يوم الأرض ومُخطّط الجهض
.أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تحتفل دول العالم بيوم الأرض بغية العمل على تقليل عوامل التلوث في الماء والهواء والتراب، أمّا عرب الـ ٤٨ فعندهم يوم أرض آخر.
تُصادف يوم الخميس 30/3/2017 الذكرى الواحدة والأربعون لـ”يوم الأرض”، العيد القومي للأقلية القومية العربية في إسرائيل، ورمز التشبث بتراب الوطن والاحتجاج الصارخ ضد التمييز العنصري عامّة. يوم الأرض، في الواقع، هو رمز تجذّر الإنسان الفلسطيني على تراب وطنه، أو قل على ما تبقّى منه ولا بدّ من اعتباره عيدًا قوميًّا قولا وفعلًا.
في الثلاثين من آذار 1976 هبّت الجماهير العربية في إسرائيل، في الجليل والمثلث، للمشاركة في إضراب ومظاهرات احتجاجًا واستنكارًا لقرار الحكومة الإسرائيلية الصادر يوم 11 آذار 1976 والقاضي بمصادرة قرابة مائة ألف دونم من الأراضي العربية في الجليل الأشمّ، أراضي الملّ. وكان ذلك بعد إقامة ثلاث مدن تطوير يهودية ما بين الأعوام 1957-1964 وهي ”نتسيرت عيليت وكرميئيل ومعالوت” على أراض عربية أولاً وبغية تقطيع التواصل الجغرافي للقرى العربية. خلال ذلك اليوم التاريخي قُتل ستة من المواطنين العرب وجُرح تسعة وأربعون شخصًا واعتقل ثلاثمائة عربي، أما عدد المصابين من أفراد الشرطة والجنود فوصل عشرين. الضحايا الستّ: خير محمد سليم ياسين ابن 23 عاما من عرّابة وكان أوّل الشهداء، في التاسع والعشرين من آذار مساء، رجا حسين أبو ريّا ابن ثلاثين عاما من سخنين، خضر عيد محمود خلايلة ابن ثلاثة وعشرين عامًا من سخنين، خديجة قاسم شواهنة ابنة ثلاث وعشرين سنة من سخنين، رأفت علي زهيري ابن واحد وعشرين عاما من مخيّم نور شمس في قضاء طولكرم واستشهد في الطيبة، محسن حسن سيد طه، ابن خمسة عشر ربيعًا من كفر كنّا. وقد أقام أهالي طيبة بني صعب نصبًا تذكاريًا لرأفت في الساحة العامّة حيث تجري احتفالات ذكرى يوم الأرض فيها سنويا. وفي هذا السياق لا بدّ من التنويه بشيخة يوسف أبو صالح السخنينية التي لاقت حتفها في 30/3/1976 في أرض الجميجمة بسبب استنشاق الغاز المسيل للدموع، الذي أطلقه الجنود الإسرائيليون. كما وتمخّض عن ذلك اليوم جوّ من التمرد وانبلاج صحوة وعي وأزمة انعدام الثقة ما بين الوسط العربي والدولة وهذا ما كان يحذّر منه ويخشاه جهاز المخابرات العامة، ”الشاباك” وهو اختصار-شيروتي بيطحون كللي- خدمات الأمن العام
انطلقت الشرارة الأولى للمواجهات في دير حنّا فعرابة فسخنين. تحركت الشبيبة الشيوعية، التنظيم الشبابي الفاعل الوحيد آنذاك في الوسط العربي في البلاد. صدحت حناجر الشباب بالشعارات مثل ”جليلنا ما لك مثيل وترابك أغلى من الذهب، بالروح بالدم نفديك يا جليل“ ومما يجدر ذكره أن صاحب هذه التسمية ”يوم الأرض” كان المرحوم صليبا خميس (ت. 1994)، أحد قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي والسكرتير الأول للجنة الدفاع عن الأراضي.
استخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1948 وحتى يوم الناس هذا أساليب شتّى في الاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية وهي من أعزّ الأمور للعربي، بغية إقامة المدن والقرى والكيبوتسات اليهودية لا سيّما في الجليل حيث الأكثرية السكانية عربية. ويُعتبر الاستيلاء على الأراضي أحد الأهداف السامية والملحّة للحركة الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر، منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية العام 1897، والشعار تهويد الأرض، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! إن أملاك العدو هي ملك للحكومة الإسرائيلية كما أعلن رئيس حكومة إسرائيل، دافيد بن غوريون البولوني الأصل 1886-1972. فعلى سبيل المثال، تمّت مصادرة 1200 دونم لإنشاء مدينة الناصرة العليا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين و1550 دونمًا لإقامة مدينة كرميئيل- كروم الله- (تمعّن في هذا الاسم) في أوائل الستينات من القرن ذاته. وبناء على بعض المصادر فإن ما بين 40%-60% من الأراضي التي كانت بحوزة العرب وهي 2.4-.3.6 مليون دونم قد صودرت في الثامن عشر من تشرين الثاني عام 1975. كما وصودر في الفترة الواقعة ما بين العامين 1948-1972 أكثر من مليون دونم. وفي اليوم الأخير من شباط العام 1976 صودر واحد وعشرون ألف دونم من أراضي عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواد، ضمن مخطط تهويد الجليل.
بمبادرة الحزب الشيوعي الإسرائيلي أقيمت لجنة الدفاع عن الأراضي في الخامس عشر من آب العام 1975 في الناصرة وفي الرابع عشر من شباط عام 1976 عقد مؤتمر شعبي بسخنين ضد المصادرة وفي السادس من آذار نفس العام اجتمعت لجنة الدفاع عن الأراضي بالناصرة وأعلنت الإضراب العامّ في يوم الثلاثاء الموافق للثلاثين من آذار 1976. ويشار إلى إنّه في الخامس والعشرين من نفس الشهر توجّه بعض رؤساء المجالس المحلية العربية الموالين للسلطة مطالبين بإلغاء الإضراب إلا أنّ طلبهم هذا لم يُقبل. ولجنة المتابعة ما زالت حيّة تُرزق، تصرخ وتستنكر وتدعو للقيام بالاحتجاج والاستنكار والمظاهرات والمسيرات والاعتصامات في مناسبة يوم الأرض.
كتب شاعر فلسطين، محمود درويش (1941-2008)
أسمّي التراب امتدادا لروحي
أسمّي يدي رصيف الجروح
أسمّي الحصى أجنحة
أسمّي ضلوعي شجر
واستلّ من تينة الصدر غصنا
واقذفه كالحجر
أما الشاعر الفلسطيني الآخر، توفيق زيّاد (1929-1994) فكتب
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا ... على صدوركم باقون كالجدار
وفي عيونكم، زوبعة من نار
من الواضح أن الأقلام الأدبية العربية قد تفاعلت مع ما اعترى عرب البلاد من مآس وأحداث مثل مجزرة كفر قاسم والنكسة وأكتوبر 2000، إلا أن ليوم الأرض كان القدح المعلى (أنظر ”مجلة الشعراء” ع. 12).
من يوم الأرض إلى مخطّط الجهض فلا قيمة للأرض بدون أهلها ولا للأهل وطن دون الأرض والسيادة التامّة. في السادس من آذار العام 1998 كشفت الصنّارة، صحيفة عربية تصدر في الناصرة منذ 18/3/1983 وتصدر الآن مرتين أسبوعيا، يومي الثلاثاء والجمعة، عن مخطّط مذهل في الستينات من القرن العشرين رمى إلى تحديد النسل لدى العرب في إسرائيل. إلا أن ذلك المخطط أو المشروع لم يُصادق عليه في الحكومة الإسرائيلية وذلك إثر مداولات كثيرة إزاء توزيع وسائل منع الحمل. كان هدف الحكومة الإسرائيلية من وراء المشروع المذكور، كما لا يخفى على أحد، حلّ المشكلة الديموغرافية الناجمة عن التزايد الطبيعي الكبير لدى العرب الفلسطينيين في إسرائيل. ويُعتبر ذلك التزايذ، على ضوء بعض الإحصائيات، من أعلى النسب في العالم بأسره وعليه فقد خشيت منه الحكومة الإسرائيلية البنغوريونية واعتبرته خطرا أمنيا لا بدّ من تلافيه والآن يتحدثون عن نقل قسري من عرب الداخل إلى وراء الخط الأخضر.
قامت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون وباستشارة الاختصاصيين بإعداد اقتراح حمل اسم ”السيطرة على الولادة لدى العرب“ ليس من أجل رفاهية الأسرة العربية بل لتخفيض عدد أفرادها بقدر الإمكان. وقد أعلنت الصِنّارة بأن هذه الوثيقة في غاية السرية ولم تنشر بعد رغم قدمها الزمني. ومما يجدر ذكرُه بأن الصحيفة كانت قد قدّمت استجوابًا خطيًا لثلاثة زعماء إسرائيليين بشأن المخطط آنف الذكر وهم: أولا: شمعون بيرس، رئيس حكومة سابق ورئيس دولة سابق، مساعد بن غوريون وسكرتيره، مدير وزارة الدفاع آنذاك. ثانيا: يتسحاق نافون، رئيس دولة سابق، سكرتير ومقرّب لبن غوريون. ثالثا: حاييم يسرائيلي، موظف رفيع المستوى في وزارة الدفاع، وحصل العام 1998 على جائزة إسرائيل على خدماته الجليلة من أجل أمن إسرائيل.
وقد ضمّ الاستجواب ثلاثة أسئلة وهي
أولا: أصحيح أن حكومة إسرائيل قد أعدّت في الستينات أو في أية فترة أخرى خطةً لتحديد النسل لدى العرب في البلاد؟
ثانيا: أصحيح أن أساس الخطة هو توزيع حبوب منع الحمل للنساء العربيات؟
ثالثا : أصحيح أن عقاقير منع الحمل قد فُحصت حقّآ؟
لم يُجب أحد من الثلاثة خطيًّا على هذه التساؤلات. نافون اكتفى بإجابة شفوية مفادها: ”هذه القصة كذبة وفرية لا أساس لها“ أما يسرائيلي فقال إنّ الأمر مختلف ولم يُفصح، أمّا بيرس فلم يحرّك ساكنا. ومما يجدر ذكره بأن الصنارة قد اتصلت ببعض الموظفين الكبار في الدولة إلا أنهم احتدّوا غضبًا وحنقًا وقالوا إنّهم كانوا خارج البلاد آنذاك في مهمّات دبلوماسية ولا شأن أو صلة لهم ببني يعرب. وقد عُرف عن دافيد بن غوريون بأنه كان ”يتسلّى“ ويطيب له التحدّث والعمل من أجل تهويد العرب في البلاد أو ترحيلهم إلى أمريكا الجنوبية.
بعد الأرض والجهض مسلسل عُرض على القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي في حينه بعنوان يمكن تعريبه ”النهضة” وذلك بمناسبة مرور نصف قرن على قيام دولة إسرائيل وبالنسبة للعرب بداية النكبة. وفي إحدى حلقات هذا المسلسل يدور الحوار حول العرب في إسرائيل والمتحدّث فيها هو السيد نافون ذاته. واستنادًا إلى تلك الحلقة يمكن القولُ بأنه كانت هناك خطة باسم ”حملة يوحنان“ هدفت لترحيل العرب من الجليل إلى أمريكا الجنوبية. وقد سافر نافون بنفسه إلى الأرجنتين في حينه لإبرام صفقة تبادل بين أراضي اليهود في ”مندوسا“ وأراضي العرب في الجليل. إلا أن السيد نافون قدِ اكتشف أن مثل هذا المشروع غير واقعي. اليهود هناك في الأرجنتين كانوا بادىء ذي بدء فقط فلاحين وأن العرب هنا في الجليل لن يتهافتوا على الترحال والسفر إلى الأرجنتين.
جاء في مقدمة المذيع قبل تعليق نافون في الحلقة ما يلي: ”بعد قيام دولة إسرايل سنة 1948 بقي في البلاد نحو مائة وخمسين ألف فلسطيني واعتبرتهم الزعامة الإسرائيلية وقادة الجيش ”لغما خطيرا أو طابورا خامسا وذوي ولاء مزدوج”، وطُرحت بعد ذلك أفكار مختلفة حول مصيرهم، كما يعلم كل صبي علت الأصوات المنادية بـ” لا جنسية بدون ولاء” وبالأصل “בלי נאמנות אין אזרחות“ وغيرها من سنّ قوانين عنصرية ضد الأقلية القومية العربية في البلاد.
وأخيراً وليس آخرا فإن ”الصنّارة“ قد نشرت قبل سنوات خبرا من كتاب للسيد نور الدين مصالحة بالإنجليزية
More Land Less Arabs
أي: أكثر أرضا وأقلّ عربا، حول خطة إسرائيلية لعملية استبدال عرب جليليين بيهود أرجنتينيين . وهذا ما يقرّ به نافون اليوم
ختاما لا بد من الإشارة إلى أن عدد العرب في إسرائيل من المسلمين والمسيحينن والدروز في الوقت الراهن زهاء المليون والنصف ويشكلون حوالي ١٨٪ من السكّان. ويعيش العرب في ثلاث مناطق رئيسية، الجليل الشرقي والغربي والمثلث والبدو في الجنوب ويشكل عدد أعضاء الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، حوالي العُشر من المجموع الكلي للأعضاء وهو مائة وعشرون.
يبدو أننا لا نخطىء إذا ما قلنا إنّ هذه الأقلية العربية القومية فى إسرائيل هي الوحيدة التي كانت تحمل حتّى قبل بضع سنوات بطاقات الهوية الشخصية وفيها التعريف ”عربي“ تحت بند ”الملّة”. كما ولهذه الشريحة البشرية أسماء وألقاب عديدة نذكر منها، على سبيل المثال، عرب 48، عرب جوّا، عرب إسرائيل، العرب الإسرائيليون، عرب رغم أنهم إسرائيليون، الجوييم، المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، أبناء الأقليات، غير اليهود في إسرائيل، الحاضرون الغائبون، مواطنو الدرجة الثانية، عرب الخط الأخضر، (ينظر في: كي لا ننسى، 25 عاما على يوم الأرض، إعداد خالد عوض، الناصرة، 2001, 112 ص. ، الكتاب الأسود عن يوم الأرض، اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي في إسرائيل، حيفا 1976، غازي فلاح، الجليل ومخططات التهويد، بيروت، 1993.
بعد يوم الأرض صدر تقرير بنفنيستي لعام 1976 وبُعيد الهبّة في أكتوبر عام 2000 وسقوط ثلاثة عشر مواطنًا عربيًا صدر تقرير لجنة أور لعام 2002، ربع قرن من الزمان يفصل بينهما وكلاهما يسعيان لفهم ما جرى في الوسط العربي ودراسة سبل إعادة السيطرة المحكمة على الأقلية العربية القومية في البلاد. يبدو لنا أن لسان حال هذه الأقلية بغالبيتها الكاسحة:
هذا وطنّا واحنا هون، والسـؤال الجوهري طبيعة حياتهم في دولة ”يهودية وديمقراطية“ كما تدّعي وهل الضدّان يجتمعان؟ أحقًّا لا يضيع حق وراءه مطالب؟