غريزة الكلام ..
يبدو ان الكلام والتعبير المتكرر شيء غريزي او تطور عن غريزة ، صورة عن طبيعة غريزية .. والغريزة هي قوة دافعة لفعل شيء على المستوى البيلوجي ، بينما المشاركة في التعبير الكلامي المتكرر – خصوصًا الذي يحمل نفس الطابع نفس التوجه ونفس الأسئلة ونفس المستوى في المواجهة دون تطور – هو صورة غريزية على المستوى النفسي والذهني ، او هو قصور غير واعٍ .. اذ كما يبدو هذا واضحاً عند بعض الكتاب .. ومن هنا لا اتفاعل مع ما يطرحه الاصدقاء والكتاب عموماً ، اذ يبدو لي ان الكتابة عندهم غريزة وعادة لذاتها لا تهدف الى وصول لشيء ،لحسم مسألة ،لحل إشكال ومن ثم التحول الى ما ينتج من موقف جديد – سلبي او ايجابي - على سنة التطور .. واذ نحن نعيد نفس الأسئلة ونحصل على نفس الاجوبة ، معنى هذا اننا "مكانك قف والى الخلف در " واخال البعض اذا لم يجد مشاكل يتحدث عنها لخلق مشكلة لكي يتحدث عنها بحكم الغريزة ..واخال العالم البشري خاضع لقانون الدورية الطبيعية وبالكاد يتطور كل بضعة آلاف من السنين خطوة الى مفهوم جديد في الجوهر .. وما شهوة الكلام الا شكل فائض عن تلك الدورية .. والكلام هو شكل من اشكال التفكير وكما تفكر تكتب وتقول ، وتكرار ذلك هو انفصال دائم عن الوعي وخروج مستمر عن الذات وتغرُّب عن الحضور ، هي حركة نفقد من خلالها التواصل الحي المباشر مع محيطنا ومع الطبيعة.. فلنحاول نعمل فاصل بيننا وبين الكلمة التي نريد قولها ، ثم نكبِّر المساحة بيننا وبينها.. ثم .. لنراها جزء من الصمت الذي هو ذاتنا ،وهكذا نكون تجاوزيين ، بمعنى الوعي بالفكر وهو يجري كجزء من مظهر الطاقة الحياتية ..
وفي الواقع الكتابة المتكررة نفسها او الحديث احيانا يكون اضطراري ، يفرضه الآخرون – خصوصًا الحديث – من حيث هو رد على متحدث او على احداث ، كما تفعل الأم مع اطفالها او المدرِّسة مع طلابها او التاجر مع زبائنه او القاضي مع متقاضيه الخ .. لكن الكتابة ليس بالضرورة ان تكون كحديث الغريزة او العادة او الشارع او الخ .. ومن هنا علينا بالتيقظ والخروج من هذا الفراغ الكلامي الى الواقع ..
عملياً ان عدم المحاولة للسكوت - اي إسكات التفكير - او لجمه وعدم السماح له بالخروج الى التجسد في تلك الاشكال نفسها من التعبير ، يشبه حلم يحاول عبثاً ان يصبح واقعاً ، او كتعطش الى الماء في المنام ، وفي المنام يمكنك ان تشرب نهر وتبقى في ظمأ كأنك لم تشرب نقطة واحدة .. وهنا تعيدنا فكرة اليقظة مرة اخرى الى ذاتها ، واليقظة من التفكير الى ما وراءه من حضور هو التحدي لقهر شهوة الكلام ، بل اكثر من ذلك اذ ان الاتحاد مع الذات ليس مجرد مواجهة لمشكلة الكلام وعبثه ، بل مواجهة لمشكلة الغيب والزمن والشيخوخة والخرف ومعنى الحياة والأشياء ..
وانا هنا اشعر انني امشي على رؤوس الكلام كما لو اخرج من ساحة حرب بعد انتهائها، بين قتلى لا يشعرون بي ، وبعض جرحى يشتمونني وبعض منهم يشكرني وبعض آخر يستنجد .
كميل فياض