الخامس من حزيران ضربة عسكرية موجعة لكنها شكلت مقدمة للتحرير واعادة بناء للنهج القومي
زياد شليوط
شكلت هزيمة السادس من حزيران 1967، صدمة كبيرة على كل الصعد ولكل الفئات، ومع أنها كانت هزيمة عسكرية واضحة الا أنها لم تكسر عزيمة الشعوب العربية، التي خرجت تطالب الرئيس جمال عبد الناصر بالبقاء ومواصلة المشوار حتى النصر، بعدما أعلن عن تحمله المسؤولية كاملة عن الهزيمة وقدم استقالته. وفي أعقاب تلك الهزيمة المرة عبّر معظم المثقفين والمبدعين العرب عن خيبة أملهم بل وصل البعض الى درجة اليأس، واتفق معظمهم على أن الناصرية أو القومية انتهت مع الضربة العسكرية القاسية التي وجهتها اسرائيل وأمريكا الى العرب آنذاك والتي عرفت باسم "النكسة"، فهل حقا كان ذلك؟ فهل حقا ماتت القومية العربية مع النكسة، أم أنها اتخذت بعدا جديدا؟
بعد التفويض الشعبي الذي حصل عليه عبد الناصر، والذي تجلى في مظاهرات 9 و10 حزيران، عاد بهمة قوية وبدعم مطلق من الشعب يعمل على اعادة بناء القوات المسلحة المصرية على أسس جديدة وباشراف شخصي، وخلال أشهر معدودة فقط بدأ الجيش المصري بتوجيه ضربات موجعة للجيش الاسرائيلي، ودخل في حرب الاستنزاف -وهي الحرب الأولى التي خاضها الجيش المصري مقابل الجيش الاسرائيلي بعد الهزيمة والتي يتجاهلها الباحثون- والتي سجل فيها الجيش المصري نجاحات كبيرة أقلقت وأزعجت أركان الحكم في اسرائيل، وأدى الجهد الكبير الذي بذله عبد الناصر الى نصر أكتوبر 1973.
عبد الناصر يعيد بناء الجيش واعداده لازالة آثار العدوان
هناك من يواصل من العرب اللطم وجلد الذات حتى اليوم وبعد مرور نصف قرن على "النكسة" ويرددون نفس المقولات الموجعة دون اعادة النظر في مقولاتهم تلك. ان قراءة جديدة لمذكرات وزير الحربية المصري الأسبق، الفريق محمد فوزي عن حرب الثلاث سنوات (1967-1970)*، تشير الى أن الجيش المصري سرعان ما استعاد قوته وثقته بنفسه، مما يؤكد على أن الهزيمة ليست قدرا، حيث يذكر فوزي في مذكراته أن بعض الوحدات العسكرية المصرية واصلت القتال أثناء عدوان 67 ولم يكن ما يستدعي انسحابها. لكن انهيار عبد الحكيم عامر، وزير الحربية آنذاك واصداره أوامر غير منضبطة وانقطاع الاتصالات أدى الى مضاعفة الهزيمة.
وكان أول اجراء اتخذه عبد الناصر بعدما حصل على ثقة الشعب مجددا أن قام بعزل عبد الحكيم عامر من منصبه، وهو الذي حاز على ثقة عبد الناصر المطلقة نظرا لعلاقتهما الشخصية المميزة وكانت تلك احدى أخطاء عبد الناصر التي عمل على اصلاحها بشكل فوري بعد النكسة، وتمت عملية عزل لعدد من القيادات الفاشلة وأوكلت مهمة وزارة الحربية للفريق محمد فوزي اعتبارا من 11/6/1967 ورئاسة الأركان للضابط عبد المنعم رياض وتعيين قيادات جديدة للقوات الجوية والبحرية وغيرها، حيث عملت القيادات الجديدة بانسجام تام وجدية كاملة تحت اشراف مباشر من عبد الناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي رافق عملية اعادة تسليح الجيش وتدريبه واختيار جنوده وضباطه من خريجي الجامعات، وعمل عبد الناصر بجهد فوق العادة حيث كان يزور الجبهة بشكل متواصل ويلتقي القيادات والضباط والجنود ويحضر التدريبات والمناورات العسكرية. وقام بعقد خمس لقاءات مع القيادة السوفييتية للحصول على أحدث الأسلحة، حيث تجاوب الاتحاد السوفييتي مع طلبات عبد الناصر وأعاد تسليح الجيش المصري وتزويده بأحدث الأسلحة وتدريب وحداته العسكرية وخاصة الطيران بشكل يكاد يكون مجانيا. الى درجة " عقد صفقات سلاح جديدة مع الاتحاد السوفييتي بواقع ثلاث الى اربع اتفاقيات في السنة الواحدة ابتداء من عام 1968 حتى عام 1971". ( مذكرات فوزي ص 236).
وربما لا يذكر أحد اليوم أن أول عملية عسكرية للجيش المصري ردا على عدوان حزيران جاءت في 1/7/1967 أي بعد ثلاثة اسابيع على النكسة، حيث سجل الجيش المصري نجاحا في معركة رأس العش. وفي 20 ايلول وقع اشتباك كبير عند الاسماعيلية " تكبد فيه الجيش الاسرائيلي خسائر كبيرة"، وبعدها تم تدمير المدمرة الاسرائيلية "ايلات" في 21/10/1967 وفيها 250 فردا بحريا اسرائيليا، وتوالت العمليات العسكرية الجريئة والتي أعادت الثقة للجيش المصري بنفسه. الى جانب عمليات كثيرة لم يعلن عنها وعن نتائجها بناء على طلب عبد الناصر الذي طلب بألا يذاع أي بيان الا بعد التأكد من المعلومات الصحيحة وبدون تضخيم، وهذه كانت من دروس الهزيمة التي تم تجاوزها الى جانب أخطاء كثيرة تم تفاديها وتجاوزها والعمل بشكل مهني ومدروس بهدف ازالة آثار العدوان الهدف اذي وضعه عبد الناصر أمام عينيه.
وكان عبد الناصر في سباق مع الزمن، وكما سبق وتوقع موعد عدوان الخامس من حزيران، توقع ايضا " أن اسرائيل تعتقد أننا سنعبر القناة في صيف 1970" حيث كان الجيش المصري قد أتم استعداداته للعبور، ولهذا انتقلت اسرائيل الى تنفيذ اعتداءات قاسية لزعزعة ثقة الجيش المصري بنفسه، ولم يتورع الجيش الاسرائيلي عن ضرب اهداف مدنية مثل الغارة على مصنع أبو زعبل وراح ضحيتها 70 عاملا في شباط 1970 وفي نيسان شن غارة على مدرسة بحر البقر وسقط فيها 31 تلميذا، لكن الجيش المصري رد بسلسلة هجمات جوية دامت 11 يوما. وهذه الغارات استدعت عبد الناصر الى الاسراع ببناء حائط الصواريخ بمساعدة سوفييتية لصد الغارات الاسرائيلية، وفعلا فقد توقفت محاولات التسلل الجوي اعتبارا من 18/4/1970 كما يذكر فوزي في كتابه، بل انه بفضل الحائط تم اسقاط 8 طائرات اسرائيلية في 30/6 وأسر 5 طيارين. واستكملت كل التجهيزات والاستعدادات في الزمن الذي حدده عبد الناصر " وفي شهر يوليو 1970 تم وضع اللمسات الأخيرة على خطة عمليات القوات الجوية لتحرير سيناء" (مفوزي ص 306). ويضيف فوزي ان الرئيس عبد الناصر أصدر توجيهاته في الاسبوع الاخير من آب بأن تستعد القوات المسلحة لبدء معركة تحرير الأرض بالقوة بعد انقضاء فترة وقف اطلاق النيران بعد 90 يوما اي في اوائل تشرين الأول 1970.
ثلاث سنوات من التضامن العربي واستعادة القومية لمجدها
شكل عدوان الخامس من حزيران ضربة عسكرية قاسية للجيوش العربية، لكنها لم تقتل الشعور القومي لدى الشعوب العربية ولا روح التحدي لدى الشعب المصري، الذي كان مخلصا لقائده ومؤمنا بطريقه، فخرج بشكل عفوي يومي 9 و10 يونيو بمظاهرات تطالب القائد والرئيس عبد الناصر بالعدول عن استقالته وتحمله المسؤولية عن الهزيمة وتحقيق النصر لهم، لأنهم آمنوا أن عبد الناصر هو القائد الذي سيعود وينتصر وبهم ومعه سيحققون النصر، لذا كان الهتاف السائد في تلك المظاهرات " حنحارب"، وهذه المظاهرات دفعت بمشاعر اليأس الى الخلف وزودت عبد الناصر والجيش بالمعنويات بضرورة استعادة الأرض المحتلة.
ووقفت الدول العربية الى جانب دول المواجهة التي تكبدت خسائر عسكرية وبشرية كبيرة، فضربت الجزائر مثالا في التضحية والوقوف الى جانب عبد الناصر، وقبل أن يعلن وقف اطلاق النار أرسلت بطائراتها الحربية الى مصر كتعويض لها عن خسائرها وكي تواصل التصدي للطيران الاسرائيلي. ودعت الكويت الى اجتماع لوزراء الخارجية العرب لجمع كلمة العرب، والتقى خمسة قادة عرب في القاهرة يوم 13 تموز ( رؤساء مصر، سوريا، الجزائر، العراق والسودان) وعقد مؤتمر القمة العربي في الخرطوم اواخر اغسطس 67 بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية والذي أجمع فيه العرب – بما فيهم السعودية- بالوقوف الى جانب دول المواجهة ومدها بالدعم المطلوب الى جانب ر فض الاعتراف والتفاوض والصلح مع اسرائيل، تلك المؤتمرات التي كان لها مفعول وكان للعرب موقف وكلمة رغم الهزيمة العسكرية.
وفي مارس 1968 وقعت معركة الكرامة في الأردن، والتي تصدى فيها الفلسطينيون لمحاولة انزال اسرائيلية، وتكبدت اسرائيل خسارة عسكرية مؤلمة حيث قتل 29 جنديا اسرائيليا و70 جريحا، وكانت لهذه الواقعة تأثير معنوي كبير.
وربما يشكل عام 1969 أهم الأعوام التي رفدت القومية العربية بحدثين كبيرين أعادا الثقة لطريق القومية بقيادة عبد الناصر، حيث نجحت ثورة الضباط في السودان بقيادة جعفر النميري، وتلتها ثورة الضباط الأحرار في ليبيا بقيادة معمر القذافي في الأول من أيلول، اللتان وقفتا دون قيد أو شرط تحت قيادة القائد المعلم عبد الناصر، ووضعتا كل امكانياتهما في معركة التحرير وازالة آثار العدوان. لكن بعد أيام جاء انفجار عمان باقتتال الأخوة الفلسطينيين والأردنيين، وقام عبد الناصر يغالب مرضه وتعبه ويبذل كل جهد واصلا الليل بالنهار لانهاء تلك الأزمة وعدم حرف الجهد العربي عن هدفه، ونجح في ايقاف نزيف الدم في عمان لكنه لم يتمكن من ايقاف نزيف الدم في جسده وانتقل الى رحمته تعالى في أدق الظروف وفي أوج التحضير لمعركة التحرير.
وتوقفت المخططات كما يقول فوزي، وجاء السادات الذي انقلب على طريق عبد الناصر ورفاقه والحريصين على خطه وحرف المسار، وأخذ يراوغ ويلعب بالألفاظ ووعد بعام الحسم الذي أجله حتى أكتوبر 1973 وعبر الجيش المصري، الذي بناه عبد الناصر قناة السويس وباشر بازالة آثار العدوان، لكن تآمر السادات وأوامره بايقاف الحرب قبل أن ينجز الجيش تحرير سيناء، ونقل القوات الاسرائيلية الى هضبة الجولان حيث باشر الجيش السوري تحريرها، فجاء قرار السادات بايقاف الحرب من طرفه عونا لاسرائيل لتصد الهجوم السوري، وهكذا تحول النصر العسكري الى هزيمة سياسية تمثلت في استسلام السادات للارادة الأمريكية وعقد اتفاقيات كامب ديفيد مع اسرائيل وبالتالي الصلح معها والتنازل عن القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، والتي رفض عبد الناصر التنازل عنها مقابل استرجاع سيناء.
على ضوء ما ذكرته في هذه العجالة، أظن أنه ليس من الصحيح الادعاء بأن القومية العربية انتهت أو ماتت مع النكسة، بل العكس فانها شهدت تجددا وانطلاقا جديدين في أعقاب النكسة، حيث استفاد منها عبد الناصر ليعود الى تقويم المسيرة بمنظار جديد وبثقة أكبر في هذا الطريق الذي أجمعت عليه الشعوب العربية، وكان يمكن أن تشهد قفزة كبيرة وأن تجتاح العالم العربي برمته بعد تحقيق النصر الذي عمل من أجله عبد الناصر، لكن القدر والمتاعب التي تعرض لها خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، استطاعت أن تحقق ما لم يستطعه الاستعمار وأجهزة المخابرات الأمريكية، وكانت وفاته في أيلول 1970 المفاجئة كفيلة بايقاف كل تلك المشاريع والعودة بالعرب مئات السنين الى الوراء.
* حرب الثلاث سنوات 1967/1970، مذكرات الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الأسبق، دار المستقبل العربي، الطبعة الرابعة 1986
(شفاعمرو/ الجليل)