"فُرصَةُ العمر" قصّة قصيرة:شريف صعب-أبوسنان
2016-05-19 16:56:20
ما أن انتهى عشاءُ عرس أبي راشد لإبنه البكر،راشد،وغادر جميع ضيوفه المكان،حتّى انبرى إلى أقربائه الّذين  "وقفوا معه" في هذه المناسبة ودعاهم إلى الجلوس معه ومع زوجته والعروسين لتناول أشهى الطّعام...الّذي خصّصهُ صاحب القاعة لأهل العرسِ...من أشهى ما لذّ وطاب.طعامٌ لم تلطُمهُ يدُ مخلوقٍ على وجهِ الأرض...كما طلبت أمُّ العريس،فأبو راشد يعُزُّ كثيرًا على أبي جلال،صاحب القاعة، الّذي"سايرهُ" في السّعر، وهذه المُناسبة يعتبرها"موقِفًا" في حياتهِ. حقًّا كان الطّعامُ شهيًّا وقد سمعتُ بأُذنيَّ كيف عاد النّاسُ إلى بيوتهم...حامدين مادحينَ شاكرين!
أسبوعًا كاملًا استمرّت الأفراح والتّعاليلُ وفي كلِّ يومٍ وصلَ"دُخانُ" المشاوي إلى قبّةِ السّماء،لا بل،أبعدَ من ذلك! لقد وضعَ أبو راشد كلّ"ربَّتِهِ"في سبيل ابنه وفي  بناء داره الفخمة الّتي شيّدها له فأخذَ القروض على اختلافها واستدان من أعزِّ أصدقائه و"فكفكَ" كلّ برامج توفيره حتّى يُشبعَ رغباتهِ ورغباتِ ابنه البِكِر، و"ليُبسِطَ"...أُمّ العروسِ الّتى طلبت لابنتها كلّ ما تشتهيهِ، أُسوةً...بأبنة خالتها،الّتى تزوّجت مع طبيبٍ"شهادته على طولهِ" والّتي لم تقبل أن تكونَ عروسًا لابنِ خالتها...راشد!!
كان أبو راشد يأكلُ وعيونه"تلطُشُ"باتجاه صندوقِ النقوطِ، فهي لم تبرحْ عنه حيثُ فيه ثمَرَةُ أتعابِ عمرهِ.
بعد أن انتهَوا من تناولِ الطّعام وتحلَّوابالكنافةِ النّابلسيّةِ،توجّه أبو راشد،رأسًا إلى الصّندوقِ،"نَتَعَهُ" بين يديهِ وثبّتَهُ،كما يُثَبّتُ نسرٌ أو نمرٌ جائعٌ فريسته،ثُمّ  نقلهُ إلى سيّارتهِ،وكانت أمّ راشدٍ قد سبقتهُ إليها"ومترست" فيها كمن يُدافعُ عن...مُقدّساته.
خلال عودتهم للبيت كانت أمُّ راشد تهزجُ لزوجها وتزغرد له كأن تقول:"اليوم عيدك يا مدلّل" أو"يا بو راشد اتهنّى بالدّولارات..." وتُردِّدُها ،أو:"شوف انقوطك يا معروف بالميّات وبالأولوف!"...وتُردّدُها، وغير ذلك وهو يقول:"شو رايك،قدّيش راح نلقى فيّو؟"وهي تُجيبُهُ:"والّله انشالّله،ما بننزلْ عن المليون!!" ثمّ يقول:"أكيد راح انسدّ كلّ الدّيون ويظلّلو معنا،ميتين-ثلاث ميت ألف...حَلَاوان!!"
كان الجوّ زاهِيًا والفرَحُ قد عمّ كلّ خلايا البيت، وهما في قِمّةِ...النّشوةِ. كان أملُهم أن يَسُدّوا كلّ ما تراكمَ عليهم من ديون،فتقول أمّ راشد فجأةً:"بكفّي كِدنا وقهرنا كلّ أعدائنا،أيْ يعلم الّله في حياتو ما كان عُرس زي عُرسنا في البلد!"وأبو راشد يضحك ويلوح برأسه من نشوتِهِ.ويصفّقُ بيدَيه...كالسّكران!"ححححححْ!"
العريسُ وعروسه توجّها من القاعة للتصوير وبعدها سيتوجّهان إلى دارهما الفخمة، وفي الصّباح الباكر سيغادران،كغيرهم،إلى..."أنطاليا"،وقد كانا حجزا،مُسبَقًا،لمدّةِ أسبوعٍ كاملٍ،فأبو راشد حاضر-موجود ...وراح يكون قدّها وقدود!
دخلا البيت ثُمّ أقفلا البابَ خلفيهما،فمن الطّبيعيّ أنّهما سيرتاحان بعد عناء الفرَحِ،وثلاث بناتهم مُتزوّجات ولم يَكُن هنالك من يُزعجهما. أدخلا الصّندوق إلى الغرفة الدّاخليّة."شو رايك ْ،يا بو راشد،انّملنا شويْ ونتريّح!" "لا لا لا لاه،يا مَرا،بلا نوم بلا بطّيخ...علخزنة،علخزنة...عالعدّ ،عالعدّ،إلِي سنين أتمنّى هاليوم...قال عالنّوم قال!"
كان أبو راشد قد أعدّ،مُسبَقًا،دفترًا خاصًّا لتسجيل واجب عرس راشد، مع قلمٍ جديد ثُمّ فتح الصّندوق وقلبَهُ،رأسًا على عَقبْ،فتكوّنت أمامه كومةٌ من الظُّروفِ،لم يشهد مثلها في حياته! 
كانت الظّروف موسومةٌ بأسماء الّذين شاركوهم فرحتهم."ما شاء الّله،ما شاء الّله،شو هذا..والّله لنقطع المليون ونصّ!!"
أمسكت أمّ راشد بالقلم والدّفتر الجديد...ثُمّ زغردت! وبدأ أبو راشد يفتح ظروفَ"النُّقوط"،مُتَلذِّذًا،ثم يُعلنَ الأسماء...والمبالغَ وأمّ راشدٍ تُسجّلُ:"أبو أنور،عجاج،ألف شيكل..تسلملي عينَك يا بو أنور ،كريم يا عمّي وإبن ناس...بيعرف قيمتنا يا !"
"محمّد عكروش...ميت شيكل،لعنة الّله عليك يا عكروش...عامل حالو أكبر صاحب،كلّ ليلة كان"يبلع"ست شياش لحم..ميّه...تفي عليه!" محمود النّوري،الّله..الّله..الّله تسلّملي روحك يا بو النّور،سجّلي:ألف دولار،بذبحو العصفور...هاي صحاب الّله يقدّرنا عمكفاتك،يا بو النّور!"
 "صالح الدّبّ،ولكْ شو هذا...خمسين شيكل،يا واطي،الّله لا يباركلو في العشا..إنشالّله بقذف مصارينو...حيوان، إبتشتريش رغيف شوارما، هالهامل!!" "جعفر برقوق،جدعْ،جدعْ آدمي،خمسميت دولار..خمس ميّه،سجلتي،زلمي بعرف قيمة النّاس...مش زي...الدِّب،الّله يقدّرنا عمكافاتو ويفرح من اولادو!!" "نزّال بو شوكه،الّله لا يباركلو،ما بستحي عدمّو...ميت شيكل...طُزّْ،بس شاطر ييجي وينتخي هالكذّاب...قدّامك...قدّامك،بَس مِيّة،  إنشالّله توكلو...الجنّيّه!"
استمرّ أبو راشد في الفَتِحْ والعدّْ..والمزِحْ والجَدّ،وزوجته تمدح...وتردح،حتّى انتهوْا من مُهِمّتِهم...التّاريخيّة.
في نهاية المطاف بلغَ مبغ النُّقوط أربعمِئَةِ الف شيكل،لا غير،مبلغٌ بالكاد يكفي لسدّ نصف الدّيون الّتي تحمّلها أبو راشد.
لقد خاب ظنُّهُ  وأملُهُ  بالكثيرين ولم يحسب أنّ" الرّياح تأتي...بما لا تشتهي السُّفُنُ"،وكُلُّ تأفُّفاته ومُعاتباته لم تُجدِهِ نفعًا.لقد بقيتْ حالتُهُ المادّيّةِ في الحضيض،لا بل زادت سوءًا.
قلبت السّنَةُ كرمشةِ-عين،ومع بدايةِ الصّيفِ جاء موسمُ الأفراح ومعهُ كروتُ العزوماتِ للأعراسِ! وصلَ المكتوبُ الأوّل...من أبي أنور عجاج."شوفي يا مَرا شو جابلنا يوم عُرسِ الولد!"وتُجيبهُ أم راشد:"ألف شيكل!".شو ألف مصيبة،مين عاتبه...إنشالّله ألف فَشكه تِطْلعْ في صدرو...!منين بدنا انسدّو...روحي دبّريلنا إشي من إمّكْ!!"
بعدَ أسبوع، عُزومة جديدة.."من مين؟" "من صالح الدّبّ،يا بو راشد!" "شوفي شو إلو!" تفحص أمّ راشد الدفتر ثُمّ تُعلن:"خمسين شيكل!" "...يسعِد ربّو،هاي الأوادم،بس خمسين، الّله يكثّر خيروه الآدمي...مْيَسَّرة الحمدُللّه يا عمّي هذا نقوط معقول!"
في الأسبوع الرّابع دعوة عُرس أُخرى."لمين العُرس يا أم راشد؟""لإبن محمود النّوري" "شو جابلنا هذا؟"فتحت أُمّ راشد دفتر"المصائب"وأعلنت:"يا مصيبتي...يا حسرتي، يا ناري ألف دولار!" "بتحكي جدّ،شو ألف دولار!" "وحياتك ألف،دولار ينطح دولار،خرجَكْ..لمّن كُنت اتعِدْ كُنت تصهن زي الحصان ...تفضّلْ سِدّ!"
كاد يُغمى على أبي راشد،ثمّ تمالكَ أعصابهُ وصرخ:"ولك منين بدّي أسدّو،شو أروح أشحذ النّاس،..مين عاتبو تيحُطّ ألف دولار،هالحيوان!؟ما عاد البنك يعطينا،حبيبتي...عليِّ الطّلاق ما بحطّلو غير خمسميّة...يصطفل،شوفي راشد،هالحمار،بركي يْدبّرّلو ميتين دولار...بس شاطر ينقلع ل"أنطالية!!"يا ريتنا لا فتّينا ولا غمّسنا!"
هكذا استمرّت ردودُ فعل أبي رشاد على كلّ دعوةٍ وصَلتْهُ،لسنواتٍ طويلة...مرّة ثلج ومرّة...نار،يشتُمُ ويمدحُ..ثُمَّ يشتُم،تمامًا بعكسِ ما كانت حاله عندما فتح ظروف...عرس راشد!
لقد وصلت به الأمور إلى بيع بعض حاجيات بيته لسدّ ديونه..."الطّوعيّة!"
عندما فتح محمود النّوري ظروفَ"نقوط" ابنه،لم يختلف أسلوبُ كلامه عن أُسلوبِ أبي راشد في عرس راشد،وعندما وصلَ إلى ظرف أبي راشد،فتحهُ وصرخَ:"خمسمئه!بَسْ...لعنة الّله عليك يا أبا راشد...أكل حقّي هالنّذل،الّله عليِّ الّلي احترمتو،هالوحش...أكّالِ حقوق،زلمة ما بستحي...راح ادبّرو...والّله لروحلو عالبيت!"
سمعت زوجتهُ كلّ كلامه على أبي راشد فتنهّدت ثمّ قالت:"ما قلتلّك لأيش التكبير،وما سمعت كلامي...أما آن الأوان لأن نُفعّل عقولنا وأن نتصرّف بعقلانيّةٍ وبمنطق،ونعرف أنّ كلّ العمليّة...قِرضَه ودين ووسخ...في الذّينين وأنّ من يُكبّر يُثقلْ حملهُ ومن يُصغّر يُخفّفُ عن كاهله،في هذا العصر العصيب!!ألّله يجيب العقل ويهدي أبناء هالمجتمع...التّائه!!!"
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق