جولة أدبية مع:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
ب. فاروق مواسي
....................................
أنشد أبو نواس (ت. 814 م) مطلع خمريّته:
دعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ *** وداوِني بالتي كانت هي الداءُ
كان الشاعر يخاطب من يعاتبه على شربه الخمر، فيقول له: لا تلمني، فإن في لومك إغراء وتحفيز لأن أواصل شربها.
ولم يكتف بالطلب منه أن يتوقف عن لومه، بل يطالبه أن يجد له الدواء لهذا "الداء"،
والدواء هو الخمرة نفسها.
وهذا المعنى سبقه فيه الشاعر الجاهلي الأعشى الكبير، إذ يقول:
وكأسٍ شربتُ على لذّة *** وأخرى تداويتُ منها بها
إذن فالتداوي من "داء" الخمرة يكون بالخمرة.
ولا ننس مجنون ليلى وهو يقول:
تداويت من ليلى بليلى وحبِّها *** كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
يقول إيليا حاوي في تحليله لمطلع قصيدة أبي نواس:
"نحن عندما نتلو البيت الذي نظمه أبو نواس نفهم المعنى، لكننا لا نفهم القصد، ولا نتمكن من أن نتمثّله وأن نسيغه، إلا بعد أن نمعن في التفكير والتأويل، فكيف يكون اللوم، وكيف يتداوى الإنسان بدائه؟ هذه الأسئلة لا يتيسر الجواب عنها، وإنما يقتضي بعض التأمل واستطلاع الأسباب البعيدة من وراء النتائج الظاهرة، وهذا ما لم نكن نشهده في الشعر الخمري القديم.
الواقع أن امتناع الشيء الذي يتوق المرء إليه يجعله أشد حرصًا على الحظوة به، كما أن الشوق يجمّله ويبالغ بقيمته، فتشتد الرغبة في الحصول عليه والتمتع به، وبذلك نرى أن أبا نواس يحوّل المعنى الشائع القديم إذ يجعل له مبررًا نفسيًا...ولعل في ذلك مظهرًا من مظاهر تأثير الفلسفة على الشعر العباسي".
(إيليا حاوي: في النقد والأدب، ج3، ص 86.)
نلاحظ في قول أبي نواس تأثرًا بالبديع وما فيه من نزعة للتأثير على القارئ بالمعاني المدهشة، والتي يستحيل تحقيقها، فالبيت يقوم على الغرابة إلا أنه يعتمد أصلاً على حقيقة نفسية.
ثم هناك إيقاع صوتي:
لومي- اللوم، داوني الداء، وكأن ذلك فيه حركة وصوت وحوار متخيَّل.
..
نجد المعنى نفسه في القصيدة الدُّريدية (مقصورة ابن دُرَيد ت. 837 م)، حيث يقول الشاعر عن الخمرة:
حينًا هي الداءُ وأحيانًا بها *** من دائها -إذا يهيج- يُشتفى
...
أما عن اللوم والعذل فما أجمل قول ابن زُريق البغدادي (ت. 1029 م) بهذا المعنى:
لا تعذُليه فإن العذلَ يولعه *** قد قلت حقًّا، ولكن ليس يسمعه
...
هذا المعنى تردد في شعر الشعراء:
يقول ابن قَلاقِس (ت. 1172 م):
فدعي الملامة في التصابي واعلمي *** أن الملامة ربما تُغريني
ويشبه ذلك قول الناشئ الأصغر (ت. 975 م):
وأخاف إن عاتبته أغريته *** فأرى له ترك العِتاب عتابا
وقبل ذلك قول حارثة بن بدر (ت. 64 هـ):
فلُمني فإن اللوم مما يزيدني *** غرامًا بها إن الملامة قد تُغري
..
المعاني واحدة، وقد وردت في شعر الشعراء، لكن أبا نواس في رده على صديق له- هو شيخ المعتزلة إبراهيم بن النظام (ت. 777م) – وقد عاتبه على احتسائه الخمرة- كان يلخص لنا موقفين فلسفيين : اللوم إغراء، والدواء هو في الداء.