خرائط التيه
قرأتُ رواية " خرائط التيه " للروائية الكويتية بثينة العيسى، الصّادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت وتحتوي على 405 صفحات، وقد صمّمت الغلاف ديمة الغنيم.
بثينة العيسى روائية كويتية وصدرت لها عدة روايات: ارتطام .. لم يسمع له دوي، سعار، عروس المطر، تحت أقدام الامهات، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، كبرتُ ونسيتُ أن أنسى وكذلك مجموعة نصوص بعنوان "قيس وليلى والذئب".
تتميز مواضيع رواياتها بتناولها لنفسها وناسها وما يدور حولها، فتبدو صريحة المعالم مشرّعة الأبواب مما يسهل تناولها والغوص في أعماقها، على متلقّيها مع ثقل حملها.
طرحت العيسى في رواياتها مواضيع متعددة وجريئة وبرعت في تصوير المواقف بأسلوب رشيق ومشوق ومُمَيّز.
في رواية "ارتطام .. لم يسمع له دوي" تتناول قصة فرح الكويتية التي تسافر إلى السويد لبحث علمي فتلتقي بشاب كويتي من "البدون" يعيش في الغربة ويبدأ صراع الغربة والوطن، صراع الهوية والغربة عن الذات.
أما في رواية "سعار" فتتناول قصة سعاد التي تعرض الزواج على حبيبها السابق بعد محاولة اغتصابها من قبل صديق والدها وتغوص في زيف العلاقات الاجتماعية.
أما في رواية " عروس المطر" فبطلتها أسماء ترحل بين المراهقة والنضوج لتتمرًد على العادات والتقاليد المتحجّرة الكابتة والكابحة.
في رواية "تحت أقدام الامهات" تصور عالم المرأة، سلطتها وضعفها ، فليست الجنة وحدها تحت أقدام الأمهات بل أمهات تحت أقدام أنفسهن بسبب رضوخهن للسلطة، أيّا كانت.
في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" تصور حياة عائشة التي يموت ابنها عزيز في سن الخامسة فتتحول حياتها إلى جحيم، متقلبة بين الحزن والألم والأمل والحياة، قاربت الموت مرّات عديدة فتُصدم بعودتها للحياة.
أما روايتها "كبرتُ ونسيتُ أن أنسى" فتتناول قصة الطفلة فاطمة، التي عايشت بزوغ الحركات الدينية التي كفّرت كل شيء، من موسيقى وشعر ورسم، مُعنّفة باسم الدين والتقاليد التي تقمع المرأة في مجتمع ذكوري.
أما في روايتها "خرائط التيه" فتتناول رحلة حج عادية تتحوّل إلى مسلسل رعب وقلق يعيشه فيصل وسمية الكويتيان وهما في بيت الله حيث يضيع مشاري -ابنهما الوحيد- فيَتيها، فلكل منا تيهه الخاص به وكله مربوط ومتشابك ببعضه.
تبدأ الرواية ببيت شعر لأبو تمام :
تاهَت على صورةِ الأشياء صورَتُه حتّى إذا كَمُلت تاهَتْ على التّيهِ
تم تنوّه الكاتبة أن "هذه الرواية هي من وحي الخيال، وأيُّ تشابهٍ، أو تطابقٍ، بينها وبين الواقع.. فهُوَ من قبيلِ سوءِ الحظِّ، ليس لكاتبتِها وحسب، بل للعالم كلّه".
فصول الرواية قصيرة، فلاشات مشوّقة تميّزها لغة الحوار، سمية وزوجها فيصل، فيصل وأخيه سعود، جرجس وروينا وغيرهم.
محور الرواية هو وجع فقدان الابن مشاري ورحلة البحث عنه وما يرافقها من تيه عبر التناقضات بين الحقيقة والوهم والتأرجح بين الشك واليقين - يقين سمية الأم وشكّ فيصل الأب، بين السؤال والجواب؟ وبين الايمان واللا إيمان؟ إنها رحلة حجّ إلى بيت الله الحرام للتقرّب من الربّ فتتحول إلى رحلة بحث عن ابن قد ضاع/أختطِفَ بين ملايين الحجّاج في مكة المكرمة في موسم الحج!
تتناول العيسى بجرأة عالم المنسيين - الطفلة الهندية مريم التي لا يمكن لأهلها فديتها فلا يهتم بفقدانها وضياعها أحد، المُعدمون الذين يقطعون الصحراء من أجل حلم الحياة فيعودون جثامين!، المخيمات المليئة بمجهولي الهويّة وغيرها .
إنها رواية قاسية ومؤلمة، تصوّر أشكالًا من الجريمة، من خطفٍ إلى قتلٍ واغتصاب وتشويه للروح والجسد، ومنها على سبيل الحصر تفاصيل اغتصاب الطفل مشاري، جرائم القتل والاختطاف، المتاجرة بالإنسان وأعضائه وغيرها.
القهر والجوع هو بطل الرواية ومحورها، فيحوّل الاطفال الى مجرمين وعصابة من خاطفي الاطفال، فمن هو المجرم الحقيقي؟ نحن العالم أم العالم المنسي والمقهور؟؟ وتحاول الكاتبة أنسنة الخاطفين والمجرمين لأنهم كانوا ضحايا وتحوّلوا لمجرمين لأن العالم تجاهلهم وتخلّى عنهم !
تُثير العيسى تساؤلات حياتيّة صعبة : ماذا لو وجدت نفسك وحيدا وجائعا بلا مأوى ؟ ماذا لو خُطفت وأُجبِرت على العمل كخاطف أطفال؟ هل تلجأ ساعتئذٍ إلى الله؟ لأن الصلاة ذريعة من يملك الوقت والقلب؟
تصرخ العيسى محتجّة أن لا عدالة في هذا العالم، إلا في جحيم الجريمة وعالمها المظلم "الطفولة هي القاسم المشترك الوحيد، العالم يولول منذ ساعات على اختفاء مشاري (الكويتي الغنيّ) ولا تهتزّ له شعرة من أجل مريم (الهندية الفقيرة)... اليوم، أنت مثلهم جميعًا، تقف على نفس الدرجة من الإنسانية، درجة تحت الصّفر ... أموالك لا تحدث أي فرق، وأنهار النفط تحت قدميك ... لا يحدث أي فرق. أهلًا بك في جحيم العدالة، في المكان الوحيد الذي يساوي بين البشر، في عالم الجريمة" !!!(ص 100)
تتناول العيسى سؤال الشك واليقين "ليس من حقّك أن تعطي طفلك أمانًا كاذبًا، ولكن أتدري أين المشكلة؟ المشكلة أنَّ الأمان كلّه كذبة. الأمان كذبة. حتى لو خبأت طفلك في غرفة بمليون قفل، بحيث لا يستطيع أحد أن يصل إليه وأن يؤذيه، أصغر وأحقر فيروس في هذه الحياة قادرٌ على أن يودي بحياته" (ص 258) وتتساءل عن قيمة الإنسان الحقيقية في عالمنا، على لسان بطلتها روينا : "نبيع كل شيء، ولا مال لدينا لنشتري أنفسنا. ماذا لو كانت قيمة الإنسان ميتا أغلى منها حيّا؟" (في التظهير)
أقحمت الكاتبة اليهود وإسرائيل بموضوع تجارة الأعضاء بتكلّف فاضح لا يخدم النصّ، بتصنّع مبتذل، لا غير، وهي بغنى عن ذلك فجرائمهم لا تُعَدّ ولا تُحصى، التي ارتكبوها ولا زالوا، ولكن ليست في هذا المجال وهذا السياق ممّا يفقد موضوع الرواية حدّته، وجعه وإيلامه.
للكاتبة نظرة فلسفيّة وتساؤلات تجاه الدين والرب ولكن بطلها فيصل الذي يؤمن بأنه "لا يُحمد على مكروه سواه" لم يكن جريئًا ليصرخ صرخة "شروق" في رواية الموتى لا ينتحرون للروائي الفلسطيني سامح خضر حين صرخت :”لا أريد مخدّرات إلهيّة. من تسبّب في مأساتي لن ألجأ إليه ليداويني. جئت لأحاسب الرب على ما فعلَه بي…لم أكذب ولم أسرق ولم أزنِ ولم أعصِ، لكنّه نكّل بي وآذاني. جئت لأقول له لقد خسرتَ مؤمنه لأنك خسّرتها ابنها الوحيد”، فيصِل إلى النتيجة الحتمية بأن ليست كل خسارة... خسارة! وكما جاء في كتابه العزيز "يا أيُّها الناس أنتُمُ الفقراءُ إلى الله واللهُ هوَ الغنِيُّ الحميدُ" (سورة فاطر).
أسلوب الرواية شاعري وانسيابي، مشوّق ويجعل القارئ يتيه بتيهه الخاص به علّه يصل إلى بحر أمانه وإيمانه، أبدعت الكاتبة بإيصال كلّ منا إلى ذلك التيه الأبدي.
المحامي حسن عبادي