رُتبة الشّرف "آنسة"!!
بقلم: مارون سامي عزّام
ما زالت كلماتك تطاردني كالكلاب المسعورة، تنبح باسمك بصوتٍ عالٍ في ممرّات ضميري الضّيّقة، تحاول القفز علي، كي توقعني أرضًا، لأعترف أنّني أعجبت بك يومًا ما، تحاول جرَّ الماضي نحوي بسلاسل الآمال، لأتمسّك بها بشدّة رغمًا عنّي... عربات حروف الكلمات متوترة ومتشنّجة، ترتطم بعضها ببعض، تسير فوق طُرُقات أوراقي المتعرّجة، فتتحطّم متلعثمةً، وتغدو حادثًا لغويًا مروّعًا...
مع مرور السّنين، انتسبت إلى موقع الفيس بوك، وأنشأت صفحةً، وصرتُ أكتب تعليقاتي، وأنشرها على هذه الشبكة الاجتماعية، لعلّك تقرأها. كلما دخلت هذه الشّبكة، أشعر أنها عبارة عن حقل ألغام اجتماعي، فإذا خطوتُ أي خطوةٍ غير محسوبة، سينفجّر فيَّ حدثًا أخلاقيًا، ينسف كرامتي، لتتطاير شظايا الشّائعات المغرضة بحقّي إلى أبعد مدى، فتؤذي أحبائي.
هذه الشّبكة باتت اليوم مرعبة قليلاً، جرّاء ما أسمعه عن وقوع ضحايا بسببها، مع أنها صادت ملايين الأسماك البشرية، ولست الوحيدة فقط، فصنارة حب استطلاعي علّقتني بها، ولا أستطيع الاستغناء عنها... أقتبس من كُتُب الحب بعض الجُمَل، وأنشرها على موقع الفيس بوك، كي يقرأها جميع أصدقائي، أختار جُملاً بإمكانها أن تحكي شيئًا ما عن شخصيّتي... تُعزّز حصانة كبريائي... تُعقّم نفسيّتي من قذارات تجاربي السّابقة في الحُب! لكن... لماذا سمّيتها "قذارات"؟! مع أنّي خضتها مع الآخرين بمحض إرادتي، إذًا أنا المسئولة فقط عن تلطيخها "بإصراري!" على حفر المزيد من مطبّات الأعذار، حتّى رفضتُ هؤلاء الآخرين.
أمّا أنت أيُّها المعجَب العريق والمعلوم، علمتُ أنّكَ تقدّمتَ في الحياة، وظهرتَ أمامي بقوّة على شاشة المجتمع، رغمَ أنّك معروف بين النّاس، وحاضر دائمًا من خلال كتاباتكَ المنوّعة في الصّحُف ومواقع الإنترنت منذ زمن طويل، مع أنّني لا أحبّذ كثيرًا قراءة الصحف، لانشغالي في عملي طوال الوقت، ولا أجد متنفّسًا لوقتي الخاص.
للأسف ما زلتُ كما عرفتَني، منهمكة مع ذاتي، مشغولة مع صديقاتي، أخرجُ معهن، لنجلس في أحد المقاهي، نتحاور مع الزّمن حول سر مرور الوقت بسرعة، نداعب لحظاتنا في حلبة الانشراح المؤقت، لنعود بعد ذلك إلى بيوتنا، فهذه هي أجندة أيّامي. ساحة الانتظار لا تتّسع لسباق أفكاري نحو هدف محدّد، حتّى تصل إلى نقطة بداية حياة جديدة، مجرّد تسكّع فكري وتشرّد ذهني... أتأمل حياتي وأقارنها مع غيري، فأكتشف أنها ضحلة بموارد التكيّف مع البيئة التي من حولي.
إلى هذا اليوم، ما زلتُ أحمل على صدري رتبة آنسة، وأمامي درب طويلة لأصل إلى رتبة عروس أو أعلى، مع أن هذا الأمر متعلّق بي أنا، فأنا وملازمي النّصيب، اللذان نقرر متى سأحصل على رتبة أعلى، لذلك حاليًا وجدت شبكة الفيس بوك أنسب شيء، لعلّي أتعرّف على شاب يستحقّني، مع أن هذا التصرّف فيه خداع لمشاعري، بعد أن اعتادت تمامًا على الاكتفاء الشخصي، لأنّي لم أعُد أبغي شيئًا من هذا المجتمع، الذي يقيس منسوب تصرّف بعض الآنسات، حسب سُلّم أخلاقي غير منطقي بنظري، فيُحطّم سمعتهن.
إذا فكّر أحد الأشخاص ذات يوم الارتباط بي، لا أريده أن يسحقني اجتماعيًا، كما يفعل بعض المتزّمتين عائليًا، أي أنه عندما يتزوّجني، سيلغي وجودي ويتحكّم بكياني المهني، يفرض علي الإقامة الجبرية في المنزل، كأنّي غدوتُ أسيرة، ليس لي سيرة مهنيّة مشرّفة... بدون مسيرة اجتماعية ناجحة، حافلة بالعلاقات العامّة والشخصية، التي كوّنتها خلال عملي.
إذا قررت يومًا ما الارتباط بشخص مُعيّن أعجبني حضوره، رُبّما أنسجم معه، لكن في سنّي البالغ، لن يكون الحب حاضرًا في قراري المصيري، لأنّي وضعته في صندوق الخرافات وأقفلت عليه منذ أن بلغتُ الثّلاثينيات، واليوم لم يعُد المنقذ الذي سينتشلني من أعماق يأسي، لأنّ هذا الإنسان الذي سيتزوّجني، مهمّته رعايتي والمحافظة علي، وأن يُدافع عن بيتي وكرامتي، ومن جهتي، فلن أهمل واجباتي المنزليّة، سأراعي طلباته سألبّي متطلّباته، ولكن ضمن ضوابط معيّنة نتّفق عليها مسبقًا، مع أنّك أيها المعجب المعلوم، أنت الذي تفهمني وتفقه مفاهيمي، ورغم ذلك، فإنكَ لن تشعُر أبدًا باندفاعي الوهمي نحوكَ، وعندما تلمحني أتغاضاك، أنبّه... أحذّر حرّكاتي بأنّك لم تعُد مُتاحًا لي...
أنا لا أشعر بنقص في حياتي، ولكنّي أشعُر بالملل والوحدة عندما أعود إلى البيت، وعندما أدخل غرفتي، أشعر كأنّي داخلة إلى مُعسكر الماضي المليء بأصوات ذكريات الطّفولة، التي تناديني لألعب معها بالدّمى... مليء بصيحات النّدم على حبّات العمر والسّنين التي تركتها تضيع منّي خلف زوايا الخوف وخلف بوّابات الأيام المغلقة، التي أتاحت لي فرص زواج عديدة واستحقت منّي اهتمامًا أكثر، لكنّي بكل ألم أقول، أنّني آثرتُ الإذعان لظّروف الزّمن الذي خيّرني ما بين رعاية أهلي، وبين الزّواج الإجباري لإرضاء رغبتهم، إلاّ أنّي فضّلت رعايتهم، فارضةً على نفسي سجن العزوبية كغيري من بنات جيلي، فبعضهن تتمحور أيّامهن حول محور رعاية أهاليهن.
يومًا ما سأنال رتبة "عانس" من الدّرجة الممتازة!! لأحصل عليها عندما يصل جسدي إلى سن التقاعد النّفسي، حينها تكون أنوثتي قد غدت قطعة جليديّة، فاقدة للملذّات التي حُرمتُ منها بإرادتي الحديديّة يا للسّخرية!! تحوّلت إلى امرأة أنفر من شهواتي... أشتهي اليوم أن تكون أنوثتي عطري اليومي لأتمتّع بها... أتوق أن تكون دميتي لأرفق بها، لو استطعتُ التغلّب على أفكاري المتخلّفة والمتصلبة عن العلاقة الحميمة بين الرّجل والمرأة، لكان حالي أفضل ممّا هو الآن.
لأنّي آنسة، فأنا محاصرة أيها المعلوم بضمائر ميتة، تفكيرها موحش لا يرحم أحدًا، تنتظر منّي زلّة أخلاقيّة، لتذمّني أكثر ممّا تفعل الآن، مع أنّي أحاول مرارًا أن استمرّ قُدُمًا، أن أكون سيّدة مصيري وبنفس الوقت خادمة أمينة للواقع الذي أعيشه في ظل حاضري، راضية به، ولكنّي أشعر بأنني امرأة عاجزة قاصرة، وبأنّه لا مفَر من فرض عقوبة العنوسة التاريخيّة على نفسي!!...