"شمعون بيرس"،قامةٌ باسقةٌ في تاريخ إسرائيل...ما بينَ الصّهينة والبراغماتيّة..!
2016-09-30 09:26:41
لقد قيل وكُتب وسيقال الكثير الكثير بحقّ الرّاحل "شمعون بيرس"،وزيرٍ ورئيس حكومةٍ ورئيس دولةٍ...وصاحبِ مناصبَ عديدة ومُتعدّدة لا يعلمها إلّا الّله تعالى...بتاريخٍ طويلٍ امتدّ على مساحةِ قرنٍ كاملٍ،تقريبًا.
لكلّ إنسانٍ ما يقولهُ في هذا الموقفِ،وليأيضًا،أنا، ما أقوله،ولي وُجهةُ نظري كما لكلّ إنسانٍ بصمتُهُ...ولا بصمةٌ كأُختها،لذلك يقولونَ عن فلانٍ من النّاس بأنّه ترك بصمةً أي ترك أثَرًا هامًّا.
وهنا أُريدُ أن أذكرَ بأنّ الرّاحلَ،بيرس،قد تميّزَ بصفاتٍ عديدةٍ على رأسها استماتَتُهُ في جعل،إسرائيلَ،بعد إعلانها،قويّةً قدر الإمكان حيث لا تستطيع أيُّ قوةٍ في العالم...تهديد وجودها!
فمنذ بداياته أصبح ملازمًا لرئيسِ الحكومة،بن غوريون،ومع الزّمن تبوّءَ مناصبَ عديدةٍ في سُدّةِ القيادةِ...وزيرًا ورئيس حكومةٍ وفي نهايةِ المطافِ رئيسًا تاسِعًا للدّولةِ.
لقد تمكّن بيرس مع مرور الزّمن من خلقِ شخصيّةٍ خاصّةٍ به ميّزتهُ عن سائر القياديّين الإسرائيليّين!ففي مطلعِ حياته علم وأحسّ أنّ إسرائيلَ قويّةً،هي الضّمانةُ الأولى لأيّ حوارٍ مستقبليٍّ حول الحلّ،لذلك انطلق يفتشُ عن دولةٍ عُظمى تكفلُ له هذا...ووجدهُ عند الدّولةِ الفرنسيّة الّتي كفلت وأعطت العَوْنَ الفنّيّ التّقَنيّ نحو التّطورِ الذّريّ...!في المقابلِ ذهب إلى تسليح إسرائيلَ بأكداسِ الأسلحةِ"التّشيكيّةِ"والأُخرى وبالقوّةِ الجويّةِ،حتّى لا يقوى عليها أحدٌ،ونجحَ،خصوصًا أنّ الكثيرين من الشّبانِ اليهودِ كانوا قد خدموا وشاركوا قوّاتِ الحلفاءِ في أوروبا بأذرعِ الجيوشِ على اختلافها،خلالَ الحرب العالميّةِ، وقد كان فيهم عددٌ من الطّيارين.
وضع بيرس،كما، نوّهنا، قضيّةَ الأمن القوميّ في رأسِ سُلّمِ أولوياته،من خلالها قوّةَ"الرّدعِ"الإسرائيليّةِ وقد نجح في ذلك وكان مُصيبًا في رأيهِ إلى أبعدِ الحدود...طبعًا مدعومًا من القيّمين عليهِ.فالسّيطرةُ اليهوديّةِ على فلسطين،بالقوّةِ،بعد تهجير مئاتِ الآلافِ من سكانها أثار الظغينة والكراهية لدى دولِ الجوار وقد علم أنّ ذلك سيعود بالوَيلِ وبالغضب عند الدّولِ العربيّةِ الّتي لطالما لوّحت بمحو الكيان الصّهيونيّ و"بقذفِ" الصّهاينةِ إلى البحر...كما تفوّه بذلك الإعلاميّ المصريّ الشّهير"أحمد سعيد!"
فبد ل التّأنّي والتفكير بحلولٍ عقلانيّةٍ تُعيدُ الكرامةَ والحقوقَ لأصحابها ذهب العربُ إلى التّطرّفِ ممّا كوّن،مع الوقتِ،تطرُّفًا مُضادًّا ...ومنعِ قيامِ شرقٍ أوسطيٍّ عظيم رُبّما كان سيضاهي أوروبا وأمريكا واليابانِ قوّةً وغِنًى ووفرةً!!
بسببِ اتّخاذ الموقف الرّافض لأيّ حلٍّ والمُعارضِ لإجراء أيّةِ مفاوضاتٍ أو مبادراتِ صُلحٍ أو اعترافٍ بالدّولة الجديدةِ، لم يُبقِ الأمرُ أمام القيادةِ الإسرائيليّةِ إلّا التّمترُسَ والتّصدّى والقتال من أجل الإنتصار والبقاء...فالقِطُّ إذا ضايقتهُ...سيمزِّقُكَ إربًا إربًا...!!
هنا جاء دور العقل المُفكّر،بيرس،الّذي ذهب منذ الخمسينيّات إلى أقصى درجات المستحيل وهو يُفتّشُ عن خلقِ قوّةِ- ردعٍ تشكّلُ كلمة الفصل بين الدّولة وأعدائها/جيرانها العرب،وتعاقدَ مع فرنسا وغيرها لبناء "ديمونا"،من خلال فكرة القوّة الرّادعة...والعربُ نيامٌ ،يتصارعون، غارقين بمعاركهم الدّاخليّة وبصراعاتٍ تافهةٍ، وبذلك يشهد لبيرس القاصي والدّاني.
نقل بيرس الدّولة العبريّة نقلةً نوعيّةً بتواصله مع عُظمى الدّول في العالم، وقد دعّم نشاطاته بإعلامٍ إسرائيليٍّ ثاقب في آسيا وفي القارّةِ السّوداء،مُظهرًا العربَ كرافضي السّلام وهكذا تحوّلت إسرائيل إلى قوّةٍ إقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ وعسكريّةٍ،بامتياز.
بقيَ الأمر هكذا حتّى حصل ما حصل من خلالِ حرب أُكتوبر/الغفران التي فاجئت العالم بشراستها وصلابتها...ونتائجها حيث أظهرت قدرةً عربيّةً لا يُستهان بها وكانت الحدّ الفاصل ما بين القوةِ والتّعقُّلِ الّذي من شأنهِ أن يوصل إلى حلولٍ منطقيّةٍ...إذا صدقت النّوايا، فقويت العزيمةُ.وجائت مبادرةُ السّلامِ المصريّةُ لتُجسّدَ ذلك على أرض الواقع والّتي قوبلت وللأسف بمعارضةٍ عربيّةٍ جارفةٍ أدّ ت إلى استشراء التّطرف الإسرائيليّ وسيطرت اليمين المُتعصب العنصريّ على قيادة السّفينة الإسرائيليّةِ...وتكثيف الإستيطان، وربّما جرّ هذا استحالة الحلّ رغم محاولات اليسار الإسرائيليّ"الضعيف"لإنهاء النّزاع!!
بعد عقدِ اتّفاقِ السّلام مع مصر حاول اليسارُ على اختلافِ زعمائه،وبيرس على رأسهم فتمخّضت محاولاتهم عن إنجاب طفلٍ ضعيفٍ على صورةِ السّلامِ مع الأردن وطفلٍ آخرَ مُشوّهٍ أسمَوْهُ "أوسلو"،يشكو من أمراضٍ كثيرةٍ وهو عاجزٌ عن النُّموّ!!!
أصبح بيرس براغماتيًّا بعد حرب رمضان وأصبح شغوفًا بفكرةِ خلق"شرق أوسطي جديد"إلّا أن التّطرّف الصهيونيّ في التّملّك والإستيطان قطع عليه حبال آماله الّتي تشبّثَ بها وزاد من آلامه ، فقد حلمَ بإحلال السّلام في حياته...فخاب أملُهُ، ناهيك عن الخيبات الكثيرة الّتي مُنِيَ بها في العقود الثّلاثة الأخيرةِ.
لا شكّ أنّ التّطرفَ اليهوديَّ كان يُقابل دائِمًا بتطرّفٍ عربيّ،لم يقلّ عنهُ سوءًا(جبهة الصّمود والتّصدي،صدّام وتصريحاته بإبادةِ الكيان الصّهيونيّ،وجود حزب الّله وبزوغُ النّجم الإيرانيّ...وغيرها).كلّ ذلك ضاعف من"اليمننةِ"اليهوديّة وعمّقَ البُؤرُ الإستيطانيّةَ وعقّد الموقفَ وأدّى إلى إحباطاتٍ عميقةٍ عند بيرس وشركاه وأعوانه...من أربابِ "أوسلو"،وأحبطَ الطّرفَ الفلسطينيّ!
لم يخلُ تاريخ بيرس من أعمالٍ مُشينةٍ في مجال التعامل مع القضيّةِ العربيّةِ،إجمالًا فهو كان قد وجّه سياساته كسيفٍ ذي حدّين:حدٌّ موجّهٌ للأعداء خارج حدود الدّولةِ،وضربةُ"قانا" تشهدُ على ذلك، وحدٌّ آخرَ أصلبُ بطشًا وقوّةً وُجِّهَ نحو رقاب عرب الدّاخلِ،البقيّة الباقية الّتي في فلسطين،داخل إسرائيل،فهؤلاء دفعوا لبيرس ولشركاه أغلى الأثمان،حيث حُدّدت حقوقهم وقُيّدت خُطاهم،والأنكى من ذلك كلّه...سُلبت أراضيهم...وهذه كانت الخطيئةُ الكُبرى في تاريخ الصّهيونيّةِ الحديثة!
لقد كانت تلك سياسةٌ مُمنهجةٌ ضدّ جميع أقلّيّات الداخل،بغضّ النّظر عن أسماء طوائفها...والدّروز هم أكثرُ من"أكلها!!"
كان الرّاحل حكيمًا وشاعرًا وذا قدرةٍ عظيمةٍ في مجال التّعبير الكلاميّ وقد استطاعَ عن طريق"حلاوةِ لسانه"أن يكسبَ احترام وحبّ أنداده خصوصًا في العالمِ الواسع،فهو...كما قالَ الشّاعرُ:
"يُعطيكَ من طَرَفِ الّلسانِ حلاوةً ويروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ"
وهو من قال:"إنّنا نفاوض العرب وكأنّها لا توجد حرب...ونحاربهم-وكأنّها لا توجد مُفاوضاتُ سلام!"
عندما فشل في الإنتخابات التّمهيديّة أمام رابين،سُئلَ"تيدي كوليك"، رئيس بلديّةِ القدسس،الّذي كان من أنصاره عن السّبب في ذلك فقال:"إنّ رابين كسيّارةِ سوبارو،وبيرس-كميرسيدس...والشّعب يريد سوبارو"(وقد شاعت في تلك الأيّام دعايات ساخرة بحق السّوبارو.)
ومن تكرار إخفاقات بيرس السّياسيّة قال أحدُهم:"والّله لو تسابق بيرس مع نفسه،أيّ لوحده...لحصل على المكان الثّاني!"
مع كلّ ذلك كنتُ أتمنّى أن يكون في العالم العربيّ قياداتٌ واعيةٌ ومخلصةٌ لشعوبها ولقضاياها كما كان هو لشعبهِ، والآخرون الّذين حكموا قبله وبعده، فهم يستميتون في الدّفاع عن شعبهم ودولتهم بغضّ النّظر عن مصالحهم الشّخصيّة والفرديّة، بينما نرى الزّعماء العرب،في أيّامنا، يستميتون في الدّفاع عن مصالحهم وكراسيّهم ...ويحرقون بلادهم وشعوبهم وتراثهم الفاخر العتيق فيقطّعونَ ويُشتّتونَ دون خجلٍ أو وجلٍ من الّله أو من شعوب العالم الشّاخصة بهم، وكأنّهم...من المغول،أحفاد أحفاد هولاكو!!! لقد جاوزت مآسي الشّعوب العربيّة أضعافَ أضعافَ القضيّةِ الفلسطينيّةِ...والمَخفيُّ أعظمُ بكثير!
في النّهايةِ،رحم الّله الفقيد ووهبنا ما وهبه من عزٍّ وقيمةٍ ...وعُمرٍ مديد!!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير