اذا كان هذا العالم خاضع بكل ما فيه لقوانين ثابتة او شبه ثابتة ، ولدورات تعود بكل شيء فيه الى ذات المراحل ، (ولادة ، نمو ، قوة ، ضعف ، عجز ، موت ..) يجب ان نفهم ان الكون بكليته أيضاً خاضع لنفس القانون ،كخلايا الجسد والجسد كله .. الدول ، الشعوب ، الحضارات الخ .. وبالتالي كل ما نقوم به فيه رهن أفعال وردود أفعال موافقة حسب ما تضمن فيه من صفات ودوافع .. واذن فالخضوع لقوانين الكون حكمة تتلاقى مع الكون وقوانينه ، ومحاولات التغيير فيه لن تكون الا انحرافاً وشذوذاً ومعاناة اضافية للمعاناة الطبيعية فيه .. عمليا كل ما نشاهده من تطور بشري في مختلف المجالات هو تحت تلك القوانين ، مُستخدِمٌ الانسان لتكويناتها كطاقات مختلفة ( كيماوية ،ميكانيكية، حرارية، نووية، كهربية الخ ) وبتفجير الانسان للذرة ،وبتحليقه في الفضاء وفي غوصه لأعماق المحيطات ، ولصنعه كل ما صنع ويصنع، هو لا يخرج عن قوانين الكون والطبيعة ..
الى ذلك كله ارى وأختبر ان فيَّ روحًا، فيه ما يتعالى على القوانين ويتجاوز الفكر والمحدودات الحسية للجسد ، وهذا يعني الى اننا لسنا مجرد كائن حسي مُسيَّر كَتَبَتْ روايته الأقدار مسبقاً ولا شيء غير ذلك .. وعملياً نحن عن طريق الروح الثابت الحي الازلي ندرك ما ندركه من الكون ومتغيراته ، ودلائل ازليتنا وابديتنا كثيرة ، منها : الكشف والتحقق الروحي ( هو دليل محض ذاتي لا يُنقل ولا يُعار ) ومن الأدلة الحدسية في كل الناس (الرغبة في حياة غير متناهية ،الشوق للكمال والاحاطة بكل شيء علماً وسيطرة ..) هذه نزعات نابعة من عين الأزلي الكامل فينا ،ليس ذلك عبثاً فكل إناء بما فيه ينضح .. ومن هنا علينا ان نسعى بتأمل ورصد وتحقيق في جوهر وجودنا وفيما تعنيه نزعاتنا الطبيعية والفوق طبيعية .. والعمل على تصفية الوعي كي ندرك ما يظهر فيه على حقيقته.. فنحن عمومًا في خليط من روحي ومادي ، أزلي وزمني ، بسيط ومركب ، حي في ذاته وحي بغيره .. وأمام كل هذا هناك اعظم الفنون - على حد وصف احد كبار المتحققين الروحيين – ويقصد " المديتسيا " المختبر داخل الانسان حيث يتم داخله الكشف عن الحقيقة ..واليك ذلك :
كل عمل يقوم به الانسان على المستوى الطبيعي المعروف يتم عبر ثلاث حالات : فاعل ، فعل ، ومفعول به .. مثال لذلك: النجَّار ، النِجارة ، وقطعة الخشب .. واضح ان النجّار ليس هو النجارة ولا هو قطعة الخشب ، كذلك العكس .. وهنا تظهر مشكلة كل من يتصدى للمعرفة الروحية بنفس هذا التقسيم ، حيث يتم الفصل بين المدرِك والادراك والمدرَك ، وهذه الحالة من التجزئة سببها الطريقة الطبيعية المعروفة مسبقاً في تناول الأمور معرفة وممارسة .. اذن لا يمكن الكشف عن الروح على المستوى الفكري والحسي الطبيعي ، اذ الفكر والحواس عناصر تجزئة وتفريق وعزل ، ومعنى هذا ان المعرفة الروحية لا تتحقق الا بتجاوز الفكر والحواس ، عبر تأمل سكوني ورصد داخلي حيادي ، حيث في لحظة توقف الفكر تنتهي التجزئة بين المدرِك والإدراك والمدرَك لتتجلى الروح في أحدية لا ثنائية فيها ، وهذه هي حالة التحرر الكلي ، التي تظهر للعارف في لحظات التأمل والتحقيق قبل سقوط القناع الحسي ( الجسد ) ..
كميل فياض