هذه ترجمة عربية لمقال السيد عودة بشارات الأسبوعي في صحيفة هآرص، ٢٠ آذار ٢٠١٧.
”قضت محكمة العدل العليا الأسبوع الماضي، بأنّ لسكان القدس الشرقية حقوق المواطنين الأصليين. كنتُ منفعلًا، ليس لأنّ القرار سيُحدث اختراقًا فيما يتعلّق بعرب القدس الشرقية، ولكن على كلّ حال، ها هي الحقيقة تُلقي بظلالها على كل التشويهات؛ بعد نصف قرن من الزمان، تعترف دولة إسرائيل بأنّ المواطنين الفلسطينيين أصلانيون. ليسوا غزاة، أو عابري سبيل، أو نواطير الكرم المرغَمين على النزوح، حينما يعود السيّد اليهودي إلى إرثه بعد ألفي عام. ببساطة، أصحاب البيت.
بعد نصف قرن من الزمان، كانت الدولة من خلال الجيش، الحكومة، البلدية، المتعصبين القومجيين، تعتدي على العرب، والآن يدوّي صوت الحقّ ومن أين؟ بالضبط من بين جدران المحكمة، التي بالأمس فقط، صادقت تقريبًا على كل ظلم ضدهم، بدءً بهدم البيوت واقتحام باحاتهم، وانتهاءً بنزع (بتشليح) المواطنة. كتب الشاعر طرفة بن العبد يقول: وتأتيك بالأخبار مَن لم تَبِعْ له. محكمة العدل العليا هي آخر مكان، توقّع الفلسطينيون منه أيّ عدل وإنصاف.
أحببت القدس، إلّا أنني حين أدخلها أشعر بالاختناق، وأريد مغادرتها بأسرع ما يمكن. الكآبة تحوم في الجو، العيون الخامدة تُذكّرني بما غنّت فيروز عن القدس بُعيد احتلالها، بعد حرب ١٩٦٧: ”مرّيت بالشوارع، شوارع القدس العتيقة، قدّام الدكاكين البقيت من فلسطين، حكينا سوا الخبرية وعطيوني مزهرية، قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين، ومشيت بالشوارع شوارع القدس العتيقة، اوقف عباب بواب صارت وصرنا صحاب، وعينيهن الحزينة من طاقة المدينة، تاخدني وتودّيني بغربة العذاب“.
سيمون صباغ مونتيفيوري في كتابه ”القدس: سيرة ذاتية“، يروي أنّ موطي غور في الحرب، لم يعرف كيف يصل إلى حائط المبكى، عجوز مقدسي أخذ جنوده إلى باب المغاربة. خسارة، لو سار العجوز بهم خارجًا من حيث قدموا، لكان بالإمكان تفادي خمسين عامًا من الدم والدموع؛ إلا أن وهن العرب يُغري الشرهين للانقضاض عليهم، وكالرقص في الوحل، يغرقون هم والمحتلون معا. هذا هو الوضع الراهن.
لإسرائيل اليوم مطلق الحرية في فعل ما يحلو لها في القدس، والعالَم وفيه العالَم العربي، صامت. وفي غياب من يلجم إسرائيل، فهي تتمادى أكثر فأكثر، والوضع الآن بمثابة دمج بين الشرّ واللامعقول. زرت القدس قبل شهر تقريبًا، واستولى عليّ شعور كئيب بقدر يفوق المعتاد. يعيش العرب في أحياء مغلقة، بدون الحدّ الأدنى من الخدمات البلدية. إنّها محاطة بالجدران، وفي المداخل حواجز شرطية. ماذا يجري هنا؟ ما شعور اليهودي المقدسي الذي يعيش على بعد دقائقَ من هناك، إزاء هذه المعاناة الإنسانية؟ رقصة التانجو الفظيعة مستمرّة منذ خمسين سنة، بين ما يُدعى محررِون (بالكسر) ومحرَرون (بالفتح) في المدينة الموحّدة، كما يُزعم.
التناقض يسرح ويمرح، في الوقت الذي فيه تُصدر محكمة العدل العليا هذا الإعلان الدراماتيكي؛ ذراع أخرى في الدولة تمنح جائزة إسرائيل لدافيد بئيري، المدير العام لجمعية إلعاد، التي تعمل على إبعاد العرب عن المدينة. وفي الوقت الذي يصرخ فيه موشه أرنس، من رؤساء الليكود، مُنددًا بالخزي والعار في حيّ شعفاط، هرول رئيس المعارضة، يتسحاك هيرتسوغ لتهنئة بئيري، وكذلك عضو الكنيست إليعزر شتيرن من حزب ”يوجد مستقبل“، القائل: بئيري يمثّل جمال هذه البلاد. جمالٌ بشِعٌ كهذا، هو من عمل الشيطان فقط.
بعد سنوات القحْط القضائي، التي لم يقدَّم فيها العلاج للعرب، كان من الواجب منح جائزة إسرائيل للقضاة الثلاثة الشجعان، إذ أن ضميرهم ثار ضد تقليد انتهاج الإجحاف والظلم.
دافيد بن غوريون، الذي نفى الشعور القومي من العرب، اعترف بأنّ لديهم مشاعر نحو الأرض. حقًّا، للعرب شعور للمكان لأنّهم أهله. ثمّة جائزة خاصّة لوزير التاريخ، الذي يشاهدنا من بعيد، ممنوحة لأهالي القدس الشرقية، المتشبثين بأسنانهم بالبيت والأرض. باسم الجميع، اليهود والعرب، إنّهم ينقذون كرامة الإنسان في المدينة الرازحة تحت المعاناة.
“