(السؤال مطروح على عرب ال-48 ويستطيع المشاركة في الإجابة آخرون!)
يذهب بعض المتابعين إلى أن الرئيس طيّب الذكر، "أبو عمار" هرب إلى أوسلو هروبا أماميّا حين رأى الجحيم الذي ينتظره من مؤتمر مدريد حينها، الجحيم الذي تمثّل له تحييدا والتفافا على منظمة التحرير الفلسطينيّة. كان نتاج أوسلو وما زال يثير نقاشا حادّا، والبعض يعزو كل مصائب الشعب الفلسطينيّ التي حلّت به في تاريخه الحديث، إلى هذه الخطوة.
النقاش حول هذا وفي هذا شرعيّ حضاريّ، ولكن ما يعصى على الفهم تحميل الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس، أبو مازن، تبعات كلّ ما يتعرّض له الشعب الفلسطينيّ وقضيّته اليوم، وكأن وجوده أساس البلاء وبمجرّد رحيله ستنفتح أمام الشعب الفلسطينيّ جنّات النعيم. سيتحرّر القدس الشريف (بالتسمية العثمانيّة إذ إن التسمية العربيّة الإسلاميّة كانت بيت المقدس)، وتقام الدولة المستقلّة التي لن تفتأ أن تنضم إلى عائلة الدول الفضائيّة، وسيعود اللاجئون حتى المليون المقيمون في تشيلي، ولن يبقى لنا إلا أن نهنأ بالنعيم الأبديّ على كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر!
هذا الكلام ولا أقصد النقد الموضوعيّ ومهما قسا، الذي يذهب إلى حدّ اتهام أبو مازن والقيادة الفلسطينيّة والسلطة بالعمالة، يزداد زخما ومعنى مثيرا للتساؤل حين يأتي الكلام من فلسطينيّي ال-48. وخصوصا عندما يتمّ ذلك حول "مناقل الباربكيو" على الشواطيء وفي المتنزهات في عطلات آخر الأسبوع، أو على شرفات "الفلل"، أو حول المواقد المستوردة من النرويج شتاء، أو في الغرف "المُكنْدَشة" بالمكيّفات الألمانيّة والأميركيّة صيفا، والمؤثّثة بأفخر الأثاث السويدي راحة لأعمدتنا الفقريّة وعظام أرجلنا من ثقل كروشنا "القالبة على ظهورنا"، وأيضا لو تمّ من على منصّات الخطابة في المؤتمرات المقامة في قاعات الأفراح الرّحبة.
حقّ المرء وعينيّا الفلسطينيّ أينما كان تواجده، أن يوافق أو لا يوافق على سياسة أبو مازن والسلطة بكلها أو بجزئها، أن يمتدحها أو يذمها أن يرفعها أو يسفها، وأنا من بين هؤلاء الذين لهم رأي ولكن طبقا للمقولة: "إن ما يًرى من هنا لا يًرى من هناك" أو "الذي يأكل العصي ليس كالذي يعدها، وبالمناسبة قلّما تجد عربيّا أو مسلما في أية دولة عربيّة أو إسلاميّة ينتقد رئيسه وسلطته كما يفعل الفلسطينيّ في مناطق السلطة الفلسطينيّة.
المشكلة تكمن في المعيار ومكان المُعير وفي الميزان ومكان الوازن ، فما يحق لفلسطينيّ "يعيش" في خرائب مخيّم اليرموك أو النّيرب في سوريّة، أو عين الحلوة أو الميّة وميّة في لبنان أو الوحدات في الأردن، لا يحقّ للمقيم في استراليا وكندا ولندن وباريس ونيويورك. وما يحقّ للمقيم في مخيم بيت الما وقلنديا وعايدة، لا يحقّ للمقيم في يافا وحيفا والناصرة. كلّ ذلك ولو من باب: "رحم الله امرءا عرف (ظرف غيره) فوقف عنده".
ومع هذا إن المعيار الوحيد والأوحد الذي يستطيع المرء أن يحتكم إليه في الحكم على كل فلسطينيّ نفرا كان أو قائدا، وعلى أبو مازن والسلطة وعينيّا في القضايا الوطنية العليا، (ولا يعتقدنّ أحد إني أقدّس أحدا فمنذ زمن تنازلت عن التقديس، مؤسسات وأفراد، ودفّعني ذلك أثمان كبيرة)، هو عدم التنازل عن الثوابت الوطنيّة الفلسطينيّة العليا، وليس تحقيقها لأن هذا منوط بعوامل موضوعيّة أكبر من أبو مازن، ولا تقلّ مسؤوليّة كل منّا فيها عن مسؤوليّة أبو مازن كلّ في موقعه وموضعه وكثيرا أوسع من رحاب ما بين "المحيط الهادر والخليج الثائر"، بمعنى هل هو فعلا قائم (ليس قائل) بما هو مطلوب منه سياسيّا واجتماعيّا وفكريّا بما يخدم تلك الثوابت، ولو من باب أضعف الإيمان ؟!
وقد نمسك بناصيّة الطريق حين نبدأ وضع الحدود في "موارسنا- حصصنا" من الأرض لا في "موارس" الغير، فمن نافل القول أن أعداءنا لا يبيّتون لنا الخير ومع هذا فهل يصحّ أن يبقوا علّاقة كل نواحي فشلنا، والأهم هل نحن نبيّت لأنفسنا الخير؟!
فأين بالله عليكم؟! أفي ساحات معارك داحس والغبراء والبسوس، بدءا بساحة العين في الناصرة وانتهاء بساحات بابل والشام واليمن السعيد والمغرب العربيّ؟!
إنّ المقولة المنسوبة زورا إلى الرئيس الأميركيّ الأسبق كندي: "لا تسأل ماذا فعلَتْ لك أميركا اسأل ماذا فعلْتَ لأميركا"، وبأصلها وأصالتها "الجُبرانيّة": "هل أنت سياسيّ تسأل ماذا فعل لك وطنك، أو أنت غيور تسأل ماذا تفعل لوطنك"، لشدّما تنطبق علينا، وليس صدفة أن قائلها الأول جبران خليل جبران، "منّا وفينا"!.
فهل كلّ منّا وفي موقعه وموضعه إسلاميّا وعربيّا وفلسطينيّا (ثمانيأربعيّا أو سبعستينيّا أو شتاتيّا)، يقدّم ويقول ما هو مطلوب منه وطنيّا وقوميّا ودينيّا، ومعياره فعلا وقولا الثوابت الفلسطينيّة العليا، تجاه نفسه ومن هم وقود قضيّة شعبنا اليوم الرازحين تحت الاحتلال ومن حمّلوه بغالبيّتهم الدّفة، السلطة الفلسطينيّة؟!
الدولة: قبل أوسلو وفي أوسلو، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينيّة بإسرائيل وقبلت دولة على حدود ال-67، ولاحقا وافق أبو عمّار على تبادل للأراضي بنسبة معيّنة مساوية في المساحة والقيمة، وقمّة(!) العرب في بيروت ال-2000 صادقت على ذلك ولولا "الرافض" بشار الأسد و"الكافر" إميل لحود لضاع حق العودة حتى بمعناه الحقوقيّ. فأين تنازلت السلطة وأبو مازن؟!
القدس: القدس الشرقيّة (بيت المقدس) عاصمة للدولة. فأين تنازلت السلطة أو أبو مازن؟!
العودة: لا أعرف، فعلا لا أعرف، إذا كان هنالك على المستوى الشعبيّ من يعتقد أنه عندما يدور الكلام عن حقّ العودة، أن الكلام يدور عن حقّ في عودة فعليّة. العودة الفعليّة لن تكون طبقا للمسارات المحكي عنها، الحقّ المعنيّ هو اعتراف إسرائيل أن للاجئين حقّا أساسا وتتحمل هي أو المجتمع الدوليّ عندها المسؤوليّة، اعترافها بذلك معناه اعتراف بمسؤوليّتها الميدانيّة عن الاقتلاع، وهي تدّعي أنها لم تفعل ذلك فمن لجأ من الفلسطينيّين لجأ بإرادته، وهنا تكمن المشكلة فإسرائيل بتعنّتها استهتارا بالعرب أمام ضعفهم لا بل تخاذلهم وتآمر بعضهم، غير مستعدّة حتى لهذا. فهل تنازلت السلطة أو أبو مازن عن هذا الحق، وإذا كان هذا تنازلا أفلم يجر قبل أبو مازن؟!
يهوديّة الدولة: حتى هذا الطرح "المُبَنْدَق" الذي رفعه اليمين الإسرائيلي، ولم يكن مرّة على جدول أعمال المفاوضات، وردّ السلطة كان وما زال: "نحن اعترفنا بإسرائيل ولتسمّ نفسها ما شاءت، أما أن نعترف نحن بيهوديّتها فغير وارد بالحسبان وحفاظا على مكانة فلسطينيّي ال-48 على الأقل"، هذا بغض النظر عمّا نعرفه نحن عقليّا ونحسّه جسديّا يوميّا، أن إسرائيل تمارس يهوديّتها قولا وفعلا وليست هي بحاجة لهكذا اعتراف. فما هو المطلوب الذي يرضينا، من السلطة أو من أبو مازن؟!
يعيب البعض على أبو مازن والسلطة "اللعب" في الملعب الدوليّ، ويسفّهون حتى اعتراف الجمعيّة العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين ورفع العلم الفلسطينيّ في الأمم المتّحدة. دعونا لا ننسى أن إسرائيل قبل أن تقوم في العام 1948م، فعلت مولّدتُها، الحركة الصهيونيّة، ما تفعله السلطة الفلسطينيّة اليوم، فحتى من هذا الباب فما العيب في فعل السلطة الفلسطينيّة في هذا المجال؟! لا بل أكثر من ذلك أن ما يغيض المؤسّسة الصهيونيّة ويتمثّل في الهجوم السافر على أبو مازن والعمل في العلن والخفاء على تبديله، هو أن أبو مازن اختار اللعب في ملعبها، وحقق نجاحات لا بأس بها، ورغم قلتها فعلى إسرائيل أصعب من "عمى الأعين"!
ربّما أن شأنا وطنيّا لا يقل قيمة عن الثوابت أعلاه ولم يجيء في الأدبيّات التفاوضيّة، ألا وهو نظافة اليد في السلطة ماديّا وسياسيّا. هنا يُحكى ويُقال الكثير، ومن عنده بيّنة فليشهرها وجيّد إشهارها، وإذا صحّ ما يُحكى ويبدو أن فيه الكثير من الصحّة، فإن لم تقتلع السلطة وأبو مازن هذه الشوائب، فلن يرحم التاريخ لا أبو مازن ولا السلطة لا بل سيصبّ اللعنات عليهما، ولكن بين هذا وبين العمالة و"بيع" القضيّة البون شاسع.
فهل كان أبو مازن والسلطة يستطيعان أن يفعلا وطنيّا أكثر ممّا يفعلانه موضوعيّا، في ظلّ التخاذل العربيّ والإسلاميّ الوهابيّ في مواجهة إسرائيل، لا بلّ الـتآمر الذي وإن كان مخفيّا أو مستحى به مرّة، فقد أصبح على رؤوس الأشهاد لا ورقة تين ولا ورقة توت؟!
وهل كان يستطيع وتستطيع السلطة أن يفعلا أكثر، وشعبنا محاصر ولقمة عيشه بيد إسرائيل والدول الغربيّة، لأن أموال العرب والمسلمين تصرف في كازينوهات أوروبا ومواخير جنوب شرق آسيا، وعلى محارق ومذابح الدواعش والقاعدة والنصرة... وحدّث ولا حرج؟!
الرّد طبعا سيكون: فليحلّ أبو مازن السلطة وإلى حيث ألقت رحلها، ومن قال أن هذا الخيار غير قائم عند أبو مازن وعند السلطة؟! غير أننا سنكون من السّذج بمكان إن اعتقدنا أن العجلات تسير في هكذا اتجاه من قبل أعداء شعبنا والمتخاذلين والمتآمرين معهم عربيّا وفلسطينيّا، فالطاقم أو "الطقم" البديل حاضر في العواصم العربيّة وربّما لن ينتظر هؤلاء حتى يفعلها أبو مازن، وعندها وفقط عندها ربّما سنعرف ما معنى العمالة!
فأمام مثل هكذا أوضاع، ففعلا ما الذي نريده من الرّجل؟!
وبالمناسبة، حين تزحف الجيوش العربيّة المظفّرة لتحرير القدس وفي طليعتها جيوش الخليج، وعلى ميمنتها جحافل التكفيريّين وعلى ميسرتها كل "غير العملاء" ، فلا أعتقد أن أبو مازن ولا السلطة، ولا الذين مثلنا ممن يحاول أن يكون واقعيّا، سيقف في وجه الزّحف، وإن وقفنا فليسحقونا مثلما سيسحقون العدو وليرموا أشلاءنا لأسماك المتوسّط!!!
الأسير المحرر سعيد نفاع
أوائل آذار 2017