وقفة مع البروفيسور سليمان جبران
في كتابه "الإيقاع في شعر درويش"
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
من دواعي سروري أنّه قد وصلني مؤخرًا نسخةً من كتاب "الإيقاع في شعر درويش نظم كأنه نثر" للاستاذ الدكتور سليمان جبران الذي أتوجه إليه بخالص الشكر على اهدائه هذا.
لقد قرأت الكتاب باهتمام بالغ، وأثار فيّ الكثير من الومضات الفكرية والأدبية والنقدية التي حفزتني بشدة أن أُعقّب وأضيف بعض الأفكار والتجليّات الذهنية الى الرصيد الذي تكوّن لدى البروفيسور جبران بشأن الموضوعات التي طرقها في هذا الكتاب الذي أعتبره كتابًا قيّمًا جديرًا بالدراسة والاطلّاع المعمّق كمرجعٍ لأحد الجوانب المهمة اللافتة في شعر محمود درويش.
من الأمور التي اهتم بها الكاتب الإتيان بخلفية أدبية عروضية عن الشعر في العصر الحديث من تفعيلات وأوزان وبحور في عهود مختلفة، وذلك كتمهيد لتناوله شعر درويش في هذا المجال الذي يعالجه الكتاب. وقد خلص الكاتب الى القول أخيرًا "إنّ إيقاع القصيدة العربية في العصر الحديث، تطوّر من الأوزان الخليلية الجهيرة، تدريجيًا وفي اطراد، حتى وصل في العقود الأخيرة الى ايقاع النثر/ قصيدة النثر". ويقول البروفيسور جبران "إنّ درويش عمومًا ظلَّ مخلصًا في شعرهِ للايقاع التفعيلي حتى آخر أيامه، مسخرًا موهبته الفذّة وتجاربه الطويلة في كتابة قصيدة تفعيلية تكاد تستوعب كل سمات قصيدة النثر". ويسوق الكاتب رأيًا للناقد اللبناني عبده وازن الذي يذكر أنّ "ما تتميّز بها قصيدة درويش الجديدة هي ايقاعية في ناحية منها، فالايقاع لديهِ تخطّى النظام التفعيلي المغلق مازجاً بين الإيقاع الداخلي الذي يصنعه تجانس المفردات والحروف والتقفية الداخليّة والايقاع الخارجي الذي تصنعه التفاعيل والقوافي". ويرى الناقد عبده وازن أنَّ درويش اراد الجمع بين الوزن والسمات الأسلوبية للنثر، أو قصيدة النثر، ما جعل كثيرين يتوهمون أنهم بصدد قصيدة نثر، وما هي بقصيدة نثر. وفي اعتقادنا أنّ سبب هذا التوهمّ عند البعض يعود الى أنَّ الوزن الخليلي في قصيدة التفعيلة بشكل عام يقوم على مجموعة من تفعيلات محكومة بعدد من السواكن والمتحركات والبحر أيضَا محكوم بعدد من التفعيلات ولكن هذا العدد قابل للتغيير بحكم قانون العروض المتعارف عليه والذي يلتزم بهِ الشاعر عكس ما سمي بالايقاع الداخلي الذي لا يفرضه قانون معين وبالتالي فإنَّ الوزن جزء من الايقاع، أما الايقاع الداخلي فقد يشمل التكرار والتوازي وما الى ذلك وكثيرًا ما نجد إنَّ مصطلحات الموسيقى والوزن، والموسيقى العروضية، والايقاع العروضي، تتضارع فيما بينها، وكأنها تتساوى في الدلالة والمعنى وأنَّ هذا التضارع واللبس يحصل عند الكثيرين، وهذا ما جعل المصطلحات تتداخل حتى ليطلق احدها على الآخر إلاّ أنه لا يخلو من فوارق ولعلّ أهمها أنّ العلاقة بين الوزن والايقاع قائمة على مبدأ علاقة الكل بالجزء والاختلاف في الوقت نفسه، فالايقاع يعرف بأنّه كيان معارض للوزن الذي هو نظامي، ذلك أنّ الايقاع متغير، أما الوزن فثابت. ونحن نرى أنّه يمكننا أن نميّز في القصيدة الدرويشية مستوى في اللغة من حيث الايقاع هو مستوى الايقاع العالي، الذي يحمل بعض سماتهِ العديد من قصائد النثر، حيث ما يزال الشاعر يحرص على قوة الايقاع ووضوح النغم مع ظهور ظلال التفعيلة وبقايا من القافية.
ونحن هنا لا نجانب الحقيقة اذا قلنا إن لغة الشعر الحقيقية عند درويش هي لغة الصورة لأنها لغة الانفعال والشعور والرؤيا.
وبالعودة مرةً أخرى الى كتاب البروفيسور جبران، نراه يقول في صفحة 93 من الكتاب أنَّ هناك "سمة أخرى من سمات النثر، والنص القصصي بوجه خاص، في شعر المرحلة الأخيرة (عند درويش)، هي الحوار... وفي المرحلة الأخيرة عند درويش من الشيوع والاطالة والإحكام بحيث يمكن اعتبار ظاهرة واضحة يحاكي فيها النثر فعلًا". وهنا نعتقد أنَّ الأستاذ الدكتور سليمان جبران يتفق مع ويؤكد ما أورده محمد دكروب في مقاله له بعنوان "هذا الشعر لي" عن محمود درويش في ملحق جريدة "النهار" البيروتية 17 آب/ أغسطس 2008 حيث قال: "وبدأ محمود درويش، الجديد، يلقي شعره الجديد. شعره صعب هذه المرة، وبنائيته جديدة، فيه مقاطع موزونه، وفيه مقاطع بدون وزن وبدون قواف، فيه حوار، وفيه ما يشبه المسرح الحديث، فيه تركيب فني ولغوي معقّد، وفيه مرارة مأساوية لم يعهدها الجمهور عند محمود درويش سابقًا".
وممّا يسترعي الانتباه في كتاب البروفيسور سليمان جبران أنّه ينوِّع في بنائية موضوعاتهِ، فقد أفرد بابًا في الكتاب تحت عنوان "تحولاّت الأب في شعر محمود درويش" حيث يصوِّر والده في مواقف مختلفة من حيث التموّج الشخصي الإنساني وفقًا لضغوطات الحياة القاسية والظروف القاهرة في تلك الفترة من حياة الشاعر، فالأوصاف التي يصور فيها درويش أباه تنّم عن ألم ومعاناة وصمود كنايةً عن مأساة إنسانية مرتبطة بالوطن تجعل من الأب ومواقفه بمثابة رمز لحركة موجية إنسانية تتماهى مع صورة الموجة الصوتية التي تصعد وتنخقض على شكل قمم وقيعان لتتوازى مع الموجات الضوئية مجازًا لتنير دروب المستقبل في أجواء يخترق فيها الشاعر الظلمة ليبدع منطلقًا من الوطن الأبوي المفعم بالحنين والأمل وتموجات الحية الغامضة.
ويكرِّس الأستاذ الدكتور جبران فصلاً آخر لقصة الشاعر محمود درويش مع حبيبته اليهودية ريتا، والتي يتحدث الكاتب عنها من خلال قصيدة "ريتا والبندقية" التي واصل درويش الاتخاذ من ريتا "بطلة" لقصائد ثلاث أخرى طويلة: "ريتا.. احبيني"، في مجموعة "العصافير تموت في الجليل" (1969)، "الحديقة النائمة" في مجموعة "أعراس (1977)، "شتاء ريتا"، في مجموعة "أحد عشر كوكبًا" (1992).
وفي هذا السياق يذكر مؤلِّف الكتاب أنَّ درويش "يستحضر ريتا رمزًا، ليخاطبها وينطقها بكل هواجسهِ ورؤاه المستقبلية، بشأن مصير هذا الوطن الممزّق".
ونحن، إنْ كنّا نتفق مع الرأي بأنَّ درويش قد اتخذ من ريتا رمزًا، فإنَّ لنا رؤية رمزية أخرى لريتا من زاوية أخرى.
إنّ اسم ريتا (Rita) يعني الشُجَاعة “brave”، الأمنية “honest” (من اللغة السنسيكريتية)، كذلك يعني اللؤلؤة الثمينة “precious pearl” (من اللغة اليونانية)، ومن هنا فإنَّ الاسم الذي أعطاه درويش لحبيبته كان إسمًا بالمعنى الرمزي للكلمة (symbolic) وذلك يتضح من عناوين القصائد المتعلقة بإسم ريتا، فهذه الحبيبة اليهودية أحبّت الشاعر بكل أمانة وشجاعة فأخلصت له رغم كل العوائق القومية والدينية، والظروف المعروفة، فكانت بمثابة اللؤلؤة الثمينة للشاعر على المستوى الانساني والعاطفي، وهذا ما توحي به كلمات وسطور القصائد المشار إليها، وفي مقدمتها "ريتا والبندقية". أما رمز البندقية في عنوان القصيدة، فيمثّل القوة، العنف، التهديد بالعنف، العدوان، القضيب الذكري (phallus)، المبدأ الذكوري، القوة، فرض الإرادة على الآخرين. فكل هذه المعاني الرمزية للبندقية تتماهى مع التناقض القائم بين شخصي الشاعر فلسطيني عربي الانتماء، وريتا اليهودية، فتاريخ الصراع أو النزاع الفسطيني العربي الاسرائيلي يتضمن كل هذا الترميز لمعنى البندقية، وبالتالي فإنَّ هذا الحب الذي يجمع بين قلبي الشاعر وريتا رغم متانته واخلاص الحبيبين لبعضهما، فإنّه يبقى دائمًا عرضة لعواصف وأعاصير ذلك الصراع القومي ذي الخلفية المأساوية للشاعر. ومن هنا يبرز الصدام بين ريتا الشجاعة الأمينة اللؤلؤة الثمينة بانسانيتها، مع الحبيب الشاعر مرهف الحس الذي يرى أنه من المستحيل الارتباط معها برباط الزوجية بفعل تلك الموانع التي ترمز اليها البندقية والتي تتغلب بمعانيها العنفية على رمزية البندقية الأخرى المتمثلة بالقضيب الذكري أو المبدأ الذكوري منايةً عن العلاقة الغرامية الجنسية بين الذكر والأنثى في مجتمعٍ يقدّس العلاقة بين الرجل والمرأة لو اُتيحت لهما فرصة الارتباط الزوجي.
وعن قصيدة "شتاء ريتا" يخبرنا الأستاذ الدكتور جبران "أنَّ خاتمة شتاء ريتا" تستشرق، بالإضافة الى "الشتاء" المتكرر في عنوان القصيدة وثناياها، قادم الأيام في نظر درويش". إنَّ هذا يجعلنا نتحفز لاستنباط رمزية الشتاء في عنوان القصيدة وسطورها وذلك من منظورٍ ايحائي حافل بالقرائن التي تعزّز معاني الرمز. فالشتاء يرمز الى الموت، السُبات، الكراهية، الظلام، النعاسة، البرودة، وهذه المعاني الرمزية بمجملها تحملها نهاية العلاقة ومجرياتها من قبْل بين الشاعر وحبيبته ريتا من حيث موت العلاقة أو سباتها، والتعاسة التي سيعاني منها الحبيبان بالفراق، وكذلك البرودة التي نشأت خلال علاقتهما واظلام هذه العلاقة التي لن تدوم جرّاء العقبات التي أُشير اليها آنفًا.
يورد مؤلّف الكتاب نص قصيدة "أثر الفراشة" مشراً الى أنَّ عنوان هذه القصيدة هو ترجمة للمصطلح الانجليزي (butterfly effect)أيضًا! ويخبرنا أنَّ هذه القصيدة "تعكس فلسفة قائمة بذاتها تسمى نظرية الكاؤوس (chaos) التي ترى أنَّ التغيّر الطفيف من شأنه، إذا صادف ظروفًا مواتية، في نظام دينامي معيّن، أن يؤدي الى تغييرات كونية كبرى في المدى البعيد. مثال ذلك أن رفيق جناحي فراشة من شأنه في ظروف مواتية أن يتحوّل الى اعصار هائل، الى تورنادو!
بعد قرائتي لنص هذه القصيدة القصيرة التي أوردها الكاتب في صفحة 156 – 155، أود في هذا المقام أنّ أقدَّم رأيًا اضافيًا مغايراً لما عرضه الكاتب حول اختيار درويش هذا العنوان للقصيدة مع التنويه الى اتفاقي مع الكاتب حول صحة مصطلح العنوان وتفسيره.
وبهذا، فإننا نعتقد بتحليلنا الشخصي أنَّ محمود درويش قد كتب هذه القصيدة في إطارٍ رمزي محض حيث قصد بأثر الفراشة المعاني التي ترمز إليها الفراشة وما تأتي بهِ هذه المعاني الرمزية من أثر على الإنسان وعلى الحياة بالإجمال.
إنّ الفراشة ترمز إلى عدة أشياء في هذا الكون، فهي رمز النفس والروح، الحريّة، الانجذاب اللاشعوري نحو النور ونحو الله، الحياة، الولادة الجديدة، الفرح، عدم الثبات، الحب، العبث والطيش، السطحيّة، سرعة الزوال، التهوّر، البهجة والمرح، الإشراق والرشاقة، الربيع، البعث والقيامة، الحياة الأبديّة.
فإذا تناولنا سطور القصيدة بالتحليل نجد أنَ السطرين الأوليين: أثر الفراشة لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزول.
يؤكد من السياق رمزية الفراشة للحب، الحريّة والروح، كذلك السطور الثلاثة التالية:
هو جاذبية غامضٍ/ يستدرج المعنى، ويرحل/ حين يتضح السبيلُ – فإنّها تبيّن رمزية الفراشة وأثرها في الانجذاب اللاشعوري نحو الله، الحياة، سرعة الزوال.
ونأتي الى السطور الثلاثة اللاحقة: هو خفَّةُ الأبدي في اليومي/ أشواقٌ الى أعلى/ وإشراقٌ جميلٌ.
وهنا أثر الفراشة برمزيتها هي البعث والقيامة، الحياة الأبدية، الإشراق، الفرح والبهجة.
والسطور التالية هي: هو شامةٌ في الضوء توميء/ حين يرشدنا الى الكلمات/ باطننا الدليلُ.
وهنا تتجلّى بوضوح رمزية الفراشة واثرها المتمثلة بالإشراق والرشاقة.
أما السطور قبل الأخيرة فتقول: هو مثل أغنية تحاولُ/ أن تقول، وتكتفي/ بالاقتباس من الظلالِ/ ولا تقولُ..
إنّ الرمزية هنا تكمن في كون الفراشة بأثرها تمثّل الفرح والسطحيّة.
وينهي الشاعر القصيدة بما بدأها: أثرُ الفراشة لا يُرى/ أثرُ الفراشة لا يزولُ.
وهكذا تتكرّر البداية في النهاية لتأكيد رمزية الفراشة وأثرها كانجذاب لا شعوري لا واعي نحو النور الالهي، أي نحو أبٍ أبدي للإنسان وإن كان ذلك في اللاوعي أحيانًا.
وأخيرًا وليس آخراً، يطيب لنا أن نتقدم بخالص التحيات الى البروفيسور سليمان جبران على هذا العمل الأدبي القيّم الذي امتاز بالتركيز بلغة نقدية أدبية سليمة من خلال التحليل الأسلوبي – الفني الشامل الذي يؤلف، في حد ذاتهِ، عنصراً أساسياً من عناصر النقد التطبيقي الذي يتطلب بعد نظر وصبر وتأمل عميق في لغة الأثر الأدبي وفيما تحتويه من ايحاءات وظلال معنوية فنيّة، هي روح خصائص الناقد التحليلي أو التطبيقي دونما غلو أو اسراف في البحث عن النتائج.
فللأستاذ الدكتور سليمان جبران أطيب التمنيات بموفور الصحة والعمر المديد ودوام التوفيق والعطاء.
تشرين الأول 2017