لذكرى رحيل الياس زيتون مشيعل (أبو زيتون)
ذِكراه تُنعش الذّاكرة
بقلم: مارون سامي عزّام
الموت حاكم مُستبِد، يتحكّم بمصائر الناس دون منازع، يأبى أن يرفع حكمه الجائر عنهم، لا يريد أن يخلي لهم سبيل العيش بكرامة في هذه الحياة، فأمَرَ معاونه الأزلي القدر، أن يضع العَم الياس زيتون مشيعل، أبا زيتون على قائمة الوداع الأخير، فانصاع لحُكمه. وحَرَمنا من إنسانٍ وديعٍ، تميّز بتعامله المنصِف مع رفاقه، تألق بلُطف تصرّفاته، وامتاز بأخلاقياته العالية، لأن إنسانيّته غلَبَت طباعه، غدت مشعلاً توهّج بالعطف والمشاعر الصادقة، التي شعر بها سكّان شفاعمرو، لشدّة تقديرهم الكبير له.
تميّز أبو زيتون بالطيبة إلى أبعد حدود في تعامله مع عموم أهل بلده، وخصوصًا مع شقيقه الأصغر سامي، أبي سهيل، شريكه الأمين في دكّان "بوظة شفاعمرو"، الذي ما زال يحافظ على هذه الأمانة الغالية، متفانيًا في عمله، يتقنه وكأنه مِلكه الخاص. أبو سهيل شريكه منذ الصِّغَر في السّرّاء والضرّاء، كما اعتبره الرّاحل كاتم الأسرار المهنيّة.
كانت سعادة أسرته شغله الشّاغل، والاهتمام برعاية احتياجاتِها، عرف كيف يجمع أبناءه بحكمته في مجمّع محبّتهم لبعض، ليكونوا لفافة واحدة من الإخلاص لا تتبعثر. زيّن ديوانه اليومي بلوحات ضيافته، التي أبدعها كَرَمَه، عمل الخير كان ستار سرّيَّته، الذي أخفى خلفه أعماله الخيريّة. زوجته الصابرة أم زيتون، خدمته بدموع سهرها التي تلألأت حبًّا وأصالةً، ورصدت يوميًّا حالته الصحّيّة، فكانت بوصلة تفاؤله التي وجّهته إلى درب غَدٍ أفضل... شجّعته دائمًا على تناول مقوّيات الأمل والعزيمة والإباء، فقد كان بالنسبة لها الزّوج المثالي والرّاعي الأمين لكل طلباتها.
صفاء نيَّة الرّاحل، كانت بصمة كرامته، لم يمحِها من ضميره. ملامحه الأبويّة ضربت جذورها عميقًا في أرض حنانه الخصبة بالوفاء، من خلال علاقته الوديّة مع أقربائه، وبالأخص شقيقاته. كان تقرّبه الأخوي من عائلتنا التي ربطته بها صلة قرابة قويّة، جزءًا لا يتجزّأ من أولويّات أجندته اليوميّة، لم ينسَ يومًا تقديم واجبه تجاهنا، في كل المناسبات.
كان دائمًا يزور المرحوم والدي، لقضاء بعض الوقت معه، كي يُبدّدَ بأحاديثه الممتعة الضّجر الرّاكد في بئر الانتظار، كم كان والدي يأنس بطلّته التي كانت تشبهه إلى حدٍّ كبير، فانبسط بوجوده إلى جانبه، واعتبره طاقة الفرج، التي أطلّ منها إلى باحة صخب الحياة اليوميّة، حتّى بعد رحيله، ظلّ أبو زيتون بتواصل دائم مع والدتي أمدّ الله بعمرها. لم يهتم أبدًا لتقلّبات الطّقس، هذا دليل تضحيته من أجل الحفاظ على هذا الرّباط الأسري الغالي عليه، فكان زائرًا مرغوبًا به في أي وقت، خفيف الظِّل، أنيقًا بلبسهِ ومُتَّزِنًا بحديثه.
إيمانه الصّادق ورداء ورعه، قرّباه أكثر من الله. التزم بالصّلوات والطقوس الدّينيّة. أحبه جميع الكهنة، فهُم بالنسبة له الخدّام الأمناء لتعاليم السّيد المسيح على الأرض. اعتبر جيرانه وكل أهل شفاعمرو أوفياء لتاريخ العلاقات الأخويّة المميّزة، وحُماةً أشدّاء لوحدتها... فخلال أحداث حزيران الأسود من عام 2009، عندما اعتُدي على منزله، من قِبَل بعض المندسّين، لم يتّهم أحدًا، وظلّ مدافعًا عن العيش المشترَك.
بوظة شفاعمرو الشّهيرة، التي أنعشت ورطّبت ريق الوسط العربي... مرّ على إنتاجها سبعون عامًا، وكانت قد تأسّست على يد والدته وديعة، عام 1947. كان ذلك في أحد أيّام الصّيف الحارّة، إذ حضّرت مقادير البوظة السرية يدويًّا، ساعدها في ذلك ابنها الياس، الذي جلب قوالب الجليد، كي تمُر بعملية التجميد، أمّا في عام 1958، بدأ أبو زيتون باستخدام الكهرباء. منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا تطوّرت آلات تصنيع البوظة الفريدة بمذاقها. الميّزة الخاصّة بالراحل، أنه طوّر أيضًا أسلوب حياته، تأقلم مع تغيُّرات العصر الحديث، ثُمّ دفعه حب استطلاعه، للتعرُّف على بعض التقنيّات، من خلال أحفاده، الذين علّموه أسس استخدام الحاسوب اللوحي الآيباد، فكم عانقهم بذراعَي عطائه غير المحدودَين.
الرّاحل لم يكن تقليديًّا في مفاهيمه، بل كسَر هذه القاعدة، كان مُحبًّا لكل ما هو عصري، أذكُر أنه طلب منّي أن أطبع له ديسكًا فيه مجموعة من الأغاني القديمة التي يطرب لها، كي يسمعها في سيّارته، وكنتُ فرِحًا لطلبه هذا... ذات مرّة زار والدتي وأرسل بطلبي، فجئتُ وإذ به يُخرِج من جيبه، صورة شخصيّة له وهو في ريعان شبابه، طالبًا مني أن أُكبِّرها عن طريق الكومبيوتر، نفَّذتُ رغبته وطبعتها على ورق مصقول خاص بالصُّور... عندما سلّمتها له، تأثّر للغاية، وتمنّى لو استطاع أن يُعيد بَكَرَة الماضي التي التفّ عليها شريط الذكريات، إلى تلك الفترة.
العم الغالي أبو زيتون، زيتونة شامخة بالقيَم، ثمارها الذّكريات الجميلة، التي سنقطفها سنويًّا مع حلول ذكراه، لنعصرها في معصرة الأحاديث، التي تدور في ذاكرتنا، لتُخرِج زيت سيرته النّقي والصّافي، كصفاء مسيرته العامّة المليئة بالتضحيات الجمَّة. سوف تبقى رايته الاجتماعيّة، الخفّاقة بأعمال البِر، ترفرف فوق تلال السّنين... رياح الرّحيل العاتية التي حملت هذا الإنسان الفاضل، لن تستطيع أبدًا أن تطفئ شموع المحبّة، بل ستبقى مشتعلة بالحنين، لتنير له طريق الحياة الأبديّة.