إحياءً لنهج كمال غطاس، لا رثاءً له:
شجرة الزيتون العصيّة على الموت
سميح غنادري
توفي كمال غطاس (أبو مازن) بتاريخ 11 نيسان 2017 بعد أن بلغ من العمر 92 عامًا. هل حقًا مات، وهل يتوفى الحي الباقي في الذاكرة الوطنية والقومية والإنسانية لوطنه وشعبه وبلدته ولدى مَنْ عرفه؟ كم من أحياء فوق التراب أمواتًا يُحْسبون، وكم من مدفونين أمواتًا في المقابر أحياءً ما يزالون.
حيٌ وحيُ أنتَ. فقيرًا كُنتَ، لكنك غنيّاً ثريًا بمبادئك وقيَمك عِشتَ. لم تتعدَ مساحة بيتك 44 مترًا مربعًا، لكنه اتسع لجميع الناس. تعلمتَ حتى الصف الخامس الإبتدائي وأصبحت عاملاً حين بلغ عمرك 12 عامًا فقط، لكن صرتَ أستاذًا لعموم طالبي المعرفة السياسية والإجتماعية. على كتفيك صعدت أجيال تلو أجيال من مناضلين وقادة محليين وأكاديميين ومثقفين.
بيديك بذرتَ الأرض اليباب بالسنابل، والبساتين اليابسة بالفواكه، والحدائق الذابلة بالورود والنعناع، ولم تنس غرس أشجار الصبار. شوكًا لأعداء وطنك أصبحتَ، ورائحة عُطرة وطعمًا حلوًا لشعبك كنتَ وما زلتَ. حملتَ دمك على كفيّك ونعشك على كتفيك في زمن عزّ فيه النضال، في أواسط القرن الماضي، وقاومتَ. بالإعدام هددوك وما تراجعتَ أو وهنتَ. جَسورًا كنتَ في شبابك، شجاعًا بقيتَ في شيخوختك، وما انحنيتَ.
جئناك جموعًا يا شجرة الزيتون المعمرّة والمثمرة. عصافيرًا صغيرة بين خضرة أوراق أغصانك تفيّأنا، ومن ثمرها أكلنا وبزيتها غمسنا لقمة عيشنا. وهناك بنيْنا عشوشنا وفقسّنا فراخًا. كبرنا ونمت أجنحتنا فتعلمنا التحليق من فرع إلى آخر. ظهرت مناقيرنا فشحذناها على جذع الشجرة، وانطلقنا وطِرْنا نسورًا تطاول السماء كرامة وعزّة وطنية قومية وإنسانية أمميّة.
أخالك يا رفيق كمال توبخني، وأنت في قبرك، على هذا الرثاء. وتهيب بالناس مطالبًا بمواصلة المشوار لا البكاء. لكني لا أُرثيك. حيٌ، حيٌ أنت. شجرة الزيتون لا تموت. وإن ماتت لا تُدفن، بل تموت وتبقى واقفة منتصبة القامة. وحتى عندها تكون قد خلّفت على وقرب جذعها شتلات تواصل حياتها.
لن أستعرض المحطات النضالية لحياتك منذ ما قبل نكبة الـ 48 وحتى وفاتك جسديًا. "سأرثيك" من خلال تدوين ما شاهدته وسمعته وعايشته وتعلمته منكَ وعنكَ ومعكَ، آملاً أن تذوّت الأجيال الشابة من الرفاق والأصدقاء تجربتك فتواصلها. وتبقى أنت حيّاً فيها يا مَنْ بذلتَ حياتك في سبيل إحيائها.
إسمح لي يا أبو مازن أن "أرثيك" بمخاطبتك بيا معلمي ويا أستاذي، في مدرستك تعلمتُ ومن جامعتكَ تخرّجتُ. وأعتز بأني عليك تعرفتُ وعلى يديك تتلمذت.
ذكريات عن ومع الرفيق كمال
نهضتُ من نومي، قبل ثلاث سنوات ونصف، مهمومًا مفزوعًا بسبب حلم ثقيل أشبه بالكابوس. اتصلتُ من بيتي في الناصرة بفاتن ابن كمال غطاس في الرامة متسائلاً عن صحة والده. أجابني بأنه مريض لكنه يتماثل للشفاء. قمتُ بزيارته. يستقبلك أبو مازن وهو في التاسعة والثمانين من عمره كما كان يستقبل الناس أيام شبابه. الوجه بشوش ودائم الابتسام ويشع بالدفء والحنان، والكلام ذمث عطوف، والثياب أنيقة ومتناسقة رغم بساطتها، والذقن حليقة. جميلاً أنيقًا ومحدّثًا لبقًا وذكيًا كان في شبابه. هكذا هو في شيخوخته والمرض ينهش جسده.
تسأله عن صحته وممّا يشكو. تتوقع أن يطول حديثه عن أمراضه وعلاجاته المكثفة والمتكررة. لكن جوابه، ومن خلال ضحكته المعهودة، لا يستغرق دقيقة من الزمن. ثمّ يأخذك بسلاسته المعروفة للحديث عن الهموم السياسية والإجتماعية الوطنية العامة. دام لقاؤنا ساعتين ونصف. هذا الرجل لا يشيخ ولن يموت. همّه الشخصي هو الهمّ العام لشعبه. هيْمن العامُ على الذاتِ، ذابت الذاتُ في العام.
ودّعته دون أن أكشف له قصة الحلم إياه، ولا السبب الحقيقي لزيارتي له. كنتُ أريد أن أقول لك يا أبو مازن، وأنا في حضرتك وأنتَ حي، أني...(!؟). فماذا أقول الآن لك وقد واراكَ تراب المدفن؟ دعنا يا رفيق نتحدث الآن عن ذكريات معك وعنك تخصّ الصالح العام الباقي على مدى الأيام.
اللقاء دون التقاء: رافقتُ عائلتي لقطف أشجار الزيتون. ولأني ولد صغير أوكلني أبي بجمع حبات الزيتون المنسيّات على الشجرة أو على أرضها، والتي غفلَ عن إسقاطها "الفراطون" أو غفلت عن التقاطها "الجوّالات". وبخني والدي حين لاحظ أني لا "أفرط" ولا "أجول" كل الحبّات المتروكات. قلت له: أتركُ بعضها "للبعّار" يابا – ("البعّار" فقراء لا يملكون حقول زيتون. لذلك "يتبعرون" الحبّات المتروكات في حقول الملاكين حال الانتهاء من موسم جمع الزيتون).
ضحك والدي وقال :"هذا الولد طالع لكمال الغطاس". قلتُ :"مين كمال هذا"؟ أجابني :"شيوعي من قريتنا الرامة". سألته :"شو يعني شيوعي"؟ أجابني : "لما بتصير كبير بتعرف".
مرّت سنوات دون أن التقي بالشيوعيين وأتعرّف عليهم. لكني كنتُ قد "عرفتهم" منذ أن شبهني والدي بهم. أن تكون شيوعيًا يعني أن تنحاز للفقراء ولكل مَنْ يعيش على فضلات الملّاكين. وغطاس هو العنوان للشيوعيين، هو نصير الضعفاء والمظلومين، وداعية للحق وللعدالة وللمساواة. هكذا فهمه وقيّمه أهل بلدي.
إضراب الفراطين والجوّالات: يتحدث أهل بلدي الرامة عن إضراب للفراطين والجوّالات حدث في قريتنا عام 1951 وأن كمال غطاس كان من منظميه وقادته. كان بعض الملاّكين يستأجرون فراطين وجوّالات من قرى منطقة الشاغور ومن بدو الكمّانة لجمع موسم زيتونهم، مقابل أجرة زهيدة. الذي يقرر حجم الأجرة قلّة من كبار الملاّكين. ولا يقررونها إلا بعد انتهاء موسم القطاف. أي يعمل العامل شهرًا كاملاً دون أي يدري حجم المبلغ الذي سيقبضه. ويعمل عشر ساعات يوميًا.
يحاول كمال غطاس إقناع القلة المتحكمة من كبار الملاكين بالتخلي عن هذا الظلم والاستغلال، لكنه يفشل. يقوم من خلال التنسيق مع شيوعيين في منطقة الشاغور بتحريض العمال على الإضراب. ينجحون في هذا ويحقق العمال مطالبهم. تقوم شرطة الحكم العسكري باعتقال كمال وبفرض الاعتقال المنزلي عليه يوميًا منذ شروق الشمس حتى غروبها، بتهمة التحريض والتخريب على الملاكين وإحداث "مشاكل" في البلد. ويقوم أحد كبار الملاكين بتخريب حقل الزيتون الصغير الذي كان يملكه يوسف غطاس والد كمال.
لكن الشاب كمال ينغرس في أذهان عموم الناس في قريتنا وقرى المنطقة قائدًا مقاتلاً ضد الظلم، وطليعيًا في تحدّيه للمفاهيم الإجتماعية القروية البدائية تجاه العائلات الكبرى الملاّكة في بلدته وتجاه التعصب الأعمى لقريته، ومدافعًا عن الناس من قرى أخرى. هذا عدا عن كونه مستعدًا لدفع الثمن وللمواجهة وللتصدي لصالح العدالة، دون أن تكون له مصلحة ذاتية مباشرة غير مصلحة الإنتصار للحق.
عندما انتسبتُ لعضوية الحزب الشيوعي في نهاية ستينات القرن الماضي، قلتُ لأبي مازن: يتهمك البعض أنك عاديتَ مالكي حقول الزيتون وأنك أردتَ تطبيق الإشتراكية في الرامة. وهذه نظرة طبقية ضيقة غفلت عن القومية وعن أن جميع العرب يومها كانوا ضحايا للنكبة ولقمع الحكم العسكري الإسرائيلي وللتمييز العنصري، بمن فيهم كبار الملاكين.
يبتسم أبو مازن ويقول: من اتهمني بهذا هم قلّة قليلة من قلّة كبار الملاكين. أصلاً الغالبية الساحقة من فلاحي الرامة يفرطون ويجولون زيتونهم بأنفسهم. لقد حرّضنا على الإضراب بسبب الظلم الصارخ بحق الفرّاطين والجوالات... وهل هؤلاء ليسوا من أهلنا وشعبنا؟ إسأل كبار الملاكين هؤلاء مَنْ وقف معهم ومَنْ استشاروا حين خاضت الرامة "طوشة (معركة) الزيت" في أذار 1952.
"طوشة الزيت": أصبحت هذه يومًا مشهودًا في تاريخ الرامة... وتعود إلى أن السلطة الإسرائيلية الفتيّة ألزمت، في ظل الحكم العسكري وإجراءات التقنين، أصحاب حقول الزيتون في القرية بتسليمها / بيعها فائض محصولها لحاجة بيوتهم للشركات الحكومية بسعر لا يتعدى خُمس السعر المتداول. لذا لجأ الفلاحون إلى تخبئة محصولهم.
اقتحمت قوات الشرطة القرية وبيوتها بهدف الاستيلاء على المنتوج. تصدى لها الأهالي ببسالة برجالها ونسائها أيضًا، وكان كمال بينهم تحريضًا ومواجهة. قامت قوات البوليس باعتقال 30 رامويًا، كان غطاس أحدهم. "فنحن الشيوعيون"، يضيف أبو مازن: "كنا وما زلنا طليعة المكافحين عن حقوق عموم فئات وشرائح شعبنا ضد سياسة التمييز العنصري الصهيوني والقمع السلطوية، ومن أجل الوحدة القومية الوطنية لشعبنا. لكن هذا لا يعني السكوت عن الآفات الاجتماعية وعن الظلم داخل مجتمعنا. ولا يجوز للشيوعي ان يكون تقدميًا وطليعيًا في مجال ما ورجعيًا ومتخلفًا وصامتًا في مجال آخر".
الإنتصار على الهزيمة: كنتُ أجالس جارنا المسن أمام بيته، وذلك بعد أيام معدودات من حرب حزيران 1967. مرّ كمال غطاس وانضم للجلسة. ثم عبَر الطريق طبيب القرية، وحال رؤيته لكمال غطاس قال له : "ولا كمال شو عملتو فينا؟ دعست اسرائيل على رقاب العرب ولن تقوم لهم قيامة بعد اليوم، الجميع خَوَن وانتو الشيوعيين كمان". اجابه كمال غطاس هو يضحك :"بتعرف يا دكتور ليش انهزم العرب؟ لانه بحكمهم رجال مثلك مش مثلي".
علت الضحكات. أما أبو مازن فأسمعنا "محاضرة" مبسّطة عن فساد الأنظمة العربية وخيانة بعض قادتها من سياسيين وعسكريين، وعن أن الانظمة هي التي انهزمت لا الشعوب، وأن المطلوب الآن اصلاح الانظمة العربية. وهذا هو الوقت أيضًا لتصعيد نضال العرب في بلادنا مع القوى اليهودية التقدمية ضد الاحتلال والسياسة الصهيونية العنصرية بحقنا. هكذا ننتصر على الهزيمة.
انبهرتُ بهذه "المحاضرة" التي انشلتني انا الشاب الصغير يومها من الضياع واليأس القاتل والعام الذي كان يملأ أجواء القرية بسبب هزيمة حزيران. لاحظ كمال هذا فسألني إن كنت اقرأ صحيفة "الاتحاد"، ثم ناولني عددًا منها. قرّ قراري يومها بالانتساب للشيوعيين قريبًا... وأصبحت قارئًا لصحيفتهم. وربطتني علاقة "زمالة سرية" بالشيوعي كمال الذي يكبرني بخمسة وعشرين عامًا. ثم انتسبتُ لعضوية الحزب عام 1968، فولدتُ من جديد بفضل أبي مازن، مثلي مثل المئات من قريتي، الذين كان لكمال غطاس ولتعرّفهم عليه الفضل الأساس في جذبهم لعضوية أو صداقة الحزب الشيوعي أو للمشاركة في العمل الوطني العام.
علّمنا النظرية بالممارسة العملية
لجوئي الى بيت كمال: كنتُ طالبًا في الصف الحادي عشر الثانوي حين غادرت بيت أبي في ساعة ليل متأخرة ولجأتُ إلى بيت أبي مازن. قلت له : تخاصمتُ مع والدي لأنه سيترشح للمرة الثالثة في إنتخابات المجلس المحلي القريبة في المكان الثاني في قائمة "الروم الارثوذكس" التي يرأسها حنا مويس، وتضم مرشحين من العائلات المسيحية الكبرى. فأنا لا يمكن أن أدعم قائمة طائفية وعائلية، وسأصوّت لقائمة الشيوعيين. أهنت بهذا والدي فتوتر وقال لي: إنصرف إذًا للعيش عنك كمال غطاس.
إستمع أبو مازن لي دون أي تعليق من قبله. رحّب بمباتي في بيته وقال لي إنه مضطر للخروج من البيت لعمل حزبي ما. أنهضني في الصباح الباكر وألقى عليّ "محاضرة" سلسة عن كوْن الغالبية الساحقة للقوائم الإنتخابية في بلداتنا العربية هي قوائم تعتمد العائلية والطائفية في تركيبتها، وأنه لا والدي حنا غنادري ولا المرشح الأول في القائمة حنا مويس خائنان أو متعصبان طائفيًا وعائليًا، وليس من حقي أنا التلميذ في المدرسة أن اتطاول على والدي باسم الشيوعية. ثم "أمرني" بأن أرافقه للعودة إلى بيتي والإعتذار لوالدي. واضاف غاضبًا: إذا كان إقتراعك لي سيعني مغادرتك لبيتك ومعاداة آل الغنادري... لا نريد صوتك!
عدتُ مع أبي مازن إلى بيتي. سحب والدي بعد شهر ترشيحه لعضوية المجلس بقرار منه. وعلت أسهم الرفيق كمال لدى آل الغنادري. ومن والدي سمعت بعد شهور من تلك الحادثة أن أبا مازن لم يغادر بيته لعمل حزبي عندما لجأت إليه، بل إلى بيت والدي ليطمئنه على أني بخير وسيعيدني في الصباح إلى بيتي.
الشجار في قرية البعنة: وقع شجار (طوشة) في البعنة عام 1960 إثر دهس غير مقصود لسائق (مسيحي) لعابر سبيل (مسلم). لذا اتخذت الحادثة أبعادًا طائفية. قام مسلمون من قرية دير الاسد "بنجدة" مسلمي البعنة. تحرك بعض مسيحيي الرامة "لنجدة" مسيحيي البعنة. تصدى لهم الشيوعي كمال غطاس. واجه بصدره سيارة الشحن التي طافت شوارع القرية جامعة للشباب. ثم اعتلى ظهرها دافعا الشباب إلى النزول منها، وركض إلى بيوت مخاتير كبرى العائلات المسيحية طالبًا منهم ردعهم لشبابهم. وكان يصرخ: مسيحيو البعنة لا يريدون نجدتكم. الحكم العسكري والحكومة الإسرائيلية هم اللذان يريدان من العرب أن "يطبّشو بعضهم" حتى "يبطشوا بكم مع بعض".
ينجح الرفيق كمال في ردع "النجدة" ومنع تسعير الاحتراب الديني بحجة "إنقاذ" مسيحيي البعنة. وبالمناسبة أبو مازن من عائلة مسيحية وأصولها بعناوية ولها أقارب وأنسباء في البعنة. لكنه عربي فلسطيني الإنتماء، شيوعي المبدأ. وستذكر الرامة له هذه البطولة الفردية في المواجهة والتصدي للمفاهيم والممارسات الرجعية القبلية.
الخلية الحزبية: يقف الإنسان مشدوهًا امام مقدرة أبي مازن على النشاط الدائم وانغماسه بقضايا الناس بصغيرها وكبيرها. حيث يكون الناس يجب أن نكون، وإن لم نتفان في خدمتهم وطرح قضاياهم نخون كوْننا شيوعيين – هذا ما كان يردده ويفعله دومًا. تساءلتُ أكثر من مرة: هل هذا كمال واحد ام مجموعة "كمالات"، هل هو غطاس واحد ام مجموعة "غطاسين" قادرة معًا على الغطس في أعماق شتى قضايا الناس؟ وتبقى قريته على اتساعها وقضاياها منطقة ضيّقة عليه، فيساهم مشيًا على الأقدام لعشرات الكيلومترات لتوزيع صحيفة "الاتحاد" وفي تأسيس فروع للحزب في عدة قرى تحيط بالرامة من شتى جهاتها.
يعلّمني أسس التنظيم الحزبي وضرورة العمل الجماعي في الخلية الحزبية والتشاور والالتزام بالتنفيذ. لكني أعرف أن الرفيق كمال قضى سنوات تلو سنوات في عمله الحزبي في قريته... عضوًا وحيدًا تقريبًا. أمازحه: وأنتَ يا رفيق مع من تعقد اجتماع خليتك الحزبية وتتشاور؟ هل تعقده مع صورتك في المرآة وأنتَ تحلق ذقنك في الصباح؟ يرد على مزاحي بالجد: أجتمع وأتشاور مع الناس وأعيش قضاياهم، ولا أُسْمعهم فقط بل استمع اليهم، ولا اتخذ دور المعلم بل أتعلم منهم. ومعًا نتوصل لإتخاذ القرار بالعمل المطلوب للبلدة.
أستذكر جوابه الآن وأستعرض تجربته وممارساته الحزبية فأقول: دخل بيوت كل عائلات البلد وانخرط في كل شرائح المجتمع بشتى أطيافها من عمال بسطاء وفلاحين وتجار وحرفيين ومتعلمين وأكاديميين. لم يقاطع ولم يعادِ أحدًا. جالس أيضًا الخصوم السياسيين، وبعضهم متهم حتى بالعمالة. ناقشهم بهدوء وبحدة أحيانًا، لكن ليس بعداوة. وبحث دومًا عن القواسم المشتركة مع كل من يريد مصلحة البلد والخير للناس، دون أن يهاب من طرح أية فكرة طليعية يريد تعميمها.
وما من مشروع عمراني أو تعليمي أو ثقافي للبلد إلا وكانت له يد فيه. أحبّ الناس فأحبوه. رأى الناس قتاله الدائم من أجل المصلحة العامة لا الفردية، فاحترموه بِمن فيهم أولئك الذين عادوه سياسيًا . من أهل بلدي سمعت تقييمهم لكمال: "إبن دار غطاس شاقق الأرض وطالع منها" ، و"لكمال في كل عرس كبه وقرص". وكشف لي رئيس المجلس المحلي حنا مويس أن كمال كان معارضة بناءة في المجلس وبوصلة للموقف الأسلم. لذا اتخذه مستشارًا سريًا وعقد معه لوحده جلسة قصيرة قبل كل جلسة مجلس لأخذ رأيه بمواضيع البحث ومقترحات القرارات التي سيطرحها لتصويت الأعضاء. هذا مع العلم أن أبا مازن كان يمتنع عن التصويت لصالح رئاسته (يومها كان يجري انتخاب الرئيس من قبل الأعضاء لا مباشرة من الناخبين). ومعروف الدور الخاص للرفيق كمال في تقريب الوطني حنا مويس إلى الحزب الشيوعي ولعضوية الجبهة ومن ثمّ تبوئه رئاسة لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية.
ربطت كمال علاقات زمالة خاصة مع كاهن القرية الأرثوذكسية ومع سائر رجال الدين والشخصيات الإجتماعية لشتى الطوائف. أما بخصوص معلمي المدرسة الثانوية فكان يجتمع مع بعضهم "سرًا" ويوصل لهم صحيفة "الإتحاد" ومجلة "الجديد" الثقافية الأدبية بالخفية حرصًا منه على وظائفهم. انفضحت هذه العلاقة "السرية" حين أظهرت النتائج أن الغالبية الساحقة لمعلمي المدرسة اقترعت لصالح قائمة "الشيوعين وغير الحزبيين" في الانتخابات للنقابة القطرية للمعلمين في البلاد. يومها استدعى مدير المدرسة أبا مازن وقال له :"ولَك اشفق علينا، فضحتنا أمام وزارة المعارف. شو بضرّك لو تركتلنا بضعة أصوات؟". أجاب أبو مازن :"مشكلتي أن ثلاثة معلمين لم يصوتوا لقائمتنا، وأعدك أن أكسبهم في الإنتخابات القادمة".
هذا هو كمال. قيادة الحزب وتوجيهاتها الحكيمة بوصلته، وعموم الناس "خليته الحزبية العريضة". أما أنا الطالب في المدرسة الثانوية وعضو الخلية الحزبية التنظيمية فاستدعاني الرفيق كمال على عجل. قال لي :"علاماتك ممتازة في كل المواضيع الأدبية، لكنك ضعيف في المواضيع العلمية. يا رفيق سميح امتحانات التخرّج قريبة. نريدك أن تواصل تعليمك في الجامعة. فالرجاء الإنتباه. أنتَ شيوعي اذًا عليك أن تُبدع في التعليم وليس في العمل الحزبي فقط. والتعليم سلاح هام لشعبنا". ويستدعيني مرة ثانية حين سمع إشاعة عن علاقة غرامية لي. يشيد بالحُب ويغمرني بنصائح بخصوص السلوك الاجتماعي المطلوب...
اي انسان قائد هذا؟ يحمل كل هموم شعبه وحزبه وقريته على ظهره ويعمل في غالبية ساعات اليوم، ويجد الوقت للإهتمام بالشؤون الشخصية للناس بمن فيهم رفاق شبيبة الحزب. لا ، لم يكن كمال غطاس لا كاتب أبحاث ومقالات ولا خطيبًا على المنصات ولا مفكرًا ايديولوجيًا، ولا أخاله أنه تعمّق نظريًا في دراسة الفلسفة الماركسية والدايلكتيك (الجدل) وعلم المنطق. لقد مارس النظرية بالعمل الإبداعي الميداني لصالح الناس وبينهم ومعهم. وأشهد أنا شخصيًا أني تعلمتُ الفلسفة في ميادين ممارساته، قبل أن أدرسها أكاديميًا.
بطلٌ من هذا الزمان: مقاتلًا شجاعًا وبطلًا على الأعداء كان. لن أحدثكم عن كل ممارساته ومواجهاته الجريئة التي لا يسعها المقال وتحتاج إلى كتاب. لكن لا أستطع الا أن أورد بعض الأمثلة عن بطولاته، باختصار شديد:
يقرأ وهو قاطن في عكا منشورًا لعصبة التحرر الوطني عام 1945. تطالب "العصبة" فيه باعطاء الشعب الفلسطيني حقه في اختيار تركيبة الوفد التمثيلية في المداولات في الأمم المتحدة، لا فرضه من قبل لجنة عربية عليا. تعجبه فحوى المنشور ويقرر توزيعه في السوق في عكا، علمًا انه لم يكن بعد شيوعيًا ولا عضوًا في العصبة – (أخذ المنشور من جمال موسى). تلاحقه مجموعة شباب ورجال بهدف ضربه، وهي تصرخ اقبضوا على الخائن، فيتجمّع الناس. والمتهم بالخيانة يومها يجوز قتله. لا يهرب بل يعتلي كومة من صناديق الخضراوات ويصرخ : "أنا خائن؟ سأقرأ لكم المنشور". يقرأ المنشور، فيصيح أحد الحضور :"هذا ليس خائنًا، هذا وطني أكثر منكم". ويعلو صوت كمال: "إسمي كمال يوسف غطاس وأسكن في البيت الفلاني في عكا، ومَنْ يريد قتلي فليلحق بي إلى بيتي، أنا في انتظاره". وينسلّ من بين الجمهور.
يوزّع منشور الأحزاب الشيوعية العربية (العراقي والسوري واللبناني وعصبة التحرر الوطني) الصادر في تشرين أول 1948، والداعي الى وقف الحرب بين جيش "الإنقاذ" العربي والقوات الصهيونية والداعي إلى تطبيق تنفيذ قرار التقسيم، مفسّرًا أن الإستعمار وأتباعه من القيادات العربية لا يريدان تحرير كل فلسطين وإنما منع إقامة دولة فلسطينية، ومن ثمّ إلحاق أراضيها بدول عربية.
منشور محظور كهذا لأحزاب محظورة يُعرّض كل مَنْ يوزّعه إما إلى الإعدام، أو إلى السجن والتعذيب والنفي، لذلك يجري توزيعه ليلًا وسرًا. يقوم كمال بهذا في قريته الرامة في منطقة الجليل الأعلى التي لم تكن القوّات الصهيونية قد احتلتها بعد. يقتحم بيته في الصباح مسؤول من جيش الإنقاذ ويتهمه بتوزيع المنشور. يُنكر كمال الأمر. يقول المسؤول: بلغنا أنك وزّعته. يجيب كمال: عملاؤكم كذابون مثل حكامكم، فأنا وجدت نسخة من المنشور أمام بيتي، وبالمناسبة هو ممتاز. ويُقال أن طائرة حلّقت بإنخفاض فوق الرامة أمس في الليل وألقت به. يحتد المسؤول ويقول :"وجدنا حجرًا فوق كل منشور متروك عند مداخل البيوت، فهل كان ينزل الطيّار من الطائرة ليضع الأحجار؟". يجيب أبو مازن :"لا أعرف، إسأله". ينصرف المسؤول بعد أن يهدد كمال :"ستأتي برجال من القرية يشهدون بأنهم رأوك وأنت توزعه، وعندها سنعدمك".
لا يختبىء كمال في مغارة في الوعور بعيدًا عن الأنظار، بل يقتحم أحد البيوت في القرية معتقدًا أنه من هذا البيت أتت الوشاية عليه. يقول لمن يجدهم :"أنا الذي وزّع المنشور، لكن سأدعس على رقبة كل واشٍ منكم سيشهد ضدي، وأيضًا على رقبة الأكبر منكم في جيش الحكام العرب الخَون الذي تسمّونه جيش إنقاذ".
في المعتقل: عافته المعتقلات والسجون وتحديد الإقامة دون أن يعوف النضال. مرمغ أنف وأنَفَه بلطجية الحاكم العسكري وقوات أمنه في التراب وبقت قامته منتصبة تشعّ كرامة وشجاعة وعزة نفس. وما من معتقل زُجّ به فيه إلا واستحال فيه إلى قبضة مواجهة ولسانًا صارخًا لصالح عموم المعتقلين وقائدًا حتى لإضرابات داخل المعتقل لاستلال حقوق المساجين.
حين يتقرر في معتقل "عتليت" إطلاق إطلاق سراح معتقلين اعتقلتهم إسرائيل من بلداتنا العربية حال إحتلالها، كان على كل معتقل أن يجيب ضابط السجن حين يذكر اسمه :"حاضر سيدي" وأن يأخذ أغراضه ويذهب للوقوف في منطقة الذين سيُطلق سراحهم. يرفض الشيوعي رمزي خوري هذا ويقول فقط "حاضر". يوقفه الضابط في مكان بعيد عن منطقة المُفرج عنهم. يأتي دور كمال فيجيب بنعم ممطوطة وبصوت عالٍ: نعوووو..م، ويأخذ أغراضه ويذهب للوقوف إلى جانب رمزي خوري. يستغرب الضابط الأمر فيقول له كمال : لن أقول لك حاضر يا سيدي لانه ما فشرت تكون سيدي، عندها ستقول لي قِف بجانب رمزي!
أنقذ البلد ومجلسها المحلي: حدث ذلك عام 1169 في جلسة للمجلس المحلي لإنتخاب الرئيس. والخاص في تلك الجلسة أنه في الانتخابات العامة لأعضاء المجلس حدث انشقاق في إحدى قوائم العضوية إذ قام شخص من القائمة نفسها بتشكيل قائمة خاصة به. وقرّر أن يدعم للرئاسة حنا مويس لا رئيس القائمة السابقة التي انشق عنها والذي سيرشح نفسه للرئاسة في جلسة الاعضاء للانتخابات.
القرية متوترة عائليًا وطائفيًا. تجمّع شباب في الساحة أمام المجلس. قام شاب منهم هو ابن عضو المجلس الذي سيترشح للرئاسة باقتحام جلسة المجلس وضرب بعصاه عضو المجلس الذي لن يقترع لأبيه. وقامت "الهيزعة" وعلا الصراخ. أراد أحد أعضاء المجلس استدعاء قوات الشرطة.
كيف تصرف الشاب الشيوعي كمال؟ دفع بالمعتدي إلى خارج غرفة الاجتماع وأغلق الباب. ومن شباك المجلس خاطب الناس المحتشدين في الساحة أمامه أن اذهبوا لبيوتكم ولا تسمحوا بحرق البلد. ثم قال للذي يريد دعوة الشرطة: الرامة قادرة على حل المشكلة ولن ندعو الشرطة. وأضاف : " خلّوا الأوادم تحِلّها" ، ناظرًا ومؤشرًا إلى والد المعتدي، ومضيفًا "تعالوا نتنافس هون كيف نخدم البلد مش مين عصاته أطول وأعرض".
استمرت الجلسة وجرى انتخاب حنا مويس رئيسًا. وتجذّر كمال غطاس في عقول وتاريخ الرامة بأنه الوطني والحكيم الشجاع والقائد الذي أنقذ البلد من احتراب عائلي وطائفي دموي، والمجلس من خطر حلّه وتعيين لجنة سلطوية لادارته.
التهديد بالقتل: يقوم في عام 1950 شخص بتسليم يوسف غطاس رسالة موجّهة إلى إبنه كمال. يقرأها الإبن، فإذ بها من مجهول من قرية بيت جن يهدد فيها كمال بالقتل إذا لم يكفّ عن زيارة قريته. يكون رد فعل كمال الذهاب فورًا الى بيت جن إلى الساحة التي يتجمع فيها أهل البلد. يقول للناس : أنا كمال غطاس المهدد من أحد أبنائكم بالقتل إذا ما دخلت قريتكم. لماذا؟ لأني أوصل لكم صحيفة "الإتحاد" وأدافع عن حقوقكم وأصادقكم؟
ويتابع "خطابه": مين اللي صادر لكم أرضكم في "الزابود"، ويمنعكم من الوصول الى أرضكم في "الخيط"، ويحرمكم من التصاريح؟ كمال غطاس ولاّ الحكومة وحكمها العسكري؟ يقف رجل من المتجمعين في الساحة ويقول: كمال غطاس في حمايتنا، ولم نرَ منه إلا الخير لبلدنا والدفاع عنّا، ومن يعتدي عليه يعتدي على بيت جن.
أعتذر... وأناشد
استقلت في أواخر ثمانينات القرن الماضي من عضوية الحزب الشيوعي. التقيتُ بكمال غطاس في مناسبة إجتماعية في ساحة كنيسة الرامة، قبل عقد من الزمن تقريبًا. قام أبو مازن حال رؤيتي بإهانتي على مسمع ومرئى الناس في الساحة وبشكل قاسٍ، وهذا ليس من عادته. فتسرعّت أنا ورددت على الإهانة بمثلها. ندمت على تصرفي. وما زالت تلك الحادثة تُثقل على ضميري.
فهل تسمح لي يا أبو مازن أن أصارحك بخصوص حُلمي إياه ومجيئي لزيارتك قبل ثلاث سنوات؟ حلمتُ أنك توفيتَ. وعندما طمأنني إبنك فاتن على سلامتك، قمت بزيارتك. كان هدفي من الزيارة أن أعتذر منك على خطيئتي تلك بحقك، لا أن أعاتبك على خطأك بحقي. مسموح لأبي الروحي ومعلمي ومدرسي أن يُخطىء.
أعتذر منك يا أبو مازن، فهل تسمعني الآن؟ وأصارحك أني كنتُ في شبابي وما زلتُ في شيخوختي مفتونًا بك يا رفيق. واهمس لك أن زملائي في حزب "التجمع" (انضممتُ لحزب "التجمع" من عام 2001 إلى عام 2007)، حين لاحظوا نجاحي في العمل التنظيمي وفي التعامل مع أجيالهم الشابة وطلابهم الجامعيين وتحقيق الإنتصارات لهم، كانوا يسألونني من أين تعلّمتُ هذا؟ فأجيبهم : لقد تتلمذتُ على يدي كمال غطاس!
أرقد هادئًا يا أبو مازن. لقد أعطيتَ أكثر من مقدرة الإنسان عمومًا على العطاء. جسور شجاع ومقدام، وطني مكافح مقاوم، طليعي تقدمي إجتماعيًا، صادق أمين، مثابر صبور جلود، ذكي عاقل حكيم، إنساني حنون محب خدوم، غفور متسامح، ثوري عنيد، هكذا أنت، هكذا أنتَ.
لا، أنا لا أرثيك يا زيتونتنا العصيّة على الموت، بل أناشد الأجيال الصاعدة في حزبك وجبهتك أن تعتمد نهجك في العمل والقولِ واتساع الأفق والتعامل. لا إلى الرثاء يحتاج أبو مازن، وإنما إلى الإحياء... فهل تسمعون وتعون؟