ألأمير شكيب أرسلان في رسالةٍ لَهُ مِن عام 1900 إِلى الشَّيخ مرزوق معدِّي
2015-12-15 20:09:10
ألأمير شكيب أرسلان في رسالةٍ لَهُ مِن عام 1900 إِلى الشَّيخ مرزوق معدِّي يحثُّ أهل يِرْكا على إرسالِ أبنائهِم للدراسةِ في مدرسةِ بلدةِ عْبَيْه بلُبنان
من أَرشيف البروفيسور علي صغيَّر
تاريخ الرِّسالة التي نتحدَّث عنها هو الثاني مِن مُحَرَّم عام 1318 هجري، المُوافق ليوم الثلاثاء العاشر مِن أَيَّار عام 1900 ميلادي، وقد كتبها الأمير شكيب بخطِّ يدِهِ وأَرسلها إِلى صديقه الشيخ مرزوق معدي مِن يِركا. ونحنُ ننشرُ هذه الرِّسالة بمُناسبة الذِّكرى التَّاسعة والستِّين لوفاة الأمير، ووفاتُهُ كانت بتاريخ التَّاسع من كانون الأوَّل عام 1946.
الأمير شكيب غنيٌّ عن التعريف، فقد كُتِبَت في سيرتِهِ وأَعمالِهِ عشرات الكتب ومئات المقالات والدِّراسات. وهو مِن أَلْمَعِ الشَّخصيَّات التي نشأت في الأُمَّة العربيَّة بشكلٍ عامّ، وفي الطَّائفة الدُّرزيَّة بشكلٍ خاصَ، وواحدٌ مِن أُولئك الذين قَلَّما يجود الزَّمان بِمثلهم، فهو بِهِم بخيلٌ ضَنِين، وقد كان الأَمير عفيفَ الِّلسان، وحافظًا للإِخوان، ورجل المبدأ، والصديق الوفي، والوطنيَّ الغيور، والمُناضل الشُّجاع، والصَّحفي البارز، والسياسيَّ البارع، والشاعر المُلهم، والكاتب المُبدع، والمُؤرِّخ المُحَقِّق المُدقِّق، واللغوي الضَّليع الحاذق، وأمير البَيَان، وكان ذا ذكاءٍ عجيب، وبصيرةٍ ثاقبةٍ مُذهلة، وكان خبيرًا بالأَنْفُسِ وبخبايا الصُّدُور، وكثيرٌ مِن الأحداث السيَّاسيَة والتاريخيَّة التي حصلت في هذا الشرق تَنَبَّأَ بحدوثها قبل أَن تحدث فعلا، وطيلة حياته مَلأَ الدنيا وشغل الناس، ولكنَّه، وبالرَّغم مِن كلِّ ذلك، وبالرَّغم مِن سُمُوِّ منزلتِهِ وعُلُوِّ همَّتِهِ، كان على جانبٍ كبيرٍ مِنَ التَّواضع، فهو يقول في كتابِهِ "سيرة ذاتيَّة" أَنَّه تردَّدَ كثيرًا قبل أَن يشرع في تدوين سيرة حياته، وهو يذكر عددًا مِن فطاحل العرب والمسلمين، كلِسان الدِّين بنِ الخطيب، وابن خلدون، وابن سينا، ويقول أَنَّ أَمثال هؤلاء جديرون بأَن تُدَوَّن سِيَرُهُم، وأَنَّه ليس جديرًا بذلك مثلهم، وبالنسبة لنا نحن سكان يِرْكا، فقد كان يحبنا ويغارُ على مصالحِنا، ونحن بادلناهُ حُبًّا بحُبّ، وَزِدْناه على حُبِّهِ حُبًّا، والذين عاصروه مِن أهالي القرية كانوا دائمًا يتسامرون بأقوالِه، ويفاخرون بأَفعالِه، وكانوا يقولون أَنه وُلِدَ عندنا في يِرْكا، وهم كانوا يُؤمنون بذلك ويُصرُّون عليه، حتى أَنهم كانوا يُشيرون إلى البيت الذي وُلِدَ به، هذا مع العلم أَن الأمير يقول عن نفسه في كتابه "سيرة ذاتيَّة" أَنه وُلِدَ في بلدة الشُّوَيْفات قُرب بيروت بلُبنان.
الرِّسالة
الرِّسالة التي نتحدَّث عنها مكتوبةٌ بخطٍّ أَنيقٍ وواضح، كعادة الأَمير في كلِّ رسائلِه، والأَمير لا يذكر اسم الشَّيخ مرزوق معدِّي في هذه الرِّسالة، كما كانت عادتُه في العديد مِن رسائلِهِ التي كانت يخطُّها ويُرسلها ٌإِلى أَصدقائِهِ الكُثُر. والرِّسالة هذه كانت جواب الأَمير على رسالةٍ كان قد أَرسلها له الشَّيخ مرزوق، والأَمير يعتذر للشَّيخ عن التَّأَخُّر في الرَّدِّ عليها بسبب مرضٍ أَلَمَّ بِهِ، وهو يدعُوهُ لزيارة لُبنان، وهو يلحُّ في ذلك، ويقول له أَنَّه عندما يقدِم إِلى لُبنان فسوف يُعَرَّفُ بِهِ الجميع، ولا شكَّ في أَنَّهُ يقصد بذلك جميع أَقاربِه وأَصدقائِهِ وأَعيانَ جبل لُبنان، ونحنُ لا ندري فيما إِذا كان الشَّيخ مرزوق فعلاً قد لَبَّى هذِهِ الدَّعوة.
"العَمّ" الذي يذكرُهُ الأَمير شكيب في رسالتِهِ، ولكنَّهُ لا يذكر اسمَهُ، والذي يقول الأَمير أَنَّ مكتوب الشَّيخ مرزوق عُرِضَ عليه، وأَنَّهُ يُسَلِّم عليه وعلى مشايخ يِرْكا، هو، على ما يبدو، الأَمير مُصطفى أَرسلان، وقد وُلِدُ في الشُّوَيْفات عام 1848، وتُوُفِّيَ بتاريخ 17 تمُّوز عام 1914، ودُفِنَ ببلدة عَيْن عْنُوب بجبال الشُّوف، وهذا الأَمير كان كريمًا وأَبِيًّا وجريئًا وشُجاعًا، وكان، مع نسيب بك جُنبلاط، قائِمَقامًا على منطقة الشُّوف لمدة ثلاثين عامًا، وقد تنازل عن قائِمقاميَّتِهِ هذِهِ للأَمير شكيب عام 1902.
المُعلِّم حُسين فَرَج الذي يقولُ عنهُ الأَمير شكيب أَنَّهُ يقدِّم شكره للشيَّخ مرزوق هو الابن البِكر للمرحوم الشَّيخ أَبي حُسين محمود فَرَج مِن بلدة عبَيْه، تلك البلدة التي حثَّ أَمير البَيَان أَهالي يِرْكا على إِرسال أَولادِهِم للدِّراسة في مدرستها. والشَّيخ أَبو حُسين محمود فَرَج، كما هو معروفٌ ومشهور، مِن أَكبرِ وأَجَلِّ رجال الدِّين الدّرُوز على مرِّ تاريخ هذه الطَّائِفة.
توجُّهُ الأَمير شكيب إِلى الشَّيخ مرزوق معدِّي لحثِّ وتشجيع أَهالي يِرْكا على إِرسال أَولادِهِم للدِّراسة في مدرسة بلدة عبَيْه يأتي في ذيل الرِّسالة، ويبدو أَن الأَمير شكيب كان قد توجَّه مرَّةً أَو مرَّاتٍ سابقًا إِلى الشَّيخ مرزوق مِن أَجل هذا الهدف، بدليل أَنَّهُ يقول لهُ في رسالتِهِ هذه: "لا نزالُ نُكَرِّرُ على أَهلِ يِرْكا وتلكَ الجهاتِ وُجُوبَ إِرسالِ أَولادِهِم إِلى التَّعليمِ ..."، والأَمير يقول للشَّيخ مرزوق أَنَّهُ بالرَّغم مِن أَن مدرسة بلدة عبَيْه محصورةُ بدُرُوز لُبنان، إِلاَّ أَنَّهُ يُريد أَن يستفيد مِنها أَيضا سكان يِرْكا، وسائِر دُرُوز هذِهِ البلاد، ولكنَّ مِن عندنا لم يذهب أَحدٌ للدِّراسة في تلك المدرسة، وربَّما يعود ذلك إِلى حالةِ الفقر التي كان سكَّان يِرْكا، كغالبيَّة سكان هذه البلاد، يُعانُون مِنها خلال تلك الحِقبة المُتأَخِّرة مِن تاريخ الدَّولة العُثمانيَّة.
وفيما يلي نصُّ الرِّسالة:
حضرة الأَخ العزيز
لا بُدَّ أَن تكونُوا في غايةِ العتبِ عَلَيَّ مِن جرَّاءِ تأَخُّرِ جوابي، ولا شكَّ أَني لم أَسلمْ مِنْ لسانِكمْ هذه المُدَّة، لكنَّ العُذرَ عندَ كِرامِ النَّاسِ مقبولٌ، وأَيُّ عُذرٍ شرعيٍّ أَكثرُ مِنَ المرضِ، فإِنَّهُ مقبولٌ حتَّى في المحاكمِ، ولقدِ انحرفَ مِزاجي مُدَّةَ عشرينَ يومًا، وأَلجَأَنِي الضَّعفُ أَنْ أَنقطعَ عنِ الأَشغالِ، وأَشارَ إِلَيَّ الأَطباءُ بوُجُوبِ النُّزهةِ، فبقينا نحوَ شهرٍ في الجبلِ، نَجُولُ في الأَهويةِ النَّقيَّةِ، ونستنشِقُ نسماتِ الرَّبيعِ وزهرَهُ البديعِ حتَّى عادتْ صحَّتُنا وللهِ الحمدُ أَحسنَ ما كانتْ، ولمَّا كانَ ذلك يَسُرُّكُمْ اقْتَضَى تبشيرُكُم، فلا تحسَبُوا تأّخُّرَنا عَنِ الجوابِ عَنْ عدمِ اهتمامٍ، لا فإِنَّ منزلَتَكُم عندَنا أَنتُم تعرفونَها، وبِكُلِّ وقتٍ نتذكَّرُكُم ونشتاقُ إِليكم، وحبَّذا لو سمحتْ لَكُمُ الفرصةُ بالحضُورِ إِلى بلادِنا، فَكُنَّا نُعَرِّفُ بِكُمُ الجميعَ، وكنتُمْ تُبَدِّلُونَ الهواءَ، فلا تبرحْ هذِهِ السِّياحةُ مِن بالِكُمْ. قدْ عَرَضْتُ مكتوبَكُم على سيِّدي العَمِّ الذي يَمِيْلُ إِليكُمْ عَنْ بُعْدٍ، وأَمَرَنِي أَنْ أُبَلِّغَ سلامَ عطوفَتِهِ لَكُم ولجميعِ المشايخِ أَهلِ يِرْكا، ودائمًا المأْمُولُ أَنْ تُوافُونا بأَخبارِكُم، ولا تقطعُوا عنَّا تحاريرَكُمْ، وتكرارًا اقبلوا عُذري في تأَخُّرِ الجوابِ، ودُمْتُم.
المخلص
شكيب
أرسلان
في 10 مُحَرَّم سنة 318(1) (هجريَّة)
المُعلِّم حسين فَرَج شاكِرٌ لكُم جدًّا
لا نزالُ نُكَرِّرُ على أَهلِ يِرْكا وتلكَ الجهاتِ وُجُوبَ إِرسالِ أَولادِهِم إِلى التَّعليمِ، وإِنَّ مدرسةَ عْبَيْه عندَنا أَحسنُ مدرسةٍ في العُلُومِ العربيَّةِ، وَيُعَلَّمُ فيها الِّلِسانُ الأَجنبيٌّ جيِّدًا، وهواؤُها وموقِعُها في مَحَلٍّ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ، والتَّربيةُ بها فائِقَةٌ، ونحنُ لا نقصدُ سِوَى تثقيفِ أَولادِ الجماعةِ، لأَنَّ المدرسةَ تخسرُ على الأَولادِ، وأَوقافُها مخصوصةٌ بِدُرُوزِ لُبنانَ، لكنْ نحبُّ أَن نشرِكَكُمْ بهذِهِ الفائدةِ مِنَ التَّعليمِ، ونُعامِلُكُمْ مُعامَلَةَ أَهلِ هذِهِ الجِهَةِ، فالزَّمانُ زمانُ علمٍ وتربيةٍ.
وكُنَّا نتمنَّى أَن يكون قد أُقيم صرحٌ كبيرٌ في الشُّوَيْفات تخليدًا لذكرى الأَمير شكيب وشقيقِهِ الأَمير عادل، مع متحفٍ يحوي ما خَلَّفاهُ مِن آثار وكتابات، ومكتبة واسعة، وغُرفٍ لدراسة وبحث أَعمالِهما وتُراثِهما، مع تمثالَيْنِ شامخينِ لهُما أَمام ذلك الصَّرح. وكنَّا قد قرأنا مقالاً للأُستاذ نجيب البعيني نشرته صحيفة "أَلِّلواء" اللبنانيَّة بتاريخ 20 حزيران عام 2013 تحت عنوان: أَين ذكرى الأَميرين شكيب وعادل أَرسلان ؟ يقول فيه كاتبُه، فيما يقول:
"سؤالٌ أعود فأَطرحه مجدَّداً على المَلَأِ وعلى أَقرباء وأَصدقاء ومُحِبِّي عَلَمَيْنِ من أَعلام العُروبة والقوميَّة في دُنيا العرب والإِسلام، عُنِيتُ بهما، الأَمير شكيب أَرسلان والأَمير عادل أَرسلان: ماذا فعلنا لإِحياء ذكرهما ؟ وماذا سجَّلنا لهما في عالم الذِّكرى والتَّكريم ؟ ...
والسُّؤال المطروح اليوم:
أَين نحنُ مِنَ الإِهمال مِن ذكرى الأَميرَيْن ِ ؟
أَليْس مِنَ الإِهمال أَلاَّ تُقامُ ذكرى في كلِّ سنةٍ لهذينِ الأَميرَيْن ؟ وأَلاَّ تقوم لجنةٌ خاصَّةٌ بذلك، يشترك فيها وليد بك جٌنبلاط والأَمير طلال أَرسلان، وشخصيَّاتٌ أُخرى بارزة لها وزنُها وثقلُها، وغيرُهم مِمَّن يودُّون تكريم هذَيْنِ الرَّجُلين العظيمَيْن ؟
فأَين ذكرى هذينِ العِملاقَيْنِ شكيب وعادل أَرسلان ؟".
ونَحنُ نضيفُ ونقولُ أَنَّهُ ينبغي أَن يُقامَ للأَميرِ شكيب تمثالٌ شامخٌ عندنا في يِرْكا، القرية التي رَاسَلَها ورَاسَلَتْه، وأَحَبَّها وأَحَبَّتْه.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير