كيّال ومكيال
د. حاتم عيد خوري
صديقي أنيس المكنّى بابي الياس يُعرّف نفسَه بانه عربي مسيحي ارثوذكسي "ضابط على الشعرة". وبالتالي، فإنّ لديه قناعة مطلقة بان تبديد عقارات الكنيسة الارثوذكسية المقدسية لن يتوقف إلا بتعريب رئاسة هذه الكنيسة، أي بعبارة اخرى، تحريرها من استعمار الاكليروس اليوناني (على حد تعبيره). هذه القناعة كما يبدو لي، ربما كانت، هي السبب الذي جعل صديقي أنيس، بعد ان قرأ مؤخرا مقالي بعنوان:"الشارب الممْعوط"، يقول لي: "قلبْتلّي راسي".
لقد فهم أنيس من مقالي ايّاه، أنّ الفساد المالي وما يستجلبه من تبديدٍ للعقارات، لا هوية محدَّدة له ولا يحمل جواز سفر معيّن، فقد يكون هذا الفساد يونانيا وقد يكون عربيا قُحّا ايضا، كما حدث في اوقاف كنيسة الروم الكاثوليك في الجليل. هذا المفهوم، كما قال لي انيس، اذهله سيما بعد ان عاد الى كتاب "تواقيع على الرمل" وراى بامِّ عينه، صورَ الوثائق الرسمية كسجلات الطابو وعقود البيع والرهن وغيرها، التي كشفت بالدليل القاطع عن تجاوزاتٍ رهيبة في ادارة اوقاف الروم الكاثوليك، كما راى ايضا انّ تعاقب المطارنة على كرسي ابرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، في السبعين سنة الاخيرة، لم يغيّر شيئا إذ لا فرق ابدا بين مطرانٍ يبيع، ومطرانٍ آخر يخلفه ولا يسائِلُه، وربما لا يسألُه إطلاقا، عمّا قام به من بيع وعمّا ارتكبه من تجاوزات مالية، أي ان المطران الخالف (الخلف) يتستر على تجاوزات المطران السالف (السلف)...
قال لي انيس بحماسه المعهود، انه رغم كل ذلك، فلا زال مقتنعا بانّ تعريب رئاسة الكنيسة الارثوذكسية المقدسية، و/أو خلع البطريرك الحالي واستبداله باخر، هما مطلبان محقّان وشرعيّان وعادلان. غير انه ما لبث ان سكت لحظة وكأنه يعيد النظر في موقفه، قائلا لي بلهجة متروية: "لكن إذا تبين فعلا ان هذين المطلبين لا يشكلان بالضرورة بوليسة تأمين تضمنُ سلامة اوقاف الكنيسة وتحولُ دون نهبها وتبديدها، بيعا صريحا او بيعا مقنعا خبيثا يتم تحت لثامٍ فاضح اسمه تأجير لفترات زمنية طويلة، يحترفه بعض القيمين على الاوقاف على اختلاف اشكالها وانتماءاتها، فما العمل اذن؟". فاجبته على الفور بان سؤاله يذكرني بقصة الآغا (لقب للزعيم صاحب الارض ايام الدولة العثمانية) نايف ابو فارس:
يُروى ان الآغا نايف ابو فارس كان يملك طاحونة مائية في منطقة وادي القرن، يقصدها الفلاحون من القرى المجاورة: معليا وترشيحا وفسوطه ودير القاسي وسحماتا واقرث وغيرها، لطحن قمحهم، مقابل كميةٍ من الطحين يقتطعُها الطحّان(حارس الطاحونة) من كل طَحْنَةٍ، لمصلحة الآغا صاحب الطاحونة. كمية الطحين المُقْتطَعة يغرفُها الطحّانُ من الطَحْنَةِ، بمِكيالٍ يُسمى "الصاع" وهو عبارة عن إناء معدني اسطواني الشكل وله قاعدة. لاحظ الفلاحون ان كمية الطحين التي تبقى لديهم بعد اقتطاع حصة الآغا، اقلُّ ممّا كانوا يتوقعون، فاتهموا الطحّانَ بالسرقة، وقرروا ان يشكوه الى الآغا نايف ابو فارس. استمع الآغا الى شكواهم، مبديا تعاطفا معهم وتفهما لشكواهم ، فاصدر على الفور أمرا بابعاد الطحّان عن الطاحونة واستبداله بطحّانٍ آخر. إرتاح الفلاحون لقرار الآغا مستبشرين خيرا بالطحان الثاني الجديد، لكن ما لبثوا ان لاحظوا مرة اخرى ان الوضع لم يتغير، فكرّروا شكواهم الى الآغا الذي لم يكن في هذه المرة ايضا، اقلَّ تفهما وتعاطفا من المرة السابقة، فقام بتأنيب الطحّان الثاني متّهِما إياه على مسمع من الفلاحين بانه كيّال فاشل، كما قام باستبداله بطحّان آخر جديد.
كان الطحّان الجديد الثالث اكثرَ حذرا من سابقَيه، واشدَّ حرصا على سمعته من ان يُتهم بالسرقة او يوصم بوصمة كيّال فاشل، فقرر ان يتعامل مع الفلاحين بشفافيّة مطلقة جعلته لا يقتطع حصة الآغا من الطحنة، إلا بحضور صاحب الطحنة نفسه وامام عينيه وتحت مراقبته، ممّا عزّز للوهلة الاولى، ثقةَ الفلاحين بالطحّان الثالث وجعَلَهم يثقون به ويطمئنون اليه. لكنهم لم يلمسوا على ارض الواقع تغييرا في حصتهم من الطحنة، الامر الذي اثار استهجانَهم واستفزّ فضولَهم وجعَلَهم يدقّقون النظر في الصاع نفسه، فاكتشفوا ان الصاع المستعْمَل في طاحونة الآغا اكبرُ حجما واكثرُ سعة من الصاع المعياري المالوف لدى الناس. ادرك الفلاحون سبَبَ الغبنِ اللاحق بهم فتنادوا لتقديم شكوى جديدة الى الآغا...
سارع الآغا كعادته لملاقاة الفلاحين والترحيب بهم، ظانّا ان لعبته الخبيثة ستنطلي مرة اخرى على الفلاحين، ومُعلِنا انه "سيطيّر" الطحّان و...، فقاطعوه بقولهم: " مشكلتنا يا طويل العمر هي مش مع الكيّال، مشكلتنا هي مع المِكيال ".
قال لي انيس: "وهل تغيير المكيال في إدارة الاوقاف امر ممكن؟". فاجبتُه بقولي: "سؤالك يذكرني بقصتي مع قسيس كتدرائية سانت اولبان (St Albans Cathedral) في انجلترا، التي سانشرها قريبا تحت عنوان "راعٍ ورعيةٌ وقطيع". فالى اللقاء...