"مدٌّ وجزرٌ في القلوب"
بقلنم:شريف صعب-أبوسنان
في الأمسِ سقط الوسمُ الأول،زُعافًا،في أنحاء بلادنا الحبيبة العطشى الّتي لطالما تاقت لسقوط حبّات المطر هذه،لتروي ظمأها بعد صيف حارٍّ كاد يحرقنا بشمسه القاريّةِ.سقط المطر مبشّرًا ببداية موسمٍ من العطاء، مقبلٍ علينا،نأمل أن يكون سخيّا أكثر من أيّ...موسمٍ سبَقْ!
وقفت في حَوشِ داري،خارج البيتِ متأمّلًا،فرِحًا مسرورًا بما تشاهدهُ عينايَ من أنعمِ الّلهِ فقلت في نفسي:"ها هي ساعةُ الرّبّ قد أتت،والهَيلُ بدون كَيل،وكما يقولون: ساعةٌ من ساعاتهِ...تقضي حاجاته"رغم أنّني قد سمعتُ العشرات يقولون،مؤخّرًا:"لماذا تُمطر...سوف لا يأتي المطرُ لأنّ النّاس...كافرون وقد قلّ الخيرُ في الأرضِ والبَشَر لا يستأهلون!"
قلت في نفسي،على وقع أصواتِ القطَرات المتَناثرةِ:أتمنّى أن ينظّف هذا السيلُ العرِمُ ما تكدّس من غبارٍ على وجه البسيطةِ وما ترسّب فوقَ...عقولِ النّاس وقلوبهم المريضةِ،خلالَ العام المُنصرِمِ!
فجأةً مرّت"سُهى"،إبنة حارتنا بجانب البيت وكانت تركض مسرعةً تحاول تفادي حُبيبات المطر المنهمرةِ،تشتُم وتلعن بصوتٍ عالٍ المطرَ وساعتهُ، هذا الّذي...أفسد عليها كلّ ما وضعته من...مكياجاتٍ ودهونٍ على وجهها من الأصنافِ المختلفةِ وعلى...عيونها من كحولٍ...تتلاءمُ وألوانَ ملابسها و...كندرتها. لقد بدت بشكلٍ لا تخجل به أيّ فتاةٍ ذاهبةٍ إلى مسابقة...ملكات الجمالِ،مع أنّ شكلها ومواصفاتها ليست على ما يُرامُ!كانت سُهى مُبلّلةً بالماء من رأسها حتّى أخمصِ قدميها!
لقد استشاطت وهي تتطاول على باعثِ المطر الّذي... لم يهتمّ بمكياجها،فأرعدت وأبرقت وشتمت على هواها!!و"لماذا الآنَ؟"...في هذه اللحظةِ الحرجةِ الّتي لم تُبقِ لها إلّا بعضَ الدّقائقِ لحضورِ وداعِ...صديقتها الغاليةِ"هناء"فاليوم يوم عرسها و...وداعِها والسّاعة قد أشرفت على الموعدِ وهناء هذه زميلتها في العملِ! لقد تأخّرت أمام المرآةِ وهي تتزيّن...وتتفنّنُ بشكلها
لم تعلم سهى ولم تفكّر بصلوات الكهنةِ ورجال الدّين وبأهازيج الأطفال في الشّوارعِ وبابتهالاتِ الفلّاحين متوسّلين ومتسوّلين أمام حضرة ربّ العالمين ليبعثَ المطرَ/الخَيرَ حتّى تسلكَ...أمور الرّعيّةِ،فبالنّسبةِ لها مكياجها أهمّ من ...أمن الدّولةِ بكثير!
بدأت تركضُ لكنّ"قبقابها"الّذي لا يقلّ عن الخمسَ عشرةَ سنتيمترًا عُلُوًّا والّذي أكثر ما يذكّرُ بغوّار الطّوشي، لم يُسعفها، وحتّى لا تخسرُ المناسبةَ التّاريخيّةَ،حملته بيدها وراحت تركض فوقَ...مطر الخيرِ.
بعدها ورد إليَّ أنّ"أمّ أحمدٍ"الّتي داهمها المطر على حين غرّةٍ قد امتعضت من هذا الوسمِ الطّيّب حيث أفسد لها مناسف"الجريشِ والسّميد"،وهي في جولة مشترَياتٍ...خارج بيتها.ذلك ما حصل،أيضًا،مع "أمّ نضالٍ"الّتي نشرت فراشَ غرفة نومها وبطّانيّاتها لتنشّفها تحت أشعّةِ شّمسِ تشرينَ ولتنفضَ عنها بقايا الرّجسِ، حيث لم تبدو بوادرُ المطر في الصّباحِ،وهي في زيارةٍ لإحدى جاراتها في المستشفى.
كنت ما زلت في ساحة داري ورأيت سُهى وهي عائدة من حفل وداعِ صديقتها...هناء،تسير ببطئٍ، بشيئٍ من العَرَج،بعد أن سارت حافيةً تركض تحت المطر المنهمرِ.أمّا وجهها فقد كان أسودَ،شاحبًا فيه الكثير من الوجومِ لا يشبهُ الوجهَ الّذي"تقمّصته" حين ذهبت...للوداعِ.كان شعرها،أيضًا،شعِثًا، شوّهَ المطرُ ما كان فيه من نظامٍ،فهو لم يعد ذلك الشّعر النّاعم الّذي "نعّمته" عند الآنسة"فيروز"ليلة الأمسِ.لقد تمرّدت سُهى،رغم بشاعتها،على نظام أمّها وجدّتها الّلتان كانتا تُمشّطان شعرهنّ بالمشط و...الكاز،للقضاء على ما "استوطنَ" به من...قملٍ وسيبان!!إنّها اليوم تُنعّمهُ عند"فيروز،كلّما سنحت لها الفرصة ذلك.
عادت من الوداعِ ولكنّها ما زالت تشتم وتحتجُّ على هذا المطر"الفجائيّ"الّذي كركبها وأفسد "حلاوةَ" مظهرِها.
كانت،هي وهناء، عاملتا تنظيفٍ،تعملان في أحد الكانيونات القريبةِ،وربّما في أقسامٍ أخرى،حتّى تكسبا بعض المال لدعم عائلاتهما الفقيرة، كغيرهما من الكثيراتِ في عصرٍ لا تُسألُ فيه النّساء أين كُنتِ بل ماذا...جلبتِ مَعَكِ!"
شتمت سهى المطرَ وساعتهُ فهي لم تكن تُدركُ أنّ هنالك ملايين البذور والشّروشِ تحت سطح الأرض،تنتظر بلهفةٍ وهي متعطّشةٌ لعناق تلك القطراتِ لتسدَّ...ظمأَها ولتكفلَ لنفْسِها بعثًا موفّقًا في ربيعٍ آتٍ،أخضرَ يانعٍ تزدان به الدّنيا ويزدانُ بها بعد أن يصبغها بأزهى الألوان وأطيب الألحان وهو أهمّ بكثيرٍ من مكياج سُهى ومن...جريش أم أحمد وفراشِ أمِّ نضال،وبالطّبع،منّي أنا...أيضًا!!