الاسم الثلاثي ساكن الوسط
متى يكون ممنوعًا من الصرف
ب. فاروق مواسي
...
سألني الأديب المصري أحمد سعيد المصري:
هل يجوز لنا أن نقول في غير الشعر: زرت مِصرًا- بالتنوين؟
وأرفق لي الصديق مقالة نشرها الكاتب صلاح حسن رشيد في عدد صحيفة (الحياة 7/10/2017) لأطلع عليها.
يقول الكاتب في مقالته "القرآن والنحو متى يلتقيان؟"، في هذه المسألة بالذات:
"{اهبطوا مِصْرًا فإنَّ لكم ما سألتم}- البقرة: 61.
هنا ورد الممنوع من الصرف منونًا؛ فما رد النحاة على ذلك؟
فلو قاله ناثر معاصر لأهالوا على وجهه التراب- بحجة الخطأ النحوي!
فهل قرأوا القرآن الكريم؛ وعرفوا أن الممنوع من الصرف كغيره من القواعد ليس جامدًا؛ يعمل في الفراغ بصورة آلية رتيبة، ولكن الضرورة الفنية قد تلجئنا إلى الخروج عن القاعدة النحوية والصرفية لمعانٍ جليلة وفنيات شائقة.
والمعنى هو: اذهبوا إلى البلدة المسماة بمصر؛ ففيها ما تريدون من البقول والطعام، وليس كما قال أغلب النحاة والمفسرين بأن المقصود هو أي مصر من الأمصار؛ فالتنوين هنا للتعيين والتحديد لا مطلق البلاد، وليس لإعنَات بني إسرائيل بالبحث في الأمصار كافة، فالمقصود هو مصر- تلك البلاد التي يجري فيها نهر النيل؛ فهي مشهورة بزراعة البقوليات المطلوبة، وهي البلاد التي تجاور بيت المقدس.
ولنا في بحث العلامة ابن التلاميذ الشنقيطي التركزي عن صرف لفظة (عمر)؛ وأنها ليست ممنوعة من الصرف؛ لأنها جمع عُمْرة، وليست معدول عامر، كما يقول النحاة؛ ففي هذا البحث الكفاية والغَناء".
...
وبعد،
فما نعرفه في النحو أن الأعلام الثلاثية ساكنةَ الوسط تكون:
* منصرفة إذا كانت أسماء أعلام أعجمية- أي ليست من جذر كلمة عربية، نحو: هود، نوح، لوط، بَلْخ، فإذا تتبعت الآيات التي ورد فيها ذكر هؤلاء الأنبياء الثلاثة فستجد أنها منصرفة.
* يجوز منعها وصرفها إذا كانت أعلامًا عربية للإناث، والأَولى منعها، نحو، جاءت هندُ أو جاءت هندٌ إلى ميَّ أو إلى ميٍّ.
يقول جرير مستخدمًا الصورتين:
لم تتلفّع بفضل مِئزرِها *** دعْدٌ ولم تُسْقَ دعْدُ في العلب
..
وتدخل في إطار المؤنث الثلاثي ساكن الوسط أسماء القبائل، فهي تمنع من التنوين:
توجهت عبْسُ إلى قيسَ؛ ولكننا إذا قدرنا مضافًا محذوفًا، والتقدير بنو- فعندها تنون:
توجهت عبْسٌ إلى قيسٍ.
ملاحظة:
عندما نذكُر المضاف فيجب التنوين:
توجهت بنو عبسٍ إلى بني قيسٍ.
..
وأسماء البلاد والمواضع هي مؤنثة، فنحن نقول: مصر كثيرة السكان، لا كثير، فإذا كانت من ثلاثة أحرف ساكنة الوسط جاز لنا تنوينها وجاز منعها، وذلك في الشعر والنثر.
فالمتنبي يصرف ويمنع:
وماذا بمصرَ من المضحكات *** ولكنه ضحِك كالبكا
وفارقت مصرًا والأُسَيْودُ عينه *** حذارَ مسيري تستهلُّ بأدمُع
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها *** فقد بشمن وما تفنى العناقيد
(نلاحظ هنا أننا لا نتحدث عن ضرورة شعرية)
..
ورد ذكر مصر في القرآن الكريم في أربعة مواضع ممنوعة من الصرف:
قوله تعالى: {أن تبوّءا لقومكما بمصرَ بيوتًا}- يونس، 87،
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}- يوسف،21،
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ..}- الزخرف، 51.
{وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}- يوسف99.
..
أما التنوين فقد وجدناه في الآية: {اهْبِطُواْ مِصْرًا}- البقرة،61.
..
لا نرى ضرورة في تكلف السبب لماذا هنا بعد (اهبطوا) صُرف الاسم، بينما بعد (ادخلوا) منع الاسم من الصرف، فقد قرأ الآية الأخيرة بعض القراء بالتنوين، وقرأها آخرون بالمنع، فمن نوّن ذهب إلى أنها تعني (بلدًا) فمصر هي مفرد الأمصار، وقد أطلقت على البلاد المعروفة بهذا الاسم، وهذا اجتهاد لا أرى ضرورة الاعتراض عليه، فلن يقدم في المعنى ولا يؤخر.
..
يقول الفراء في (معاني القرآن)، ج1، ص 42- 43:
"فإن شئت جعلت الألف التي في (مصرًا) ألفًا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنون فيها؛ كما كتبوا (سلاسلا) و(قواريرا) بالألف. وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما.
وإن شئت جعلت المصر غير المصر التي تعرف، يريد: اهبطوا مصرًا من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار. والوجه الأول أحب إلي، لأنها في قراءة عبد الله: اهبطوا مصرَ- بغير ألف".
..
من جهة أخرى، لا أرى ضرورة للبحث عن الخلافات النحوية والآراء التي تجيز تنوين الاسم (عمر) مثلاً، ففي كل موضوعة نحوية تجد آراء شاذة وتخريجات غريبة نحن في غنى عنها.
..
صدق الكاتب أنه لا ضرورة للتحذلق واعتبار (مصرًا) غير مصر – أرض الكنانة، ولكني لا أتفق معه أن النثر لا يجيز (مصرًا) إذ وردت في مصادر تراثية كثيرة، كما لا أوافقه في العنوان الموسوم- "القرآن والنحو متى يلتقيان؟"، ذلك لأن النحو جاء خدمة للقرآن وتعليلاً لمواقع الكلمات ومعناها، فإذا كانت هناك مسائل لم يحسن النحو جوابها فهذا طبيعي، وتظل المشكلة في النحو لا في القرآن. وقد ناقش العلماء هذه المسألة وتلك، فكانت تسويغات وتخريجات قد يقتنع بها البعض، أو قد يظل السؤال مفتوحًا لدى البعض الآخر، فالمسألة المطروحة هي في اجتهادات النحويين ومدى توقفهم على الجزئية النحوية وتقعيد قاعدتها.
لا غضاضة في طرح أية مسألة لها أثرها في الإعراب، والإعراب كما نعلم هو الإفصاح عن المعنى، فإذا ذهب أحدهم إلى أن المعنى غير مقطوع بعلَمية مصر، وأن المعنى هو مصر من الأمصار فلا تثريب عليه، فهذا رأي، وما قاله الكاتب رأي آخر، فالقرآن حمّال أوجه.