حُكم من يدُسّ خَطْمَه
قربان الفِسْح
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي كتبها سميح (سلوح) بن الأمين (بنياميم) صدقة الصباحي (هصفري) (١٩٣٢-٢٠٠٢، تاجر ماهر، قاصّ) بالعبرية ونُشرت في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد١٢١٣-١٢١٤، ٢٠ آذار ٢٠١٦، ص. ٣٣-٣٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى أيضًا مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري فقط، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقين، بنياميم ويفت (الأمين وحسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
كنت قد ترجمت هذه القصّة برواية مختلفة (مثبتة أدناه في النهاية) مع عشرين قصّة سامرية أخرى في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، العددان ١٠٩٨-١٠٩٩، ٢٦ أيلول ٢٠١١، ص. ٤٧-٦٢، العدد ١١٠٠، ١٠ تشرين الثاني، ص. ٥٧-٧٢. كما ونشرت هذه الترجمات تباعًا في العديد من المواقع الإلكترونية وللراغب في الاطلاع البحث في غوغل: حسيب شحادة، من القصص الشعبي السامري.
”لا يذكر شبابُنا، إلا القليل عن تلك الفترة، التي فيها كانت الطائفة تسكن في خيام، على جبل جريزيم في فصلي الربيع والصيف. اليوم، الكلّ يسكنون في بيوت فسيحة في قرية لوزا، يستلقون على مسند خشبي أو أريكة (صوفا) ويثرثرون عن هذا وعن ذاك، عن خطّة مياه المجاري، تقوية نظام الكهرباء، اللجنة الجديدة وعن برامج التخطيط المتنوعة، عن النظافة، الماء، وينسى الكلّ تلك الأيّام القاسية حقًّا، التي قضاها آباؤنا على الجبل.
في آخر المساء، أو في ساعة متأخّرة من الليل، يأوي الجميع إلى النوم، يقفلون باب البيت بإحكام (بالقفل والمزلاج)، لا من خارج ولا داخل. مَن كان يفكّر وقتذاك عن الخيام المكشوفة لكلّ مارّ؟ وكان من سكن في التخشيبات أيضًا، ولكن هل كان من الممكن إقفال التخشيبة، وتأمين ما فيها من السرقة؟
كنّا عرضةً لكلّ من مرّ في الجوار، يمدّ يدًا مشتهية مراوغة ليلتقط قطعة أثاث من هنا، وإناء أو صندلا قد ابتيعت حديثًا، بمال ادّخر في خلال مدّة طويلة. الكلّ حفظ ما لديه من مال قليل على جسمه، في أعماق الحضن، أو تحت الإبط، أو في جيب داخلي، تحت حزام البنطال.
كنّا نكرّس وقتًا طويلًا لحراسة حاجياتنا بعناية فائقة. لا يمكن إغلاق الخيمة بإحكام. قبيل ذهابنا للنوم، كنّا نربط جيّدًا حلقات جانبي الفتحة، إلا أنّه كان بإمكان كلّ راغب أن يدسّ يده متى شاء، باحثًا عن غرض/شيء ما في الخيمة، أو حتّى دسّ اليد من تحت قطع الخيمة.
من اللصوص المعروفين وسيّئي السمعة، كان العربي نصير القنّي، من قرية قليل، ويا للسخرية، كانت مهمّــته حراسة خيام السامريين، عندما يكونون منشغلين في تحضيرات قربان الفسح. في الواقع، رغب السامريون في الاستغناء عن خدماته، إلا أنّهم كانوا مُرْغمين لدفع أجرة حارسَين من كفر قليل، ودفع ضريبة أيضًا لأهل القرية، خروف من الخراف المعدّة للقربان، وذلك لضمان عدم تعكير أبناء القرية جوّ الاحتفال بعيد الفسح. هذه العادة الشرّيرة، استمرّت عشرات السنين، حتّى اعتلاء الحسين عرش المملكة الهاشمية، وأمر بإبطالها [الحسين بن طلال بن عبد الله بن حسين الهاشمي، ١٩٣٥-١٩٩٩، مدّة حكمه ملكا ١٩٥٢-١٩٩٩].
لم يفوّت نصير أية فرصة في استغلال تطوافه بين خيام السامريين، بغية الحراسة المفترضة، في إخفاء ’أغراض/أشياء‘ مختلفة. وصلت الحالة إلى أنّه في كلّ نهاية لعيد المصّة، اليوم السابع للفسح، كان السامريون يتحادثون عن أغراض لهم قد سُرقت.
تابع نصير تجواله بين الخيام، وكأنّ الأمر لا يخصّه. وإذا كان شخص ما يتّهمه، تجهّم وجهه كأنّه أُهين، وأقسم ألف مرّة بذقن نبيّه أن لا ضلع له في الاختلاسات. خشوا حتى من اتّهامه. وفي حالة إصرار أحد السامريين مع ذلك، إرجاع السرقة، كان يتحدّث مع نصير برقّة ولطف فيرضى و’يتطوّع‘ بالعثور على السارق. من نافلة القول أنّه في أغلب الحالات، كانت السرقة تعاد إلى صاحبها، وكان نصير يحظى بمكافأة دسمة على حيلته الواسعة. سرّاق ويتقاضى الأجر أيضا!
واحدة، هي اليهودية الروسية، زوجة عمّي حسني (يفت) بن إبراهيم صدقة، أبَت أن تشترك في هذه ’اللعبة‘ الدائرة بين اللصّ/الحارس والسامريين. إنّها ذهبت في أعقاب بعلها في كلّ شيء باذلة كلّ جهدها للتأقلم مع عادات الطائفة، ونجحت في ذلك، إلّا أنّ أعمال نصير لم تتماش مع معايير سلوكها.
ذات يوم، شكت مريم إلى زوجها أنّ إبريق القهوة قد سُرق من الخيمة، ولا تستطيع أن تفهم كيف ومتى كان ذلك. بعد ذلك بيومين، اختفى إبريق الشاي أيضا. الكلّ وجّه إصبع الاتّهام نحو نصير الحارس. قرّرت مريم أن تلقّنه درسًا، إنّها ذات ذراعين قوّيتين وكانت قد ساعدت زوجها أكثر من مرّة، في تسوية خلافات بين العائلات بالقوّة. في يوم النحر، الرابع من الشهر الأوّل، يوم قربان الفسح، أشاعت مريم إشاعة، مفادها أنّ زوجها الموسر اقتنى احتياطًا كبيرًا من القماش القطني الدمشقي، لبيعه للسامريين، وكل هذا المخزون موضوع في خيمته. انتشرت الإشاعة من واحد لآخر، حتّى وصلت أذنيْ نصير الحارس المرهفتين.
عرفت مريم بأنّ نصيرًا سيستغلّ الفرصة، التي يتواجد فيها كلّ السامريين في ساحة قربان الفسح، ليقتحم الخيمة للسرقة من مخزون القماش، إذ صدّق وجوده هناك. لم تنضمّ مريم إلى المحتفلين، بقيت في الخيمة المغلقة منتظرة نصيرًا بصبر. لم تشعل ضوءً لئلا ينكشف تواجدها في الخيمة. بينما كان الجميع منشغلين في تنظيف الخراف المنحورة، سار نصير واثقًا كل الثقة، بأنّ غنيمة كبيرة ستقع في يديه.
كان نصير يقفز (ينطنط) بين الأوتاد وحبال الخيمة، إلى أن وصل المدخل المغلق. التفت يمينًا وشمالًا ولم ير أحدًا. بدا له أنّ كلّ شيء جاهز لتنفيذ السرقة. أوّلًا فحص بيده المدربة مكان الشقّ في الفتحة المغلقة جيّدًا، وحاول بأصابعه القوية توسيعه، كيما يستطيع دسّ رأسه عبر الشقّ، ومن البدهي أنّ أوّل عضو دُسّ كان خَطْمه.
قبل محاولته متابعة دسّ باقي وجهه، أَنّ نصير على حين غرّة، وأُصيب بذعر شديد، أحسّ بألم يتزايد لأنّ أحدًا داخل الخيمة يجذب خطمه بقوّة، ولا يرخي. إنّها مريم التي انتظرت طويلًا هذه اللحظة الذهبية، وَثَبَت مسرعة ومسكت الأنف بأصابع يدها المطوية الثابتة. لم تكتف بالقرص، بل مسكت بقوّة أنف نصير التعيس، الشرّير وتابعت قرص الأنف وجذبه.
صاح نصير وتوسّل ودموع الوجع تذرف أن يفلتوا أنفه، إلا أنّ اليد من داخل الخيمة لم ترخ، جذبت وقرصت بلا انقطاع، إلى أن ازرقّ أنف نصير طورًا واحمرّ طورًا آخر. هرع بعض السامريين في ساحة القربان عند سماعهم صياحه، إذ أنّ خيمة مريم وحسني، لم تكن بعيدة عنهم. بسرعة تجمهر كثيرون أمام المنظر الغريب، نصير يزعق بسبب أنفه المقروص بيد خفية في الخيمة، وأخذ الجميع يقهقهون بالضحك. رفعت الطائفة صوتها عاليًا مقهقهة، هذا قصاص اللصّ.
استمرّت مريم بمسك أنف نصير، ولكن بعد أن أدركت أن السامريين يضحكون على مصيبته وبؤسه، بدأت بتوبيخه على سرقاته. صوت توبيخات مريم العالي زاد من سخرية أبناء الطائفة من نصير. وفي النهاية استجابت مريم لتوسّلات نصير لفكّ أسر خطمه، بعد أن وعدها ووعد زوجها حسني [الذي انضمّ إلى طلبات نصير المتكررة] بإعادة الإبريقين، إبريق القهوة وإبريق الشاي اللذين سرقهما.
وحقًّا في صباح اليوم التالي، عندما استيقظ نصير من غيبوبته وخفّ بعض الشيء عذابُه، أسرع وابتاع إبريقين جديدين لمريم. أصبح نصير محترسًا جدًّا في ألّا يدسّ ثانية أنفه في خيام أبناء الطائفة السامرية“.
حُكم مَن يدسّ إصبعه بأنفه
صلوح بن بنياميم صدقة[1]
كلنا نعيش اليوم في بيوت رحبة في قرية لوزا على جبل جريزيم وقلائل هم الذين يذكرون تلك الأيام الخوالي التي سكن فيها السامريون خلال عيد القربان، على الجبل في خيام كانت مفتوحة من كل جانب. كنّا معرّضين لعابري سبيل، وما أكثرهم آنذاك، يمدّ الواحد منهم يده الطويلة إلى ممتلكاتنا.
وأحد اللصوص سيّئي الصيت كان عربيا من كفر قليل[2] اسمه نصير. وكان هذا اللصّ بالذات مسؤولا عن حماية خيام السامريين (حاميها حراميها) عندما كانوا منهمكين بالاستعدادات لقربان الفسح. أُرغمنا على تشغيل حرّاس من أبناء كفر قليل ودفع ضريبة حتى، خروف، وذلك لتفادي عرقلة سير مراسم عيد الفسح. وقد أوقِف هذا التصرف المشين عندما اعتلى الملك حسين[3] العرش الهاشمي فقد أمر بإبطاله.
لم يفوّت نصير أية فرصة “لإخفاء” أمتعة متنوعة من خيامنا المهجورة عندما كان يتجوّل بينها. وإذا وجّه إليه أحدٌ اصبعَ الاتهام تجهّم وجهُه كمن أُهين وأقسم بالآلاف بذقن نبيّه أن لا ضلع له ولا إصبع في الغشّ والخيانة. وعندما كان يُعرض عليه مبلغ من المال للبحث عن اللص كان “يتطوع” لإعادة السرقة ويتسلّم الأجر.
ومريم، زوجة عمّي، يفت بن إبراهيم صدقة[4]، كانت يهودية من أصل روسي، لم توافق على الاشتراك في هذه اللعبة. وذات يوم، في وقفة عيد الفسح، اختفى إبريق قهوة من خيمة مريم. وقررت مريم، تلك المرأة القوية والشجاعة، أن تلقّن السارق درسا وعبرة.
وقُبيل العيد، أشاعت مريم إشاعة مفادها أن زوجها الثري قدِ اشترى قماشا دمشقيا فاخرا لبيعه للسامريين وكل هذا القماش مخفيّ في خيمته. وانتشرت الإشاعة شفاها من واحد لآخرَ حتى وصلت أذني نصير المرهفتين.
وعندما ذهب المحتفلون إلى مكان القربان، بقيت مريم مستترة في خيمتها المظلمة منتظرة اللصّ. ولما كان جميع السامريين منشغلين بتنظيف الخرفان المذبوحة وتجهيزها[5] خطا نصير بكل ثقة نحو خيمة عمّي. اقترب من الفتحة المغلقة بحبال وحاول بأصابعه توسيعها ليتسنّى له اختلاس النظر. وعندما لاحظ أن الشقّ اتّسع جيدا حاول دسّ رأسه وأوّل ما دخل كان أنفه الطويل.
وقبل أن يدحش نصير باقي وجهه تأوّه فجأة ألما. مريم التي كانت تنتظره، أمسكت بأنفه بأصابعها القوية وجذبته بقوة، وقرصته بحدّة. صرخ نصير من الوجع وتوسّل ودموعه تسيل أن يفلتوا أنفه ولكن دون جدوى، إزرقّ الأنف تارة واحمرّ طورا.
وعند سماع الصراخ والأنين هبّ السامريون من مكان القربان إلى الخيمة وبدأوا بالضحك لما رأت عيونهم. وعندما تأكدت مريم أن أناسا كثيرين قد تجمّعوا أخذت بتأنيب نصير بصوت عال بسبب سرقاته وازدادت ضحكات المجتمعين حول الخيمة. وأخيرا استجابت مريم لتوسّلات نصير وأفلتت أنفه بعد أن وعدها بإرجاع إبريقها، وهكذا كان. وبعد عام لم يعد نصير يحرس خيام السامريين.
[1] .ابن شقيق يفت (حسني) بن إبراهيم صدقة. وعن عيد القربان عام ١٩٣٧ أنظر: מרים גורונצ’קי, זבח פסח והשומרונים בהרגרזים – אביב 1937, דבר 10 במאי 1937, א. ב. חדשות השומרונים, 1084–1085, 17 באפריל 2011, עמ‘ 40–45.
[2] . قرية على سفح جبل جريزيم، ٤ كم إلى الجنوب من نابلس، فيها ثلاث عائلات: عامر، منصور، دياب عدد سكانها حوالي ثلاثة آلاف نسمة.
[3] . اعتلى الحسين بن طلال، حفيد الملك عبد الله بن الحسين (١٩٣٥-١٩٩٩) العرش عام ١٩٥٢.
[4] . أنظر ملحوظة رقم ١٥.
[5] . هذه المرحلة اسمها السميط، صبّ الماء المغلي على الخروف المذبوح لنزع صوفه عنه.