الحضور الشعري الشَفّاف
للدكتور عناد جابر
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
ليست الكتابةُ اختياراً ثمةَ نداءٌ، يأتي من جهةٍ ما، يُهَجِّجُ الجسدَ ويطِّوِّحُ بهِ الى تخومٍ غير معلومة. ليسَ للنداءِ مكانٌ معلوم. من كل الجهاتِ يأتي، ويَحُثُّ اليدَ على الشروع في خوضِ مصيرها. تخوضُ اليدُ الكتابةَ لتترُكَ للدهشةٍ أن تزاولَ فِعلَها. وفي الديوان الجديد للشاعر الدكتور عناد جابر الذي يحملُ عنوان "وكفرتُ بالصحراء"، نرى الكلماتِ تتوالى، تسابقُ اليدَ، لا تتوانى، تُلقي باليدِ، في أقصى مَطبَاتها، وتجعلُ من رعشاتِ الكتابةِ، زمهرير اليد، هذه اليد المحمومة، التي تخطُّ كلماتِها.
مُستجيبةً لحفاوةِ النداءِ حيثُ يتحدّدُ مصيرُ النص، وترتسمُ أوتارُ أنفاسهِ حينَ يكونُ شعرًا. وهكذا كانتْ القصيدةُ عند شاعرنا عناد اختياراً جماليًا، واختياراً فكريًا في الوقت نفسِهِ مما جعلَ من حضور القصيدة، أحدَ تَبَدِّياتِ الخطابِ الشعري الذي يخوضُهُ شاعرُنا ما بين القصيدة العموديةِ الموزونةِ المقفاة أي ذات الشطرين، والقصيدة الحرّة بطابعها الطليق، متخذًا من الرؤية الجمالية فنّا ومعنىً سبيلاً لشعريتهِ وشاعريَتهِ دون أنْ يتصنّعَ ويتكلّفَ، بل يبتغي الأناقةَ والروعةَ البيانيةَ، والرونق التصويري. ونلمحُ هذه المعاني في السطور التالية من قصيدة "مهرجانُ المشاعر" (ص1) حيث جاء فيها:
ما كانَ تصفيفُ الكلام ورصُّهُ
في قالبِ الوزنِ المُهيّأ
أو على غَبَشِ الغموضِ
أو ابتذالُ القافياتِ المقُحَماتِ
يُعدُّ شعرًا
إن خلا
من دهشةٍ تسبيكَ
ثمَّ تفكُّ أسرَكَ
كي تحلّقَ في الفضاءِ الرّحبِ
منتشيًا كطائرْ
من اللافت أننّا عندما نقرأ الأعمال الشعرية السابقة للدكتور عناد جابر، نلمسُ حضورهُ الشعري الشفّاف رائع التصوير الحافل بالفن والجمال، ونخرجُ بعدَ قراءةِ أعمالهِ السابقة بنتيجة الى أنّ ديوانَهُ الجديد "وكفرتُ بالصحراء" لا يختلف كثيراً عنها في خَلْقهِ الموسيقى والفكرة والصورة، وهو ما يضفي على اسم الشاعر عناد جابر حضورًا ليسَ مُتَصيِّراً، ويطلقُه في أُفقِ الشعرِ كريحٍ هادئة لا تعصف بكلِّ ثابتٍ ومُسْتَقِرٍّ، فإنك حينما تقرأ شعراً لم يُذكر اسم صاحبهِ فإنّ تكهنَكَ ورهانَكَ على أنّ هذا الشعر لعناد جابر يكون صائبًا وصحيحًا لتَميُّز الشاعر في أسلوبهِ ومعانيه والفاظهِ كفرادة، وتوقيع شخصي. كبصمة، وكصيرورة تتماهى مع الذّواقين من القرّاء، وتجعل التموجات الخارجية صدىً للتموجات الداخلية. وأول ما يستلفتُ النظر هو أنّ عناد جابر يسير في بعض شعرهِ نحو أهدافٍ من صميم المجتمع وتستمد قوتَها وعمقها من صدقِ صاحبها وإخلاصهِ بصبغةٍ فلسفيةٍ ثوريةِ المرامي تمزِّقُ الأقنعةَ المزيفة وتكشفُ للإنسان ذاتَهُ في حقيقتها التي لا تعرفُ التشويه والخداع، إنّها عمليةُ غوصٍ على الجوهر المدفون تحت ستائر الوهمِ والضياعِ، إنّها الدعوةُ الصادقةُ الى تعريةِ سلوكياتِ وأخلاقياتِ البعض ممن اتّصفوا بالرياء والزيف والمداورةِ والمواربةِ، فهو يدعونا للوقوف بنصاعةٍ أمامَ مِجْهَر الحقيقة. وفي هذه الأبيات من قصيدة "الناس أجناس" (ص 10) يقول:
وكم في الناس مِن شَهْمٍ شريفٍ
ندِيِّ الكفِّ منضبطِ اللسانِ
وكم مِنْ فاسدٍ فيهم وضيعٍ
شحيحِ الكفِّ مُعتكرِ الجَنانِ
ويضيفُ قائلاً:
رأيتُ الناسَ بعضُهُمُ أفاعٍ
تبثُ السَّمَ في كلِّ النواحي
وبعضُهُمُ تعالبُ ذاتُ مَكْرٍ
فتُنْسيَكَ المساءَ من الصباحِ
وفي قصيدة "أمل" (ص 32) يبدو لنا عناد جابر رجلَ التفاؤلِ، ففي فلسفتهِ التفاؤلية البسيطة هنا نلمسُ في أعماقِها مأساةَ الوجود تحت غطاءٍ من الإشراقِ والتفاؤلِ، فهو يحاولُ أنْ يخرِجَ الإنسانَ إلى أجواءِ النورِ التفاؤليةِ التي تجعلُهُ يعيشُ غارقًا في جماليةِ الأملِ الموجود، موحيًا أنّ العيشَ في أجواءِ التفاؤل إبْعادٌ لليأسِ وظلمةِ النفس والانتحار المعنوي. وأبيات هذه القطعة الشعرية تشير إلى هذا المعنى:
إذا ما الطريقُ بَدَتْ مُقفَلهْ
وهذي الحياةُ غَدَتْ مُعْضِبَةْ
فتمةَ نورٌ برحمِ الزّمنُ
سيولدُ في ساعةٍ مُقبلةْ
ويَصْدُقُ وعدٌ وشمسُ المُنى
ستشرقُ في الظلمةِ المُسدَلةْ
واذا انتقلنا الى الغزل والحب عند الشاعر الدكتور عناد جابر وجدنا أنّه فيضٌ نفسي يتلهف فيهِ الشاعر الى المحبوب، ويضمُّه بمُجملَ كيانِهِ، في حنانٍ، ورقةٍ، وذوْبِ عاطفةٍ، وينقلُه الى ذاتهِ، واذا المحبوبُ فيهِ عاملٌ وجوديٌّ ينقلُهُ من ذاتهِ، المتلهفةِ للقاءِ المحبوب إلى ذاتٍ ملّوعةٍ بالشوقِ والشكوى. فهو يقول في قصيدة "أنتِ الربيعُ" (ص 44):
شَغَفٌ يؤجّجُ لهفتي للقاكِ
ويشُدُّ حبلَ تشوّقي لِسانكِ
ذبُلَتْ ورودي يا حبيبةُ فارفقي
رُشّي عليها كي تعيشَ نداكِ
أنتِ الربيعُ وأنتِ بسمةُ خافقي
وشِغافُ قلبي تنتشي برضاكِ
تهتزُّ إذ يغشى خيالُكِ خاطري
وتذوبُ لوسَمِعتْ هديلَ خُطاكِ
الوقتُ قفرٌ في غيابِكِ يكتوي
بهجيِ وحشتِه ونارِ جَفاكِ
يظهر هنا أنّ المحبوب في غزل شاعرنا هو كل ما في الكون من جمالٍ واشراقٍ وطيب، هو اندفاقُ عناد جابر بكلّ ما عندّهُ من رؤى، وكلِّ ما عندَهُ من وحيٍ، وكلِّ ما يدركُ عقلُهُ من جمالاتٍ، وكلِّ ما تصبو إليهِ نفسُهُ من أحلام. وبهذا نشعرُ بأنَّ وجودَهُ لن يدومَ إلاّ بدوامِ كينونةِ المحبوب محبوبًا، وبدوامِ إندفاقِ نفسِهِ في نفَسِ الشاعر، من هنا الحاحُ الشاعرِ على المحبوب أن يرجعَ، ومن هنا هتافاتُ الشاعرِ وتأوهاتُهُ في إثر المحبوب.
من الملاحظ أنَّ شعرَ الغزلِ والحبِّ يُشكل حصةَ الأسد في ديوانِ الشعار عناد جابر الذي تبلغُ رهافةُ حسِّهِ الأوجَ في قصيدةِ "إعشقيني" (ص 110)، فغزلُهُ هناك كما في معظمِ غزلياتهِ، استحضارٌ تصويريٌّ للمحبوب في شتى مظاهره وشتى آياتِ فتنته، فهو يتناولُهُ تناولاً ذُهوليًا فيهِ انصهارٌ كَيانيٌّ، أو ذوبُ حياتيٌّ، تغرقُ العينُ بالمرأةِ المحبوبةِ استمتاعًا، والحواسُ إفتتانًا وارتشافًا في وصفِ مشهدٍ ممتعٍ بكلِّ دقةِ تصوير، ودقةِ تشبيهٍ، ودقةِ تعبير كأننا أمامَ لوحةٍ أبدعتْها ريشةُ فنانٍ ماهرٍ، فكان شاعرُنا هنا يرسمُ لوحةً صوتيةً يعالجُ فيها اللفظةَ ببراعةٍ ويركبُ العبارةَ بمهارةٍ، ويخرجُ الصورةَ بفنيةِ الاشارة. ويجدرُ في هذا السياق أنْ نسوقَ فيما يلي النص الكامل لهذه القصيدة الشائقة التي تؤطِّرُ للجمالياتِ الواردة هناك:
إعشقيني! واعزفيني
لحنَ حُبٍّ
في سكونِ الليل يسري
هائمًا بين النجومْ
إعشقيني! واسكُبيني
ماءَ زهرٍ
فوقَ أفلاكٍ تناءَتْ
في فضاءٍ من وجُومْ
إعشقيني! وازرعيني
في دروبِ البدرِ ورداً
حولَهُ النحلُ
زرافاتٌ وأسرابٌ تحومْ
إعشقيني! واعصريني
خمرَ عشقٍ
في كؤوسِ الليلِ يُفشي
كلَّ أسرارِ الكرومْ
إعشقيني! واكتبيني
فوقَ خدِّ الوقتِ شِعراً
سوف يبقى
بعد أن تفنى الرجومْ
يتضح مما تقدّم أنّ ديوان "وكفرتُ بالصحراء" يظهر فيهِ الى حدٍ كبير طغيانُ شعرِ الغزل والحب، هذا الشعر الذي يتسِّم بالأناقة والشفافية والرقة والعذوبة والسلاسة والانسيابية، إنّه غزلٌ ينطقُ فيهِ الجمالُ بلغتهِ الجماليةِ الحافلةِ ببراعةِ التصوير والتعبير الرشيق. وبينما نرى هذه الجماليات الغزلية الطاغية في الديوان تحجبُ عن شعر الدكتور عناد جابر تلك الاحجام التأمليةَ وتحرمُهُ من التوغُّلِ في العُمقِ، نراها أحيانًا أخرى تعطيهِ المجالَ لممارسةِ عفويتهِ وتلقائيتهِ وإظهارِ رشاقتهِ النغميةِ وإيقاعهِ الأخّاذ ومعانيه الهادفة لا سيما وأنّه في قصيدة "وكفرتُ بالصحراء" (ص 28) التي يحمل الديوان عنوانها، يتألق شاعرنا بانسانيته التي جرحتها الأوضاع والظروف التي حاقت بشرقنا ووطننا العربي من تهجيرٍ ونوائب بفعل ما سببّته السياسات المتداخلة باسقاطاتها الكارثية التي انعكست بالتشريد والمعاناة القاسية على فئاتٍ عديدة من شعوب المنطقة، فنعى على قيادات العرب التقصير والتآمر تجاه هؤلاء المساكين الذين لجأوا الى السفر في البحر بشتى الأشكال المتاحة وغير المتاحة، ملمّحًا الى تواطؤ حكّام دول صحراء الخليج العربي في نشوء هذه الأزمات الإنسانية الخانقة المدمرّة المميتة مشيراً بالرمز والتضمين الى ذلك من خلال سخريته المتَّسِمة بالمرارة وبالمفارقات، مُتخذًا من البحر رمزَا للحياة والموت في آنٍ واحد، ففيه الخلاص مما آلت إليه حال هؤلاء المشردين المعذبين الهاربين من أهوال الحروب الدائرة من جهة، وفيه الموت المحتمل من الجهة الأخرى، كذلك فإنّ الصحراء في هذه القصيدة بالاضافة الى معناها المباشر، ترمز الى تصحُّر إنسانية أخوته العرب وانحدار وسقوط القيم التي يتبنونها نظريًا، وبالتالي يعلن في قصيدته هذه عن إحباطهِ وابتئاسهِ مؤطرّاً لذلك بأجواءٍ من التشاؤم وخيبة الأمل واليأس مما وصلنا اليهِ، وفي السطور التالية من القصيدة تجسيدٌ لمضمون هذه الإشارات:
يا بحرُ خُذني للمنافي
أو الى موتٍ يُريحْ..
يا ذِلةَ الصحراء!
فاضَ العَهْرُ في جنباتِها
وقُصورِها الكانتْ
خيامًا شامخاتٍ
قاهراتٍ كُلَّ ريحْ
يا ذِلَّةَ الصحراءِ
في الزمنِ القبيحْ!
وخلاصة القول أنّ شاعرنا في هذه القصيدة، يلامس وينخرط في النقد الانساني السياسي الثقافي الاجتماعي طولاً وعرضًا، نزولاً وارتفاعًا، عموديًا وأفقيًا. فهو يضرب هنا في خبايا المحنة ويرتفع مع الكلمات في قراءة وضعٍ مأساويّ، وفي سيمياء المجتمعات العربية على مختلف الصُعُد وبالأخص الصعيد السياسي المأزوم.
وأخيرًا، أجمل التهاني وأصدق التحيّات للشاعر الدكتور عناد جابر مع أطيب التمنيات له بموفور الصحة والتوفيق، وبدوام الابداع والعطاء
تموز 2017