الآخر.. ومصدرها جميعها الأنا ، ومصدر الأنا هو الجهل بحقيقة الذات .. ومن هنا فان الكشف عن حقيقة الذات هو بداية التحرر من كل ما سلف ..
لماذا (أختار) الحسد هنا من بين الظلمات الاخرى .. صحيح هو من اقارب الحقد والكراهية والتعالي .. الحقد هو غضب كامن ينتظر من صاحبه - اذا كان شجاعًا بما فيه الكفاية - الفرصة للتدمير ، او ينتظر من غيره - اذا كان جباناً ليقوم بمهمة التدمير نيابةً عنه .. وحقد الجبناء أسوأ واكثر فتكاً من حقد الشجعان ، ولأن معظم الحاقدين جبناء ، فان حقدهم غالباً لا يخرج الى حيز التنفيذ ، بل يترنخ ويحول في القلب ويتحول الى حسد ..
واذا كان الحقد هو رغبة لتدمير الآخر ، فان الحسد هو عدم رغبة في رؤية الخير والجمال والفلاح لدى الآخر ، ولذلك ترى الحاسد لا يَذكُر محاسن زملائه واصدقائه وذويه ،واذا ذُكِرت في حضرته يتضايق ، بل يحاول التعتيم عليها او تجاهلها ، اعتقاداً منه انها على حسابه الشخصي ..
اقول : اذا كان الحقد هو ظلمة الأنا فان الحسد هو العصب ، هو الأفق الداكن الذي ينشره ظلام الأنا ويغطي الرؤية ويسجنها ، والتعصب والغضب ثم الانفجار هي الثمار ..
من يعيش داخل ذلك السجن ،هو في قلق دائم وفي تصادم دائم مع نفسه ، ثم مع الغير..
وصاحب هذه الحالة لا يهمه ان يعرف الحقيقة ، رغم انه يستخدم اسمها كما يستخدم اسماء وصفات كبيرة مختلفة مثل ( الله ، الجمال ، الحب ، الروح ، الطهارة ، الحرية ، التسامح ، التجاوز الخ ) لكنها موظفة لديه لتخدم مصالحه النفسية الشخصية ، أمنه النفسي والاجتماعي والوجودي ، وهو لا يعرف شيء عن حقيقتها ولا يهمه ذلك ، هو مصدق نفسه انه يعرفها ،ويعتبرها من بديهياته ويقينياته ولا تحتاج في نظره الى فحص ، لا في مفهومه الموروث او المكتسب لها، ولا كما هي في ذاتها .. هذا هو حال معظم الناس مع حقيقة وجودهم ، مثقفين وغير مثقفين ..
في حين قد يعمل المرء على كشف حقيقته بكل ما اوتي من رغبة وطاقة وتركيز ودرس مدى عمره ، دون ان يظفر بها ، وان ظفر لا يمكنه ان يتحرر فيها الا نسبياً ، فكيف مع هؤلاء ومنهم من تبوأ ويتبوأ مناصب عليا ويشغل وظائف كبرى .. منهم الطبيب ،والمحام، والقاض ،والمدرِّس ،والاستاذ، والقيادي ،والزعيم ، ورجل الدين الخ .. ثم يتساءلون : من اين تأتي المشاكل والصراعات والحروب ، ويقيمون اللجان ويوظفون (الخبراء) في مجالات مختلفة لحلها ..
لكي تعرف حقيقة الحسد والتعصب والتعالي كعوامل في مختلف خلافاتك مع نفسك ومع غيرك ، يجب ان تعرف نفسك ، طبيعتها وجوهرها خارج المفاهيم والصفات التي تظهر بها ..
ان تعرف نفسك لا يمكن اصلاً عن طريق افكار ، سواء كانت هذه الافكار علمية ، دينية ، او فلسفية .. فالأفكار هي رموز تحمل معاني الأشياء وليست هي الأشياء ولا تعبر عن الأشياء في ذاتها ، ويمكن للأفكار ان تُشكَّل بأشكال وصور مختلفة حول موضوع بعينه ، فهل يختلف الموضوع في ذاته باختلاف المفاهيم والتصورات التي شُكِّلت داخل الوعي وبرزت الى الواقع لتمثله ؟!
الوعي :
الوعي ليس هو الافكار وكلمة وعي من وحي الوعي برموز فكرية ونفسية ، ومجرد استخدام كلمة وعي لا يحمل دلالة الوعي في المُحدِّث اوفي الكاتب بمعنى الوعي في ذاته.. الوعي في ذاته الذي من دلالاته ومعانيه : الاحتواء ،اي كما يحتوي الوعاء ما يوضع فيه ، هو شيء وما يوضع فيه شيء آخر ، هو في ذاته واحد ليس في الشخص نفسه ، بل واحد في الجميع ، في الكل ، وليس في البشر فقط ، بل في الكون كله بما فيه من كائنات ، هو واحد احد لا يتجزأ خلف الأشياء والكائنات .. والخطيئة - اذا كان هناك خطيئة - ففي التجزئة النابعة من الأفكار ، اي من المحتوى الذهني والنفسي والشكلي للوعي .. وهي ظلال نابعة بصورة عفوية اصلاً من الوعي ، بسبب التركيب بينه وبين الاشياء التي منها المخ والاعصاب ووظائف الادراك المختلفة في الشخص ، وما الأشخاص التي تمثلنا سوى (غيوم تتأطر بسلاسل من ذهب وفضة ومرجان ، تبهر الشمس التي تصنعها وتقف من ورائها ) وما الشمس هنا سوى الوعي الأساس للموجودات ، وتختزل منه على قدر قابلياتها ، ومن هنا الاختلافات عند البشر وجميع الكائنات في مستوى الادراك والفهم .. وجودنا الشخصي اصدقاء هو وجود محض صدفة لم يأت عن تخطيط وهندسة او برمجة من اله او عقل من خارج الطبيعة ، تماما كمجيء الغيوم وتشكلها داخل وعي مطلق ، وما العقل فينا الا قسمتنا من الوعي المطلق، بعد تحول وتطور مقترن بصور وأشكال حسية ..
حين نكشف الوعي في الأشكال التي تمثله ونميزه عنها ، يسقط تأثيرها ويغتبط الوعي بذاته ويتحرر ، اذ ينتبه الى انه ليس هو الشكل ، ليس الشخص ، وفي هذه الحالة لا يعد له ند او خصم او منافس ، لأنه يكتشف انه هو ذاته الذي يقف وراء جميع الاشكال والاشخاص .. في هذا المقام لا ضير ولا ضرار في التعبير عن محاسن الناس ، او في تجاهلها على حد سواء ، فالواحد يمتدح نفسه في تجلياته ، او يسكت سيان ..
الحسد اذن هو شريك ظلامي في الاعتقاد بان الانسان هو الشخص ، والشخص يقوم على التفرد والتميز بطبيعته ، اي لا مفر من الرغبة في التفوق حينئذ ولا مفر من التنافس والتحاسد .. والاسماء والمصطلحات تلعب دورها .. ( انا من دار فلان ، من بيت فلان ، من هذا الشعب العظيم ، من تلك الأصول والألوان ، من تلك الدولة العظيمة ، او من تلك الأمة ذات الأمجاد .. املك كذا وكذا واعرف كذا وكذا ، فمن انت وماذا عملت وبما علمت حتى تقارن نفسك بي ؟ ) واساس المقارنة في الاعتقاد بأنك الشخص وتوابعه من اسماء وصفات ..
كميل فياض
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير