أدبنا الفلسطيني ما بين النقد المهادن والنقد االنتحاري
خلود فوراني سرية-
في كتابه "نقد العقل العربي" يقول الفيلسوف العربي المغربي محمد عابد الجابري "نحن ال نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو متكلس في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي". إن كل نقد عند أية أمة هو صورة للنماذج الشعرية والنثرية عند تلك األمة. بحيث تتسع آفاق الناقد العربي إلى ما هو أبعد من القضايا التي طرحتها تلك النماذج مؤكدين قد. على الدور الفكري لذاك الناّ في محاولة لتحديد األسبقية نرى للوهلة األولى أن النقد لم يخلق شاعرا أو كاتبا، إنما إبداع الشاعر والكاتب هو الذي أوجد الناقد ولكن في حالتنا مع دراسات د.رياض كامل في األدب الفلسطيني نجد نقدا متطورا تنامى تأثيره مكونا عالقة دينامية ذات تأثير متبادل، ما حّول النقد إلى سبب قائم بذاته وأصبحت محاولة تحديد األسبقية نوعا من السفسطائية. من خالل دراسات متعددة وما بين نقد الفكر وفكر النقد نرى أن د. رياض قد تعامل مع اإلبداع األدبي من منطلق ذاتي وليس من المنطلق الذي يقونن ذاك اإلبداع والذي فيه فذلكة أكاديمية ومحاولة لتحويل النص األدبي إلى معادلة علمية. لقد برع د. رياض في التعامل مع األدب كموضوع له مقاييسه النظرية، ألن األدب هو الحياة، والحياة ال تخضع لمقاييس جاهزة، وكم بالحري حين يكون الكالم عن أدبنا الفلسطيني. . قد قضى نقدنا األدبي مدة -في الفترة الممتدة بين األصمعي وابن خلدون- وهو يدور في مجال االنطباعية الخالصة واألحكام الجزئية التي تعتمد على المفاضلة والموازنة بين أديبين أو بين شاعرين وقد اعتمد شعرنا لقرون طويلة على الصوت وكان يكفينا ما يسمى ب ثقافة األذن، وكان الناقد تابعا للكتاب في مراحل النقد األولى مثل النقد االنطباعي والصحفي. أما اليوم فقد استقل الناقد من العيش في جلباب أبيه وأصبح شريكا فعليا فاعال مؤثرا وموجها لرؤية الكتاب اإلبداعية. لقد انفتح نص المبدع الحديث على مصراعيه أمام القراءات المتعددة والتفسيرات المتعددة فبات للقارئ دور في إنشاء النص متسلحا بالذخيرة المعرفية. فجاء كتاب د. رياض يضم مجموعة من ّي المقاالت النقدية حول األدب الفلسطيني، في مجال الرواية والشعر تحديدا. محاوال فيه استجالء مكامن النص وفك شيفراته إيمانا منه أن النص ال يقوم بذاته، بل من خالل إقامة حوار بينه وبين المتلقي، فكل نص ناجح هو نص منفتح قابل للتأويل مع تعدد القُراء والقراءات. حينما نتحدث عن النقد األدبي بشكل عام، إنما نحن بصدد تناول محوره وهو الناقد األدبي، ألن الناقد األدبي أصل عملية النقد. وثقافته واهتمامه هما ما يجعلنا نقيم المادة األدبية. قام د. كامل في دراساته في األدب الفلسطيني بعملية فرز بين عدد كبير من األعمال األدبية نثرا كانت أم شعرا، بهدف نقدها وتشريحها وتقييمها. ففي موضوع التوثيق والخيال التقينا عنده بالروائيين يحيى يخلف في "نجران تحت الصفر" و"بحيرة وراء الريح". وغسان كنفاني في "عائد إلى حيفا"،. معرجين على الناقد د. محمد هيبي في "نجمة النمر األبيض" ف "سيرة بني بلوط" لألديب محمد علي طه، ثم لقاء جميل ب د. راوية بربارة وثورتها المهادنة. وطبعا محطة ال بد منها مع الكاتب إبراهيم نصر هللا في روايته "شرفة العار" وسؤاله هل نشرف ببصرنا على ما حولنا أم نشرف ببصيرتنا على مآسينا-. ومن ثم وقفة أخرى في مواجهة الواقع في "ساحات زتونيا" لعودة بشارات. ومن القضايا التي دار حولها نقد د. رياض في دراسته، قضية اللفظ والمعنى وهو ُهوية اللغة في "فاطمة" محمد نفاع. قضية الدالالت في شعر شكيب جهشان. قضية التناص ومضامين خاصة في شعر سميح القاسم، والشاعر حسين مهنا في "هذا العالم ليس بريئا". الحزن التحريضي في "نزيف الظالل" للشاعر مفلح طبعوني. والخطاب الفالحي في شعر سعود األسدي. ** اكتشف بعض الروائيين عندنا مدى حاجة قضاياهم الملحة إلى المعالجة عن طريق الرواية لكونها -بخالف المقالة- قادرة على احتواء أماكن شاسعة وأزمنة وحوادث متعددة وتتسع ل"حيل" فنية يتخفى الروائي من خاللها ليبدو محايدا. يرى د. رياض أن الدافع األيديولوجي العقائدي يأخذ دوره في توجيه األديب الفلسطيني حيث يرى المتابع لهذا األدب ميال لتوثيق المكان والزمان نتيجة لما تعرض له اإلنسان الفلسطيني من تهجير وتشرد وضياع بعد أن فشل المؤرخون والسياسيون في ترسيخ روايتهم، ومن هنا سماه باألدب المؤدلج. يفرض علينا النص األدبي الفلسطيني تحديا ويحتاج إلى قارئ متميز والناقد في هذه الحالة يجب أن يدخل كوسيط إلضاءة هذه اللعبة اإلبداعية، ال لشرح معانيها، فمهما بلغت قدرة الناقد على التفسير والشرح فلن يستطيع أن يبدع في تفسيره أرقى من العمل األدبي نفسه. والنقد األدبي هو حوار دائم مع المبدع، يدخل إلى أقصى درجات العمل األدبي خصوصية ويكشف أساليبه الفنية وزواياه وخباياه وما غفل عنه وال يكتفي بالجانب الموضوعي والمضامين، بل يهم الناقد قبل كل شيء كيف يعبر هذا العمل عن فكرته وما هي أساليبه التي استوحاها الكاتب وكيف أثرت هذه األساليب على عملية التلقي والتأثير. وأختم بالقول إن الكثير من أدبائنا تكونت قيمتهم بانتمائهم وليس بأدبهم، فكنا نرى تفادي ذوي القدرات النقدية الولوج لمعترك الحياة األدبية ولست أبالغ إن قلت إن أدبنا المحلي والفلسطيني بحاجة إلى "ناقد فدائي" وربما إنتحاري ! خلود فوراني سرية )ألقيت هذه الكلمة في أمسية إشهار "دراسات في األدب الفلسطيني" للدكتور رياض كامل، بتاريخ 2017.11.16 في نادي حيفا الثقافي(.