هؤلاءِ تَبَرَّعُوا من أَجلِ بناءِ قبرِ المرحومِ الشَّيخ سَعِيد عليَّان في يِرْكا
2015-09-08 14:33:32
هؤلاءِ تَبَرَّعُوا من أَجلِ بناءِ قبرِ المرحومِ الشَّيخ سَعِيد عليَّان في يِرْكا
من ارشيف البروفيسور علي صغيَّر
المرحوم الشيخ سَعِيد عليان وُلِد في حدود عام 1865 م في شفاعمرُو، وبها نشأ وسكن مدة من الزمان، ثم انتقل إلى يِرْكا في حدود عام 1900 م، وبها سكن إلى أن وافته المنية عام 1951 م، وبها دُفِن. في مطلع شبابه تزوَّج الشيخ من فتاة من عائلة أَبو ركن من عسفيا، ومنها رُزِق بابنة تزوَّجت فيما بعد في نفس القرية من رجل من عائلة منصور، ولا يزال خلفُها موجودا لغاية الآن بتلك القرية، وقد انتهى هذا الزواج بالطلاق، ثم تزوَّج من خَوْلَة فارس من بلدة حُرفيش، وهي عمَّة المرحوم الشيخ علي الفارس، وقد اتَّفق الشيخ في حينه مع زوجته هذه أَن يسكنا في يِرْكا، أَولا لكثرة رجال الدين الأتقياء بها، وثانيا لموقعها الجغرافي الذي يتوسَّط المسافة بين شفاعمرو، بلدة الشيخ ومسقط رأسه، وبين حُرفيش قرية زوجته، وقد توفِّيت زوجته هذه في بيته بيِرْكا، وبعدها تزوَّج من السيدة طَفْلَة نبواني، المعروفة لدى الجميع في يِرْكا وغيرها من القرى المجاورة بالكنية "أُم علي طَفْلَة"، وقد وافت المنية أُم علي طَفْلَة عام 1990، وهي مدفونة قليلا إِلى الشمال من مدخل بيت الشيخ سَعِيد، وعندما تُوفِّيت شقيقتها السيدة عفيفة قضماني، زوجة المرحوم الشيخ محمد قضماني، عام 2004، دُفِنت بجوارها من جهة الجنوب.
ولا يزال بيت الشيخ مزارا للعبادة والتبرُّك لسكان يِرْكا وسائر القرى الدرزية في البلاد.
جوانب مضيئة من مسلك الشَّيخ
الشيخ سَعِيد عليَّان كان رجل دين دقيق المسلك، وصُوفيًّا زاهدا، وجريئًا يعرف كيف يميِّز في أُمور الدين بين الظِّن واليقين، وبين الُّلباب والقشور، وبين الحق والباطل، وما كان في يوم من الأيام يخشى أَحدا غير الله وأَنبيائه ورُسُلِه عندما كان يقول كلمته أَو يُبدي رأَيه في مسألة دينية أَو اجتماعية، حتى لو غضب عليه بعضهم بسبب آرائه أَو أَقواله. وعندما كان يحصل بين رجال الدين في يِرْكا تباين وتضارب في الآراء بشأن أَي مسألة دينية، كان الشيخ سَعِيد المرجع الأعلى والملاذ الأخير للبت بها، وقوله كان دائما القول الفصل.
كان الشيخ يشارك كل سكان يِرْكا، وكل معارفه خارج يِرْكا، أَفراحهم وأَحزانهم، وفي حياته الشخصية كان يكتفي بالمسكن البسيط وبالطعام اليسير وباللباس الديني المتواضع، وكانت له قطعة أَرض صغيرة في موقع الأرض المعروف باسم "الحَرَاري"، الذي يقع إلى الجنوب من يِرْكا، وإِلى الشرق مِن جُولس، وقطعة الأرض هذه كان قد وهبه إِيَّاها المرحوم الشيخ سليم عوض ملا، وكثيرا ما كان يُشاهد الشيخ سَعِيد في طرقات يِرْكا وساحتها وهو حامل المِنكاش على كتفه، وهو ذاهب إليها أَو عائد منها.
الشيخ سَعِيد كان يأبى أَن يأكل من ثمار كرم الزيتون المعروف باسم "كرم الباشا"، الواقع في الطرف الشرق ليِرْكا، أو من زيتِه، وأن يطبخ على نارِ حطبِه، أو أن يتدفَّأ عليها، وكان يمتنع عن أكل نباتات البقول التي تنمو به، كنبات "السّنيبخة"، أو السّمَمِيخَة، كما يُعرفُ في بعض القرى، أَو نبات الخُبِّيزة، وذلك لأَنَّ هذا الكرم منسوب إِلى عبدالله باشا، والي صيدا خلال الفترة 1819 – 1831 م، وكان عبدالله باشا قد انتزع قطعة الأرض هذه عنوة من سكان يِرْكا، وأَمرهم بغرسها زيتونا، وأَجبرهم على العمل بها سُخرة.
من المأثور عن الشيخ سَعِيد أَنه عندما تُوُفِّي شقيقة سليمان بشفاعمرُو وهو في ريعان شبابه، قَدِمَ الشيخ سَعِيد مِن يِرْكا إِلى شفاعمرُو وحضر مراسيم تشييع الجنازة، ومع الانتهاء مِن ذلك توجَّه نحو دابَّته وأَراد أَن يعود إِلى يِرْكا، ولكن أَقاربه وذويه طلبوا منه أَن يبقى معهم في شفاعمرُو ريثما تنتهي مدة تقديم التعازي، وهي عدد مِن الأيام، فأَجابهم الشيخ سَعِيد بأَنه يُوافق على ذلك شريطة أَن يُلبُّوا طلبا واحدا له، فأَجابوه أَنهم موافقون، وعندما سألوه عن طلبه أَجابهم أَن طلبه هو تحضير وجبة "كُبّة" في ذلك النهار، وأَن يأكلوا جميعهم منها، فوافقوا، وكان ذلك، وبقي الشيخ معهم طيلة فترة تقديم التعازي، والهدف من تصرُّف الشيخ بهذا الشكل كان ردع أَهله من الغُلُوِّ في الحزن على الفقيد، وفي المآتم بشكل عام.
ونحن نُورد فيما يلي عددا من مواقف أُخرى للشيخ سَعِيد، كنت قد سمعت قصصها من بعض سكان يِرْكا، مِن الرجال والنساء، وهي تلقي ضوءً جليًّا على شخصيته الفذَّة الكريمة.
• "خلال إِحدى المرات التي تواجد بها المرحوم الشيخ سَعِيد عليَّان في خلوات البَيَّاضَة ببلدة حاصبيَّا بلبنان، اشترك في حلقة ذكرٍ ووعظ بصحبة لفيف من رجال الدين الكبار من لبنان وسوريا وفلسطين، وعلى رأسهم كان المرحوم الشيخ أَبو حسين محمود فرج، وهو من بلدة عبيه بلبنان، ومن كبار رجال الدين الموحدين الدروز على مر العصور، وعندما تقدَّم أَحد الحاضرين خلال تلك الحلقة الدينية بكتاب وعظ نحو الشيخ أَبي حسين محمود فرج وأَراد أَن يقدمه له كي يقرأَ فيه ويُسمِع الحاضرين، أَشار له الشيخ بيده، تواضعا، أَنه لا يريد أَن يقراَ، وأَن يتقدم نحو شيخ آخر ليقوم بذلك، ونظرا لأن الشخص حامل الكتاب لم يعرف على مَن وقع اختيار الشيخ أَبي حسين محمود فرج كي يقوم بهذه المهمة، فاستمر في التقدم بإِزاء الحاضرين وهو ينظر إِلى الشيخ أَبي حسين محمود فرج كي يستشفَّ على مَن وقع اختياره، وعندما وصل إِلى موضع جلوس الشيخ سَعِيد عليَّان رفع الشيخ أَبو حسين محمود فرج يده وقال لحامل الكتاب: قف عندك واعطِ الكتاب للشيخ سَعِيد فهو زاهِد وعالِمٌ وعامِل، وأَجدر الحاضرين وأَحقُّهم بالقراءة في هذا الكتاب الشريف".
• "ذهب أحد سكان القرية مرة مع ابنه، وكان يافعا، لمساعدة الشيخ سَعِيد في الحراثة في قطعة الأرض التي كان يفلحها في موقع "الحراري"، واستلم الابن المحراث وبدأ يحرث، وخلال الحراثة عَلِق المحراث بحجر كبير كاد يكسر السكة، فقال الشيخ سَعِيد: "بِئْس الشيطان"، فالتفت نحوه الحرَّاث وقال: "وما دخل الشيطان ؟"، فأجابه الشيخ سَعِيد: "تُدافع عن الشيطان ؟ إِذاً كفانا حراثة اليوم، فُكَّ العود واصرف الدَّواب".
• "ذهبت مرة أَنا وزوجتي لنساعد الشيخ سَعِيد وزوجته أُم علي طَفْلَة في حصاد (حليشة) العدس في قطعة الأرض التي كان يفلحها في "الحَرَاري"، وفي قطعة الأَرض تلك كان يومها نملٌ كثير، وكان النمل يسحب حبات العدس من أَمامنا، وعندما حاولت زوجة الشيخ أَن تُبعد النمل عن العدس، قال لها الشيخ: دعي النمل يفعل ما يشاء، فالله يبعث لنا رزقنا ويبعث للنمل رزقه".
• "طلب مني والدي مرَّة أَن أَذهب بدلوٍ من الحليب وأُقدِّمه هديَّة للشيخ سَعِيد، فذهبت، ولما وصلت إلى بيته سلَّمت عليه وقلتُ: هذا هدية من أَبي، فسألني الشيخ: مَن سَرَّح ماشيتكم اليوم أَنت، أَم أَخوك فُلان ؟ فأَجبت: أَخي. فقال الشيخ: عُد بالدَّلو إلى بيتكم، فأَنا لا أُريد هذه الهدية لأني أَعرف أَن من عادة أَخيك أَن يرعى الماشية في الأراضي المزروعة، وربما يكون قد فعل ذلك هذا اليوم أَيضا، وأَنا لا أُريد حليبًا مشبوها أَو حرامًا، وعندما تُسرِّح الماشية أَنت أَحضِر دلوًا من الحليب بدل هذا الدَّلو، فأَنت لا ترعى الماشية في الأَرض المزروعة".
• "أَنا كُنت أَحد الذين قاطعوا الشيخ سَعِيد عندما لزم جانب الحياد يوم وقع الخلاف بين أَبناء الطائفة الدرزية بشأن الرئاسة الروحية بعد وفاة المرحوم الشيخ طريف، وكنت مُنتميا إِلى إِحدى المجموعتين اللتين انقسمت إِليهما الطائفة بسبب تلك القضية، وكنت أُريد أَن ينضم الشيخ سَعِيد إِلى جماعتي، ولمَّا لم يفعل ذلك قاطعته أَنا وكثيرون غيري، وفي يوم من الأيام خلال تلك الفترة وَلَدَت زوجتي طفلا، وبعد أَيام قلائل طُرِق باب بيتي، ففتحت الباب وإذا الشيخ سَعِيد واقف على العتبة مع هدية بيده، فدخل البيت وبارك بالمولود الجديد، والله وحده يعلم كم خجلت مِن الشيخ ومِن نفسي في ذلك الموقف، فأَنا كنت قد أَعلنت المقاطعة على الشيخ، وها هو الشيخ في بيتي يبارك لي بطفلي الرَّضيع، وصرت أَدور حوله ولا أَدري ما أَفعل أَو ما أَقول، وبعد لحظات طوال من الخجل والحيرة والارتباك، شددت أَزري وقررت أَن أُبدي أسفي للشيخ على ما صدر مني بحقِّه، وبدأت اتكلم بصوت مخنوق، ولكن الشيخ، وكان قد شعر بحالي، لم يدع لي أَن أُطيل الكلام في هذا الموضوع، وقال: أَنا أَتيت إِليكم من أَجل المباركة بالمولود الجديد وليس من أَجل أَي هدف آخر، فليكن الطفل مُباركا بإذن الله". ومن الجدير بالذكر أَنَّ الشيخ رفض التدخل في قضية الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية لأنه كان يعتبرها قضية مُفعمة بالمآرب والغايات الشخصية البعيدة عن الدين والشَّرع، هذا عدا عن أَنه كان يعتبر نفسه ضيفا حَلَّ على يِرْكا، ولا يجوز له أَن يُغيظ أَحدا من سكانها بسبب الخلافات التي قد تحصل بينهم.
• "ذهبت مرة وأَنا طفل صغير ومعي سلة من التِّين إلى منزل الشيخ سَعِيد لأقدِّمها هدية له، فلما وصلت إلى بيته وأَردت أَن أُقدِّمها له قال الشيخ: لدي تين، فاذهب واهدِ السلة لأُناسٍ آخرين لا تين لديهم".
• "اتَّفقت مرة أَنا وصديق لي، وكُنا أَطفالا صغارًا، أَن نسرق بعض عناقيد العنب من دالية تابعة للشيخ كانت تقوم على عريشة بجوار بيته، واتَّفقنا أَيضا أَن ندخل أَرض الشيخ من الجهة الشرقية، وفي تلك الجهة كانت حاكورة (ولا تزال !) أَعلى من أَرض الشيخ وتتبع لأحد الجيران، وكان يدعم تلك الحاكورة في طرفها الغربي جدار من الحجارة (سنسلة)، وعلى رأسه كانت كومة من الحطب، وما أَن بدأنا الهبوط على الجدار الحجري بجوار كومة الحطب وإلاَّ الكومة تنهار بنا، وكذلك الجدار الحجري، وعندما وصلنا مع الحجارة والحطب إِلى أَسفل الجدار الحجري وأَصبحنا في أَرض الشيخ تبيَّن لنا أَن يد صديقي كُسِرَت وأَن رقبتي أُصيبت بضربة من أَحد الحجارة، فقفلنا عائدين من دون أَن نختلس العنب، ولم يرنا الشيخ ولم تَرَنا زوجته، ولما وصلت إلى بيتنا رأتـني أُمي وأَنا أَتأَلَّم، فسألتني عن حالي، فحكيت لها الحكاية، فقالت: تعال نذهب معا إلى الشيخ، وأَصرَّت على ذلك، فذهبت معها، فأَخْبَرَتْهُ بما حصل، فتوجَّه نحوي وقال زاجرًا: كم مرة دعوتك لأكل العنب ولم تأْتِ ؟ لماذا تفضِّل السرقة على النزاهة والحرام على الحلال ؟ ثم مدَّ يديه وفرك بهما رقبتي عددا من المرات، وسمعته يقرأُ بصوت منخفض دعاءً من أَجل شفائي، وقال لأمي: ادهني رقبته بالزيت أَو بالسَّمن، وإن شاء الله سوف يشفى عاجلاً".
• "كان من عادتنا نحن النِّسوة التي كانت بيوتنا ملاصقة من كلا الجهتين للطريق الضيقة المعروفة عند سكان يِرْكا باسم "الزّقاق"، والتي تربط بين ساحة القرية (الحارة) مع ساحة المرحوم الشيخ محمد معدي، الواقعة قليلا إِلى الغرب منها، أَن نجلس قُبيل الغروب خلال أَيام الصيف كل واحدة على عتبة بيتها، الواحدة مقابل الأُخرى، نستظلُّ جُدران منازلنا، ونتحدث في أُمورنا وشؤوننا اليومية، وعندما كنا نرى الشيخ سَعِيد قادما لعُبور هذه الطريق، التي كان بيته قريبا منها، كنا ندخل بيوتنا بسرعة، احتراما لحضرته، وتقديرا لشخصه الكريم".
• "ذهبت مرة، وأَنا طِفْلَة صغيرة، وبيدي سلة من التُّوت لأقدِّمها هدية للشيخ سَعِيد، وعندما وصلت إلى مدخل بيته رأيته بداخل البيت، فسلمت عليه وأَنا خارج البيت وأَخبرته بالهدف من مجيئي إليه، فقال: ضعي السلة على عتبة البيت ولا تدخلي، لأَن زوجتي غير موجودة الآن في البيت".
وحدَّثني والدي (والد كاتب هذه السطور) قائلا: " عندما كنت في البَيَّاضة ببلدة حاصبيا، وكان عمري اثني عشر عاما (عام 1920 م)، حضرت مرة ندوة دينية أّدارها شيخ وقور كبير في السن، بُحِثَت خلالها بعض مسائل الدين والشَّرع، وعندما عرض ذلك الشيخ إِحدى تلك المسائل وأَبدى رأيه فيها، تذكَّرت أَني كنت قد سمعت من الشيخ سَعِيد عليَّان شرحا آخر لها ورأيا مُغايرا فيها، فاستأذنت وقلت للشيخ ما كنت قد سمعته من الشيخ سَعِيد بشأن تلك المسألة، فأَجابني الشيخ بأَن كلامه هو الصواب وكل ما هو غيره خطأ، فسكت، وفي المساء عُدت إِلى غرفتي الطينيَّة في خلوات البَيَّاضة، ومع غروب الشمس طُرِقَ باب غرفتي، فقمت وفتحت وإِذا الشيخ نفسه بالباب، وحينما رآني تقدم نحوي بسرعة ولفَّني بذراعيه وقبَّلني وقال: أَنا آسف، فالقول الصواب هو ما ذكرت على لسان الشيخ سَعِيد، ولي طلب منك، فإذا عُدت إِلى يِرْكا وقصصت على الشيخ سَعِيد حكاية ما جرى بيننا، فقدِّم له أسفي واعتذاري. وعندما سألت الشيخ لماذا غيَّر رأيه فيما قال قبلا، أَجابني أَنه بعد انتهاء الندوة توجَّه إِلى المرحوم الشيخ فندي شُجاع، وهو من كبار رجال الدين الذين عرفتهم الطائفة خلال تاريخها، وأَخبره بما جري معي، فقال له الشيخ فندي شُجاع أَن قول الشيخ سَعِيد هو القول الصائب، وطلب منه أَن يأتي إِليَّ لتقديم الاعتذار، للشيخ سَعِيد ولي".
يوم وفاة الشيخ ويوم دفنه
تُوُفِّي الشيخ سَعِيد في آخر أَيام سنة 1951 (31.12.1951)، ودُفِن في أَول أَيام سنة 1952 (1.1.1952).
يوم وفاة الشيخ كان يوما عاصفا جدا وكانت الأرض مُوحلة، ورياحٌ صرصر باردة عاصفة قاصفة كانت تهب بسرعة عظيمة، ومن شدَّة سرعة تلك الرياح العاتية اقتُلِعت أشجار كثيرة في أَراضي القرية، ومن ضمنها بعض أشجار زيتون ضخمة عتيقة، اقتلعتها الريح من جذورها وطيَّرتها من مواضع غرسها، وكان الخروج من المنازل والمشي خارجها أَمرا صعبا وكان ويتطلَّب الحذر الفائق من الريح العاتية ومِن البَرْد القارس ومن الوحل الَّلزج العميق، ولا يزال المعمَّرون من أَبناء القرية يذكرون ذلك اليوم القاسي. أَمَّا اليوم التالي، أَي يوم الأَول من كانون الثاني عام 1952، يوم دفن الشيخ، فكان يوما آخر مختلفا تماما، فاختفت الغُيوم كليًّا وأَشرقت الشمس وسطع نورها وبان قُرصُها في وسط السماء الزرقاء الصافية، وسكنت الريح، وساد الهدوء الشَّامل، وتبيَّن أَن الريح السَّهُوك التي هبَّت يوم وفاة الشيخ جفَّفت وجه الأَرض وأَزالت الوحل، ولا يزال المعمَّرون في يِرْكا وفي القرى المجاورة، وكذلك كل مَن عرف الشيخ سَعِيد، يذكرون ذلك اليوم، تماما كما لا يزالون يذكرون اليوم الذي سبقه، ولا يزالون يُجرون المقارنات بين أَحوال الطقس في هذين اليومين، ولا يزالون يعتبرون ذلك التبدُّل السريع في اَحوال الطقس أُعجوبة من الأعاجيب، وينسبونه إِلى كرامات من عند الله لهذا الشيخ الوقور، فقيد الدين والمجتمع. وقد سُجِّيَ جثمان الشيخ في خلوة القرية، ومراسيم الصلاة على جثمانه الطاهر أُجريت في الطرف الغربي من حاكورة الخلوة، وحضر تشييع الجنازة خلق كثير مِن يِرْكا ومِن خارجها، وألقى المرحوم الشيخ أَمين طريف الرئيس الروحي للطائفة خطابا مُؤثِّرًا بيَّن فيه محاسن الفقيد ومزاياه، وبعد الانتهاء من مراسيم الصلاة والتَّأبين حُمِل الجثمان إلى موضع الدَّفن، ومُشيِّعُون كثيرون ساروا وراءه وهم حفاة، ثم وُري في التراب في الطرف الجنوبي من ساحة الخلوة، بجوار قبر المرحوم الشيخ محمد معدي مِن جهة الجنوب.
على الشاهد الحجري فوق القبر محفورٌ ما يلي، وكاتب الخط هو المرحوم الشيخ كمال معدي:
هو الباقي
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
هذا تاريخ وفاة المرحوم
والمغفور له العالِم
العامِل التَّقي الوَرِع الزَّاهد
المُغترب في سبيل الله
الحميد والدِّين المجيد
الشَّيخ أَبو محمد سَعِيد
في ۱ ۳ كانون أَوَّل
سنة ۱۹٥۱
قام بجمع التبرُّعات، وكذلك بالإشراف على قطع الحجارة ودقِّها ونحتها وبناء القبر، المرحوم الشيخ حسين حسين صغيَّر (1908 – 1974 م)، والد كاتب هذه السطور، وكان الوالد، الذي كان يتيم الأب، أَحد الأشخاص الذين تتلمذوا على يد المرحوم الشَّيخ سَعِيد عليَّان، وكان أَحد المُقرَّبين منه، وللشيخ كان دورٌ كبير في اتِّخاذ القرار بإرساله إلى خلوات البَيَّاضَة بلُبنان، وعمرُهُ اثنا عشر عاما، من أَجل التَّعَمُّق في الدراسة.
أَسماء المُتبرِّعين والمُتبرِّعات سُجِّلت على دفتر صغير، وإلى يمين اسم كلِّ مُتبرِّع أَو مُتبرِّعة سُجِّل المبلغ الذي تبرَّع أَو تبرَّعت به، بالليرات الإسرائيليَّة، وبأَنصافها، وبالقروش وبأَنصافها. علامة نصف الليرة الواحدة أَو نصف القرش الواحد هي العلامة التي كانت مُتَّبعة لدى المعمَّرين في تلك الحقبة، وهي ﮮ.
عدد المُتبرِّعين كان 90 مُتبرِّعا، من بينهم 28 سيدة. المبلغ الكلِّي الذي جُمِعَ من هؤلاء المُتبرِّعين والمُتبرِّعات كان 421 ليرة إسرائيليَّة، و 18 قرشا ونصف القرش الإسرائيلي.
حجارة القبر، وهي من صخر الجير الصُّلب الأَبيض المائل إلى الصُّفرة، قُطعت من موقع الأَرض المعروف ﺒ "الحَرَارِي"، وقد أَتينا على ذكر هذا الموقع سابقا. الشخص الذي قطع حجارة القبر كان المرحوم الشيخ هاني أَبو خَلاَّ، اَمَّا الشخص الذي دَقَّها ونَحَتَها وأَعدَّها للبناء فكان المرحوم الشيخ كمال أَبو خَلاَّ، وكلاهما كانا من جُولس، أَما باني القبر فلا نعلم مَن هو، اسمه لم يُسجَّل في الدفتر، والمعمَّرون الذين سألتهم حول هذه المسألة لا يذكرون ذلك.
أَسماء المُتبرِّعين والمُتبرِّعات سُجِّلت في الدفتر بأشكال مختلفة، ففي بعض الحالات، وهي قليلة، سُجِّل الاسم الكامل للشخص المُتبرِّع، أَو للسيدة المُتبرِّعة (مثلا: حسن توفيق أَسعد سلامة، شفيقة سلمان رمال، ولكن بالنسبة لهذه السيدة لم يُسجَّل اسمها تماما بالكامل، فاسم عائلة زوجها، وهي "الخطيب"، لم يُسجَّل)، وفي حالات أُخرى سُجِّل الاسم الشَّعبي الذي عُرِف به الشخص، أَو عُرِفَت به السيدة، لدى سكان القرية (مثلا: درويشة، بسيطة)، وفي حالات أُخرى سُجِّل اسم الشخص وبجانبه اسم أُمِّه، وليس اسم والده (مثلا: مهنا الزَّهر)، وهذا الشكل من تسجيل الأَسماء الشخصيَّة كان مألوفا في تلك الأَيام، تماما كما كان مألوفا خلال فترة الانتداب البريطاني وخلال الفترة العثمانيَّة. بالنسبة لغالبية النساء، فلم تُسَجَّل أَسماؤهن الشخصيَّة، وإنما سُجِّل بالنسبة لكل واحدة منهن ما يلي: "حُرمة"، أَي "زوجة" فُلان.
تواريخ جمع التَّبرعات غير مسجلة في الدفتر، وكذلك تاريخ بناء القبر، ولكن أَذكر أن ذلك كان خلال النصف الثاني مِن العِقد الخامس من القرن الماضي.
أَموال التبرعات استُودِعت عند عدد من الأشخاص في القرية، ولا زلت ذاكرًا لاثنين منهم، وهما المرحومان الشيخ جبر أَسعد رمال (الشيخ جبر السَّرْكَس)، والشيخ الأُستاذ مزيد حسن صالح، مدير مدرسة القرية في تلك الفترة، ومِن هذه الأموال دُفِعت أُجُور الأَشخاص الذين اشتركوا في قطع الحجارة ودقِّها ونحتها، وفي بناء القبر، ولكن لا تتوافر لدي معلومات بشأن المبالغ التي دُفِعت لكل واحد منهم.
وفيما يلي قائمة بأَسماء المُتبرِّعين والمُتبرِّعات، وإلى جانب اسم كل واحد منهم، أَو واحدة منهن، على جهة اليسار، وليس على جهة اليمين، كما هو مُسجَّل في الدفتر، المبلغ تم التبرُّع به، وقد وضعنا بداخل أَقواس تصحيحاتٍ للأخطاء الكتابية التي حصلت في النص الأصلي، وإِضافاتٍ لتوضيح بعض الأسماء الواردة في السِّجل، مع تبيان الانتماءات العائلية لأصحابها:
علم بيان المصاري الذي تحسنت بهم أهل الوفا إلى قبر الشيخ سَعِيد عليان رحمه الله
(علم بيان الأموال التي تحسَّن بها أهل الوفاء إلى قبر الشيخ سَعِيد عليَّان رحمه الله)
يوسف غبيش (يوسف محمد غبيش): 50 ليرة
أسعد قاسم عفيفة (أسعد قاسم ملا): نصف ليرة
جوهورة (جوهرة) العبَّاس (جوهرة العبَّاس "معدي" - شلِّه، زوجة سلمان حسين شلِّه): 5 ليرات
هنا حسين حَجَل (هنا حسين ملا - العبد، زوجة محمد العبد): ليرة واحدة
شفيقة سلمان رمال (شفيقة سلمان رمال - الخطيب، زوجة علي الخطيب): ليرة واحدة
بديعة سَعِيد معدي (بديعة سَعِيد معدي – خرباوي، زوجة حسن خرباوي): ليرة واحدة
علي الطَّابون (علي تَغَت): 25 ليرة
سلمان على أَمُّون: 5 ليرات
امعلي (أم علي) طَفْلَة (طَفْلَة نبواني – عليَّان، زوجة الشيخ سَعِيد عليَّان): 10 ليرات
أسعد غزالة (أسعد شحادة أبوحمدة): 5 ليرات
امحمد (محمد) حسن سلامة: ليرة واحدة
شفيق حسن نصرة (شفيق حسن صالح): نصف ليرة
حُرمة يوسف نُورة (شهربان صالح عطالله – أَبو نمر، زوجة يوسف نمر أبو نمر): 70 قرشا
اسليمان (سليمان) غبيش (سليمان محمد غبيش): 5 ليرات
سلمان أنيسة (سلمان سرحان تكتُوك "شلِّه"): 5 ليرات
عبد العبد (عبد يوسف العبد): ليرة واحدة
سلمان سويد (سلمان يوسف حبيش): ليرة واحدة
يوسف صالح خير: ليرتان
صالح سلمان حبيش: ليرة ونصف
سَعِيد عبَّاس (سَعِيد سليمان عبَّاس "معدي"): 25 ليرة
دوخي توفيق معدي: ليرتان
توفيق معدي (توفيق حسين "خَضُّور" معدي): ليرة واحدة
حُرمة حمدان الشَّاهين (عفيفة صالح معدي - عطالله، زوجة حمدان عطالله): ليرة واحدة
جمال سَعِيد الحمُّود (جمال سَعِيد كنعان): ليرة واحدة
امهنا (مهنا) الثَّابت (مهنا الثَّابت "شوَّاح"): ليرتان
نجيب ملحم سلامة: ليرتان
وطفة حسين الملا (وطفة حسين ملا – الحاج، زوجة علي الحاج): نصف ليرة
حمد الزَّهر (حمد شحادة): ليرة واحدة
دَرْويشة (حشمة خرباوي - معدي، زوجة محمد فرهود معدي): ليرة واحدة
بَسِيطة (عفيفة زِيَّان - بلُّون، زوجة يوسف بَلُّون): ليرة واحدة
حُرمة سليمان رشراش (وطفة قارُوط – أبو جنبٍ، من يانوح، زوجة سليمان رشراش أبو جنب): ليرة واحدة
حُرمة حمد الحج (عفيفة سليمان صغيَّر - الحاج، زوجة حمد الحاج): ليرتان
امحمد (محمد) لحبيش (الحبيش أو حبيش): ليرة واحدة
حُرمة فرحات (ندى حبيش، ابنة سلمان حبيش وزوجة فرحات حبيش): ليرة واحدة
امحمد (محمد) علي حسين الملا: نصف ليرة
يوسف حمزة الطريف (يوسف حمزة أَبو طريف): ليرة واحدة
أَمين غبيش (أمين محمد غبيش): 10 ليرات
حُرمة اسليمان (سليمان) غبيش ( عفيفة حبيش - غبيش، زوجة سليمان غبيش): 10 ليرات
يوسف التَّنوتلة (يوسف التَّنتُولة) (يوسف كحلول جَمَّال، ينتمي إلى عائلة "المَعَايْصَة"، أَو "المَعَايْضَة"): 25 قرشا
يوسف سليمان حمادة (يوسف سليمان حمادة صغيَّر ): ليرتان
سليمان حمادة (سليمان علي حمادة صغيَّر): ليرتان
امهنا (مهنا) الزَّهر (مهنا نايف شحادة): ليرة واحدة
أَبو شَمَط (أَبو جهاد) (مهنا سلمان عطالله): 5 ليرات
أسعد قُسْطَة (أَسعد سلمان عطالله): ليرة واحدة
اسليمان (سليمان) سلامة: ليرتان
اسليمان (سليمان) طويسه (سليمان سلمان دبدوب): ليرة واحدة
حُرمة عبيد أَبو دولة (ربما وقع هُنا خطأ كتابي، فربما كان يجب أَن يكون: "حُرمة حمد عبيد أَبو دولة"، وإِذا كان الأمر كذلك فتكون المتبرِّعة "مَنْوَة" زوجة الشيخ المذكور): نصف ليرة
حُرمة صالح الغزال (قرنفلة حبيش – خرباوي، زوجة صالح خرباوي): نصف ليرة
سلمان الفايز (سلمان فايز قويقس): نصف ليرة
يوسف نُورة (يوسف نمر أَبو نمر): نصف ليرة
امحمد (محمد) المَلاَّحِي (محمد علي بركات): ليرة واحدة
سَعِيد المُنهال (سَعِيد مُنهال حمُّود): ليرتان
اسليمان (سليمان) عبُّود أبو خطَّار (سليمان عبُّود خطَّار): 5 ليرات
حُرمة عبدالله السَّارة (أَنيسة حبيش - خطار، زوجة عبدالله خطار): نصف ليرة
حُرمة عبدالله السَّارة (أَنيسة حبيش - خطار، زوجة عبدالله خطار): نصف ليرة
نجيب لحبيش (الحبيش أو حبيش): نصف ليرة
سلمان امحمد (محمد) لحبيش (الحبيش أو حبيش): ليرة واحدة
أّحمد مرعي (أّحمد مرعي أَبو جنب): ليرة واحدة
صالح شمس (شمسة أَو أَبو شمسة) (صالح عزَّام): ليرة واحدة
امحمد (محمد) حمزة (حبيش): نصف ليرة
امحمد (محمد) أَبو ليل (محمد قاسم ملا): 18 ليرة ونصف.
حسن توفيق أَسعد سلامة: 5 ليرات
علي بدر (علي سعد عبَّاس "معدي"، وبدر هي أُمُّهُ): 5 ليرات
أحمد التَّكْتُوك (أحمد التَّكْتُوك "شلِّه"): 5 ليرات
نعيم عطالله (نعيم سليمان عطالله): ليرة واحدة
أَنيسة الدَّحَّة (أَنيسة صعب - شلِّه، زوجة سرحان التَّكتُوك "شلِّه"): نصف ليرة
اسليمان (سليمان) حمزة الطريف (سليمان حمزة أَبو طريف): 5 ليرات
نُور العين (نُور العين عبَّاس - حبيش، من قرية جَث، زوجة حسن حبيش): 5 ليرات
صالح العُوفِه (العُوفِي) (صالح أسعد بزبز، ينتمي إلى عائلة "الدِّر"): ليرة واحدة
جبر الرَّافع (جبر رافع أَبو طريف): ليرة واحدة
امكنَّا (مكنَّى) أّبو ريش (مكنَّى صالح أّبو ريش): 20 قرشا
رشراس (رشراش) مَي (رشراش حسن أَبو جنب): 10 قروش
علي الصبَّاح (علي كنعان): 18 قرشا ونصف القرش
حُرمة صالح العُوفِه (ندى خطيب - بزبز، زوجة صالح بزبز): 50 قرشا (نصف ليرة)
حُرمة نمر الدِّيد (سُمَيَّة عطَّار - دِيد، زوجة نمر دِيدٍ): 50 قرشا (نصف ليرة)
حُرمة جبر الرَّافع (طويسة أّبو جنب - أَبو طريف، زوجة جبر رافع أَبو طريف): 20 قرشا
حُرمة رشراش مَي (زهرة خرباوي - أّبو جنب): 20 قرشا
بدر امعدي (معدي) (بدر ظاهر - معدي، زوجة سَعِيد أَسعد معدي): ليرة واحدة
نايفة البُوريش (نايفة صالح أَبو ريش - حبيش، زوجة سلمان عيسى حبيش): 5 ليرات
حُرمة محمد أَبو خزنة (حجلة محمد عطالله - خزنة، زوجة محمد خزنة): ليرة واحدة
أَبو عُمَر (محمد حسن حبيش): 3 ليرات
مزيد حسن نصرة (مزيد حسن صالح): 10 ليرات
زيدان أَبو علي (زيدان علي بركات): نصف ليرة
من وصيَّة قُنْدِيّة (قُنْدِيّة صالح قويقس – زوجة صالح حبيش): 10 ليرات
زيدان أَبو زيدان ملا (زيدان سلمان ملا): 5 ليرات
زيدان أَبو زيدان ملا (زيدان سلمان ملا): 5 ليرات
عبد (عبدالله) أَبو ليل (عبدالله قاسم ملا): 5 ليرات
أَسعد غزالة (أَسعد شحادة أَبو حمدة): 10 ليرات (وكان قد تبرَّع قبلا بمبلغ 5 ليرات، فيكون مجموع ما تبرَّع به 15 ليرة)
سلمان حسين تكتُوك "شلِّه": 5 ليرات
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير