لروحك السلام ... يابا !!!
منذ أربعين ليلة وأنت هناك وحدك ترقد تحت الثرى ....أأنت خائف يا حبيبي ...؟؟؟ أبرد هناك ..؟؟؟ أتشعر بالغربة ...أم أنك معتاد عليها مذ كانت خليلتك بين الناس...أتصلك رائحة الحبق المنثور فوقك ....؟؟؟
فوق رأسك أينعت جدًا جدًا شتلة الحبق ...وكأنها تستمد قوتِها من دمعك أو من هدوئك أو من فِكرك لا أدري يا غالي....
هل تصلك رسائلي عبر بريد صمتي , صمتي المؤجج بك ...بصورتك , بحديثك , بجلستك على كرسيك المركون على حافة الشرفة المطلة على البحر ... باستلقائك على السرير تتابع نشرات الأخبار ومباريات كرة القدم ......
ما زلت أتحدث معك وكأنني أفتح باب الغياب وأطل عليك كما كنت أطل من باب غرفتك وأقول ...صباح الخير يابا حبيبي ....كنتَ تفرح بزيارتي ...كنت أشعر بك حين تقولها بكل وداعة أهلا يابا أجيتي ؟؟؟ .. قوم اشرب القهوة هياني غليتها !!!!
أنا لا أبكي الآن ...إنها غصات الاشتياق تجول بين أروقة روحي كنت أذكرك وأتبع اسمك بدعاء أبوي الله يخليه ...أبوي الله يحميه صرت أقول: أبوي الله يرحمه ....!!!!
مرارة غيابك عصية على مفردات الوصف ....كأن ثقبًا أسودًا يمزق شغاف الروح من بعدك يا أبي.......
أتُفرحك زيارتي ...؟؟؟ أيصلك سلامي ...أتشعر بوقوفي عند شاهدتك ...؟؟؟؟ أترتوي حين أرش الماء فوق ترابك ؟؟؟؟
كنت تكتفي بكأس واحدة زجاجية تشربها بجرعات صغيرة ...كنت أراقبك وأنت تضعها فوق محرمة ورقية مطوية بترتيب متناهي ...
كل ما بك مرتب وكل ما لك مرتب...أغراضك القابعة بجانب السرير...نظارتك ومحرمتك ودفتر يومياتك ...وخطك مرتب قمصانك المعلقة في الدولاب لها ترتيب غريب يسر الناظر...
أعترف لك أنني كنت أستلذ استراق النظر لداخل دولابك فقط لرؤية قمصانك المرصوصة بترتيب يجعلني ابتسم وأقول في سري :الله عليك يابا شو مرتب وأنيق !!!!
ما زلت أحدثك وأسترسل بحديثي ...أسرُد ما بجعبتي من خبايا النفس التي لا أُطلع عليها غيرك ....فأنت ما زلت صديقي ...الفارق الوحيد أنني أتكلم وأتكلم وأتكلم وما عدت أسمع إجابتك...لكني أراك من بين طيات العلياء تومئ بنظراتك المعتادة وتردد "بعين الله " !!!
بعين الله يابا على فراقك ...بعين الله على الغربة بدونك ....!!!
من بعد الأربعين يا أبي وتقلب السنين أيقنت أنني أشبهك بملامح روحي ...بصمتي ...بابتعادي عن الضجيج ..حتى إنني مثلك ما عدت أستغرب شيئا من غرابة هذا الزمان ....من بعدك صرت أشبهك أكثر .. أردت دومًا أن أشبهك فكنت أجالسك لأتعلم كيف أشبهك .....لكنك غادرت بسرعة تفوق لمح البصر... لم تخبرني يا صديقي ..لم تنذرني من لسعات الفراق ...لم تحضّرني لآتٍ بلا أنت ..!! لم تخبرني أنني لن أجدك في غرفتك وأن قهوتك ستبرد قبل أن ترتشفها ...!!
منذ خرجت قسرًا من البروة وأنت دومًا على رحيل ...فوق أكتافك حملت حقائب مكدسة بعدم الاستقرار وفي خزائن الروح ترعرع حلم العودة وشاب على أروقة الانتظار….
كنت عابر سبيل على دروب الأمل يا أبي ....جاءك الرحيل الأخير لتنزل الحقيبة عن كاهلك ....
وها قد ألبستني ثوب اليُتم رغم أن خصلات الشيب اعترتني قبل سنين ...بتُ يتيمة من بعدك كما كنت صغيرة في حضرتك...
أريدك أن تعلم أنك مت ميتة هنية ...ذات صباح مقدر من السماء
كنت بكامل هندامك وترتيبك ارتشفت قهوتك مع الحبيبة ...سألتها عنا ...عن بناتك والأحفاد ورمقتها بنظرة أخيرة فهمت بعد حين انها كانت لحظة وداع وديع ...إن كنت تتساءل عن جنازتك ...سأجيبك كما وصفتها رغم صعوبة المفارقة : كانت لأبي جنازة جميلة ...هادئة ...!!
كُرّمتَ في مشوارك الأخير كما تستحق...كنت محبًا في حياتك فزارك كل الأحباب ..كنت طيبًا فامتلأ بيتنا بالطيبين والطيبات ...كنت مسالمًا فهبت نسائم سلام فوق نعشك يا أبي....ودُفنت كما تمنيت بجوار حفيدك أميرنا ..!!
أعدك أننا لن نفترق يا أبي لكننا سنغير مراسم اللقاء ....سوف أكلمك عن يمين الشاهدة وانا أقلم الورود وأسقي الحبق اليانع فوق قبرك...وأنت حتما ستزورني في منامي ...وفي صلاتي وفي توحدي مع السماء بين الفجر والشروق وحين تداعب روحي نسمات البحر سأعرف أنك هناك وأنك هنا ...أينما وجهت وجهي أعلم يا غالي أنك معي ...ارقد بسلام يابا ..لروحك السلام يابا ...!!
عبور لطفي كيال
(عبور درويش)