”أن يدخل الجمل في ثَقْب الإبرة أيسرُ من أن يدخل الغنيُّ ملكوت الله“
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تتكرّر هذه الآية ثلاث مرّات في العهد الجديد - متى ١٩: ٢٤، مرقس ١٠: ٢٥، لوقا ١٨: ٢٥، ومعناها العامّ: استحالة دخول الغني ملكوت الله كاستحالة دخول الجمل خُرم الإبرة. ورد ذكر ’الجمل‘، للمرّة الأولى في أسفار العهد القديم، في سفر الخروج ١٢: ١٦، بعد مغادرة أبرام أرض الميعاد ووصوله مصر، فصار له ”غنم وبقر وحمير وخدّام وخادمات وحمائر وجمال“. وفي العهد الجديد، يجد القارىء أن يوحنّا، كان يرتدي رداء من وبر الإبل (متّى ٣: ٤)، وأن يسوع المسيح يؤنّب الفرّيسيين والكتبة ويقول لهم ”أيّها القادة العميان، يا أيّها الذين يصفّون الماء من البعوضة، ويبتلعون الجمل“ (متّى ٢٣: ٢٤). من الصعب جدّا، معرفة سبب استعمال هذه الصورة المبالغ فيها، الغريبة والعجيبة، إذ أنّ أسلوب العهد الجديد يتّسم عادةً بالسهولة والوضوح. يُذكر أنّ قصّة هذا الشاب الفرّيسي، رئيس المجمع، تلي مباشرة قصّةَ مباركة المسيح للأطفال، الذين لهم ملكوت السموات (متّى ٢٩: ١٤-١٥، ١٨: ٣).
هناك وُجهة نظر أخرى، تذهب إلى أن المقصود، لم يكن ’الجمل‘ بل ’الحبل‘، أي أنّ دخول الحبل ثَقْب الإبرة، أسهلُ من دخول الغنيّ ملكوت الله. في هذا السياق، ’الحبل‘ أقرب إلى الخيط الرفيع من الجمل الضخم. من المحتمل وقوع خطأ ما في الترجمة، أو في نسخ اللفظة اليونانية الأصلية. ’الجمل‘ في اللغة اليونانية هو kamilos، أمّا الحبل فيها فهو kamelos، والفرق بينهما كما ترى طفيف جدّا، في حرف علّة.
وفي الپشيطتا (= البسيطة، ترجمة الكتاب المقدّس بعهديه إلى اللغة السريانية)، ترد اللفظة ’چملو‘ وتفسّر بـ ’الجمل‘ من جهة وبـ ’حبل‘ السفينة الغليظ من جهة أخرى، ربّما لأنّه مصنوع من وبر الإبل (أنظر: الآباتي جبرائيل القرداحي المريمي، قاموس اللباب. المطبعة الكاثوليكية، ط. ١، ١٨٩١، طبعة أخرى: حلب: دار ماردين، ١٩٩٤). الجدير بالذكر أن معظم المخطوطات تقرأ ’الجمل‘ وبعضها ’الحبْل‘ (أنظر مثلًا: http://www.jesus4us.com/showthread.php?t=128875).
هناك أسطورة قديمة، مفادها أن أورشليم القديمة، عرفت بابًا باسم ”خرم الإبرة“ لضيقه، وكان موجودًا بجانب بوّابة كبيرة، كانت تُغلق مساء، ولم بمقدور جمل محمّل بالبضاعة المرور من هناك. ويعتقد أن ذلك الباب، هو باب القيامة أو باب الجنّة. من هناك مرّ يسوع في طريقه إلى الجُلجلة، وتلك الفتحة تُمكّن الشخص النحيلَ من المرور، أمّا السمين، وهو عادة الغنيّ، فلا يستطيع المرور. كما وكان على صاحب الجمل، إنزال حمولته ليمكّن الجمل من المرور على ركبتيه بصعوبة شديدة. هذا المشهد، استغلّ في الإرشاد والوعظ الدينيين، على الإنسان أن يتقرّب من الباري باتّضاع وخشوع، على ركبتيه وطرح أتعاب الحياة وهمومها من على كاهله. ومن المعروف، أنّه في سورة الأعراف آية ٤٠ قول مماثل ”إنّ الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفتّح لهم أبوابُ السماء ولا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سَمّ الخِياط وكذلك نَجزي المجرمين“. وهناك من قرأ ’الجُمّل‘ بضمّ الجيم وتشديد الميم ومعناه ’’الحبل الغليظ، حبل السفن‘‘ وسُم/سَم الخِياط أي ثَقْب/خُرم الإبرة.
استخدام مثل هذه المقارنات المبالغ فيها كثيرا كان، على ما يظهر، من سمات ذلك الزمن القديم وحتّى في عصرنا هذا لدى بعض الشعوب. هناك، كما ذكرنا، مسألة ابتلاع الجمل في متّى ٢٣: ٢٤، والخشبة التي في عينك، متى ٧: ٣.
مثلٌ آخر فيه نظر، هو ما ورد في إنجيل يوحنا ١٩: ٢٩ ”فوضعوا اسفنجة مبتلّة بالخلّ على ساق زوفى وأدنوها إلى فمه“. نبتة الزوفى برّية، تستخدم في الطبّ، وقد ورد ذكرها للمرّة الأولى في سفر الخروج ١٢: ٢٢ ”تأخذون باقة زوفى وتغمسونها في الدم الذي في الطست“. وضع اسفنجة مبتلّة على ساق الزوفى ورفعها إلى فم ابن الله المصلوب، أمر شِبه مستحيل. ساق الزوفة قصير أوّلًا، وضعيف معوّج، لا يقوى لغرس إسفنجة فيه وحملها ثانيا. إذا عدنا إلى النصّ الأصلي، اليوناني، نرى أن كلمة hyssopo معناها ’زوفى‘ في حين أن hysso التي تعني ’حربة‘ قد تكون هي القراءة الصحيحة المطلوبة في هذا السياق.
الشقّ الثاني من الآية قيد البحث، يشير إلى أن دخول الغنيّ ملكوت الله أمر عسير جدّا، ولكنّه غير مستحيل. الخالق ليس ضد الغنى والثراء، فهو جعل سليمان الملك وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب وغيرهم من بين الأغنياء؛ المهمّ ّعبادة الله والاعتماد عليه، لا على المال والثروة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا؟ نعرف أن في متّى ١٩: ١٦-٢٤ دار حوار قصير بين يسوع المسيح وشخص غنيّ. هناك تحدّث يسوع عن البِرّ، فسأله رجل غنيّ ”أيّها المعلّم الصالح، أيّ صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا، قال له: أية وصايا؟ فأجابه يسوع: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك وأحبّ قريبك كنفسك“. ردّ الشاب الغنيّ: ماذا يعوزني بعدُ، فكلّ ذلك حفظته منذ نعومة أظفاري؟ قال يسوع: إن أردت أن تكون كاملًا فٱذهب وبِع كلّ ما لديك واعطه للمساكين، فيكون لك كَنز في السماء، وتعال ٱتبعني. بعد سماع الشاب لكلام يسوع هذا، حزِن كثيرًا لأنّه كان ثريًّا جدّا واستهول التنازل عمّا له، آونتها قال يسوع لتلاميذه: الحقَّ أقول لكم، إنه يعسُر على الغنيّ دخولُ ملكوت السماوات، وأيضًا أقول لكم إنّه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت السماوات . وفي نهاية الإصحاح متى ٢٩: ٣٠ نقرأ: وكثيرون من الأوّلين يكونون آخِرين ومن الآخِرين يكونون أوّلين.
لاحظ أنّه قال يكون لك كَنز، وما قال حياة أبدية، إنّه يتكلّم عن مسألة الغنى وتركه، فإنه سيتمتّع في السماء بقَدْر أكبرَ بكثير، ممّا كان بحوزته على الأرض. هذا، لا يعني بالطبع، أنّ كلّ الأغنياء لا يستطيعون دخول ملكوت الله، بل أولائك الأثرياء الذين يظنّون أنّ ثروتهم العظيمة، بوسعها أن تُدخلهم إلى الملكوت. دخول ملكوت السماوات وَفق الديانة المسيحية، كما هو معروف، يكون عن طريق الإيمان الحقيقي بالمخلّص يسوع المسيح الفادي، الذي بذل نفسه لمغفرة خطايا البشر أجمعين. يسوع المسيح، منح نعمة الخلاص للمؤمنين مجّانًا. قارن مرقس ١٠: ٢٣ ”ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله“. القدّيس مرقس باع كلّ ما كان عنده وتبِع يسوع؛ ونذكر أنّ الجَمل من خلق الله، أمّا ثَقْب الإبرة فمن صنع الإنسان. بعبارة أخرى، الغنى ليس بحدّ ذاته ٱثمًا أو خطيّة، ولكن عبادة المال والثروة، بدلا من الله، هي عين الخطية. وقد ورد في متّى ٦: ١٩ -٢٤ ما يوضّح هذه النقطة، وجاء في النهاية: ”لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين/ربّين لأنّه إمّا أن يُبغض الواحد ويُحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر/ويَرْذُل الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال“. الجمع بين حبّ الله وحبّ المال أمر دونه خرط القَتاد.
ذلك الشاب الغنيّ، رئيس مجمع يهودي، الذي وجّه سؤاله ليسوع المسيح حول إمكانية الدخول إلى ملكوت الله، كان بمثابة المثل للأخلاق والأملاك، كما يقال، غِنى روحي وثراء مادي، فماذا ينقُصه إذن؟ المسيحي يفتقر دومًا إلى الباري، إنّه فقير في ثرائه، ففي الغنى كبرياء وتعجرف. وقال القدّيس أغسطينوس، أسقف هيبو (٣٥٤-٤٣٠م.) الكبرياء هي الحشرة الأولى للغِنى، إنّه العثّ المفْسد الذي يتعرّض للكلّ ويجعله ترابا، وأضاف: التقوى مع القناعة تجارة عظيمة .كلّ الخيرات هي من عند الله، وهو يمنَحها لمن يشاء وبوفرة. الخيرات، في الأساس، ظاهرة صالحة، وقد منح الله الإنسان القدرة والفطنة على زيادة الخيرات من أجل رفاهية وخدمة الجميع، وليست كلّ الخيرات صالحةً في نتائجها. مفهوم الصلاح مسيحيًا، يعني كلّ شيء صادر عن الله، أبي الأنوار، والمستخدَم من قِبل البشر من أجل الله (أنظر رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ٦: ١٨؛ متّى ٥: ٤٢). إذ لا صالح سوى الله وحده! الغنى مسيحيًّا، لا يعني الاستغناء عن الله بل زيادة الاتّكال عليه، فالله وحده بمقدوره إدخال الثريّ إلى ملكوته، إذ أنّ غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله. الغنى في ذاته ليس أمرًا سيّئًا، إلا أنّه عبء ثقيل على صاحبه (أنظر مثلًا سفر الجامعة ٥: ١١-١٢؛ ١ تيموتاوس ٦: ٦-١١). يبدو أن الشاب توقّع من المسيح أن يُجيبه: أُترك كتاباتِ موسى وٱتبع وصاياي. وكما قال القدّيس جيروم (٣٤٢-٤٢٠م.) ما فحواه: بيع الإنسان كلَّ ما يملكه وتوزيعه على الفقراء والمساكين، هو ذروة الفضيلة (أنظر لوقا ١٢: ١٥، ٣٣؛ ١٨: ٢٢). الله منح خليقته المال لتحيا حياة كريمة، وقال الربّ يسوع في أعمال الرسل ٢٠: ٣٥ ”إنّ العطاءَ أعظمُ غبطةً من الأخذ“. ومن المعروف أن أغنياء كثيرين في الماضي، مثل نيقوديموس ويوسف الرامي وألعازر وشقيقتيه مريم ومرتا وزكّا العشّار، ساروا على خُطى يسوع، ولم يُطلب منهم التخلّص ممّا كان لهم من مال، بعكس ذلك الشاب الفرّيسي الذي أحبّ ماله أكثرَ من محبّته للخالق، وظنّ أنه بمقدوره الوصول إلى الحياة الأبدية ببرّه الذاتي.
باب ملكوت السماوات ضيّق، وقلائل هم الذين يحظون بدخوله؛ ذلك الباب هو، في الواقع، الربّ يسوع المسيح، وهو مفتوح على مصراعية للجميع: المتزوج والأعزب، الطفل والبالغ، الفقير والغني، رجل الدين والإنسان العادي. بعبارة موجزة، لا الفقر لذاته منقبة، ولا الغنى لذاته مثلبة؛ لا بدّ من إيمان حقيقي بالمخلّص، مقرون بالعمل الصالح لنيل الخلاص، بنعمة ابن الإنسان. العمل لوحده لا يكفي لدخول الملكوت وكذلك الإيمان غير العامل يكون ميتا؛ لا بدّ من إيمان وعمل صالح.