مَعْصَرَةُ عِنَبٍ أَثريَّةٌ مِنَ الفترةِ الرُّومانيَّة في أَرضِ يِرْكا
2016-01-14 16:33:05
مَعْصَرَةُ عِنَبٍ أَثريَّةٌ مِنَ الفترةِ الرُّومانيَّة في أَرضِ يِرْكا
مِن أَرشيف البروفيسور علي صغيَّر
آلافُ معاصرِ العِنَبِ الأَثريَّةُ موجودةٌ في البلاد، وفي مُحيطِ قريةِ يِرْكا وحدِها يوجدُ أَكثرُ مِن عشرينَ مَعْصَرةٍ كهذِهِ، وكُنَّا قد ذكرْنا بعضَها في كتابِنا "قريةُ يِرْكا ومُحيطُها" (بالُّلغةِ العبريَّة)، الذي أَصدرْناهُ عام 1992، وسوفَ نعرضُ فيما يلي مَعْصَرَةً لم نذكُرْهَا في ذلكَ الكتاب.
الموقع
المَعْصَرَةُ التي نتحدَّثُ عنها موجودةٌ في الطَّرف الشِّماليِّ الغربيِّ مِن أَراضي القرية، وهي منحوتةٌ في صخرٍ جيريٍّ ليِّنٍ، وهذا الصخرُ الجيريُّ هو الكِساءُ العُلويُّ لصخورٍ طباشيريَّةٍ بحريَّةٍ أَكثرَ لُيُونةً موجودةٍ تحتَهُ تَعودُ إِلى الفترةِ الجُيولوجيَّةِ المعروفةِ بِفترةِ السِّيْنُوْن (تقريبًا بينَ 89.3 و 65.5 مليون سنة مِن زمانِنا الحاضر). موقعُ الأَرضِ الموجودةُ بِهِ المَعْصَرَةُ هو مُنحدرٌ جبليٌّ ينحدرُ نحو الشِّمال بشكلٍ خفيف.
وُجودُ المعْصَرَةِ في هذا الموضعَ يدلُّ على أَنَّ الأَرضَ هناكَ كانتْ مشجَّرةً فيما مضى، وعلى الأَقلِّ وبالتَّأْكيدِ خلالَ الفترةِ التي كانتِ المعْصَرَةُ فَعَّالةً خلالَها، بالعِنَبِ، هذا مَعَ العِلمِ أَنَّ الأَرضَ هناكَ حاليًّا ليستْ مُفْتَلَحَةٍ وغيرَ مُشَجَّرَةٍ، وإِنَّما مُغطَّاةٌ بنباتاتٍ بريَّةٍ، خصوصًا مِنَ نَوْعَيِ البلاَّنِ والقُنْدَوْلِ، ونحنُ لا ندري لا متى تَوَقَّفتْ زراعةُ العِنَبِ هناك، ولا متى هُجِرَتِ المَعْصَرةُ.
تَعَرَّضتِ المَعْصَرَةُ، بكلِّ أَقسامِها التي سوفَ نذكُرُها فيما يلِي، إِلى عمليَّاتِ إِذابةٍ بفعلِ مياهِ المطر مُنذُ نُحِتَتْ وحتَّى هذه الأَيَّامِ الحاضرةِ.
عُمْرُ المَعْصَرَة
تَدُلُّ كُسُورُ الأَواني الخزفيَّةِ التي عثرنا عليها بِالقُربِ مِنَ المَعْصَرَةِ أَنَّها، أَيِ المَعْصَرَة، تعودُ إِلى الفترتينِ الرُّومانيَّةِ (37 قبل الميلاد – 324 بعدَ الميلادِ)، والبيزنطيَّةِ (324 – 638 بعدَ الميلاد)، ومعنى ذلك أَنَّها نُحِتَتْ في الصَّخرِ خلالَ الفترةِ الرومانيَّةِ، وأَنَّها كانتْ فعَّالةً خلالَ تلكَ الفترةِ، وخلالَ الفترةِ البيزنطيَّةِ أَيضا (على هاتَيْنِ الفترتينِ يُطلَقُ، عندنا في البلاد، أَيضًا الإسمُ العامُّ "فترةُ المِشْنَاةِ والتَّلْمُودِ"، وبدايتُها كانتْ مَعَ بدايةِ الفترةِ الرومانيَّةِ، ونهايتُها كانتْ مَعَ نهايةِ الفترةِ البيزنطيَّةِ، وسببُ هذه التَّسْمِيةِ هو كتابةُ المِشْنَاةِ أَوَّلاً، ثمَّ التَّلْمُودِ ثانيًا، خلالها، والمِشْنَاةُ هي التَّوراةُ اليهوديَّةُ الشَّفَهِيَّةُ، وتتكوَّنُ مِن سِتَّةِ أَسْفارٍ تَتَضَمَّنُ شرائعَ وسُنَنًا ومجموعةً واسعةً من الشُّروحِ والتفاسيرِ لِشريعةِ النَّبي مُوسى عليهِ السَّلامُ كما وردتْ في أَسْفارِ العهدِ القديمِ مِنَ الكتابِ المُقَدَّسِ، أَمَّا التَّلْمُودُ فهو كتابٌ ضخمٌ في شرحِ وتفسيرِ المِشْنَاةُ. خلالَ تلكَ الفترةِ كُتِبَ تَلْمُودَانِ، واحدٌ في البلادِ، هو التَّلْمُودُ الأُورشليمِيُّ، وآخرُ أَكبرُ وأَهمُّ في بلادِ بابل، هو التَّلْمُودُ البابِليُّ).
ومِنَ الجديرِ بالذِّكرِ أَنَّ أُولَى مَعَاصِرِ العِنَبِ عندنا نُحِتَتْ في الصُّخُورِ خلالَ العصرِ النُّحاسيِّ الحجريِّ (4500 - 3300 قبلَ المِيلاد)، مَعْصَرَةٌ مِن ذلكَ العصرِ موجوةٌ بِموقعِ الأَرضِ المعروفِ بالاسمِ "أَرضُ السَّمْرَا"، بِالقُرْبِ مِنْ كِيبوتْس يَسْعُوْر، في الطَّرفِ الشَّرقي لسهلِ عكَّا (سهلُ زﭭولُون).
أَقسامُ المَعْصَرَة
حوضٍ الدَّوْس
وهو مسطبةٌ منحوتةٌ في الصَّخرِ تميلُ قليلاً نحو الشِّمال، باتِّجاه جُرنِ جمعِ العصير. على هذا الحوضِ كانتْ تُوضَعُ عناقيدُ العِنَبِ، وعليها كانَ يُداسُ بالأَرْجُلِ مِن أَجلِ عصرِها. أَبعادُ الحَوْضَ هي كما يلِي:
طولُ الضِّلعِ الجنوبي: 3.7 متر تقريبًا
طولُ الضِّلعِ الشَّرقي: 3.0 متر تقريبًا
طولُ الضِّلعِ الشِّمالي: 2.6 متر تقريبًا
طولُ الضِّلعِ الغربي: 3.0 متر تقريبًا
العُمْقُ الحالي: 10 – 15 سم تقريبًا
العُمقُ الأَصلي: غيرُ معروف، بِسببِ تآكُلِ صخرِ المَعْصَرَةِ، خصوصًا بفعلِ الإِذابةِ بمياهِ المطرِ على مَرِّ القُرُونِ.
جُرْنُ جمعِ العصيرِ
وهو جُرنٌ منحوتٌ في الصَّخرِ إِليهِ كان يجري العصيرُ مِن حوضِ الدَّوْسِ الذي يميلُ بِعَدَدٍ قليلٍ مِنَ الدَّرجاتِ نحوَ ذلكَ الجُرْنِ، مِن أَجل تسهيلِ جَرَيَانِ العصيرِ إِليهِ، ونحنُ نعتقدُ أَنَّ مَسْحُوقًا مِن صخرِ الحِوَّارِ كانَ يُضافُ إِلى العصيرِ المُتجمِّعِ في هذا الجُرْنِ مِن أَجلِ تصفيتِهِ وترويقِهِ، قبلَ أَنْ يُنْقَلَ إِلى الجُرْنِ المُجاورِ، جُرْنِ خَزْنِ العصيرِ، وبالنِّسبةِ لخواصِّ صخرِ الحِوَّارِ واستخداماتِهِ في الماضي كُنَّا قد تحدَّثْنَا عن ذلكَ في مقالِنا "صفحاتٌ مِنَ التَّاريخِ الجُيولوجيِّ لِيِرْكا ومُحيطِها" في هذا الموقع، بتاريخِ 24.11.2014 ، وفيما يلِي رابِطٌ لذلكَ المقالِ: صفحاتٌ مِن التَّاريخ الجيُولُوجِي ليِرْكا ومُحِيطِها
شكلُ جُرْنِ جمعِ العصيرِ مستطيل تقريبًا، وأَبعادُهُ هي كما يلِي:
الطُّول: 140 سم تقريبًا
العَرض: 80 سم تقريبًا
جُرنُ خزنِ العصيرِ
موقعُهُ إِلى اليَسَارِ مِن جُرنِ جمعِ العصيرِ، إِلى هذا الجُرنِ كانَ يُنقَلُ العصيرُ الصَّافي مِن جُرنِ جمعِ العصيرِ، وبِهِ كانَ يُخْزَنُ عصيرُ العَنَبِ ريثما كانَت تُمْلأُ بِهِ الجِرَارُ، ويُنقَلُ إِلى حيثُ كانَ يجبُ أَن يُنْقَلُ. شكلُ هذا الجُرْنِ دائِريٌّ تقريبًا، ونصفُ قطرِهِ 70 سنتمترًا تقريبًا.
جُرنٌ صغيرٌ لِلْجِرَارِ
هذا الجُرْنُ هو حُفرةٌ صغيرةٌ دائِريَّةٌ تقريبًا منحوتةٌ في الصَّخرِ بِالقُربِ مِن جُرنِ جمعِ العصيرِ، وإِلى يَسَارِهِ، قطرُها حوالي 20 سنتمترًا، وعُمقُها حوالي 15 سنتمترًا، بِها كانتْ تُوضعُ وتُثَبَّتُ الجِرَارُ التي كانتْ تُمْلأُ بِالعصيرِ.
وماذا كانُوا يفعلُونَ بالعصيرِ ؟
العصيرُ كانَ يُستخدمُ في صُنعِ الخمرِ بأَنواعِهِ المُختلفةِ، ويُميِّزُ الكاتِبُ الرُّومانِيُّ كأئِيلْيُوْس أَﭘيْكْيُوْس (Caelius Apicius) في كتابِهِ “De Re Coquinaria” «حَوْلَ فَنِّ الطَّهْيِ»، مِن آخرِ القرنِ الرَّابعِ المِيلاديِّ، بينَ الأَنواعِ التَّاليةِ مِنَ الخمرِ، في ذلكَ الزَّمانِ:
خمرُ الزَّبِيْبِ (Passum).
خمرٌ عادِيٌّ (Vinum).
خمرٌ غيرُ مَمْزُوجٍ (Merum).
خمرٌ مُكَثَّفٌ (خَمرٌ مَغْلِيٌّ إِلى درجةِ الُّلزُوجَةِ) (Vino Cotto).
خمرٌ عَذْبٌ ينتجُ عندَ تخفيضِ حجمِ العصيرِ إِلى ثُلُثَيْ حجمِهِ الأَصلي وقتَ الغَلْي (Carenum).
خمرٌ عَذْبٌ ينتجُ عندَ تخفيضِ حجمِ العصيرِ إِلى نِصْفِ حجمِهِ الأَصلي وقتَ الغَلْي (Defretum).
خمرٌ عَذْبٌ ينتجُ عندَ تخفيضِ حجمِ العصيرِ إِلى ثُلْثِ حجمِهِ الأَصلي وقتَ الغَلْي (Sapa).
وبعدَ أَنْ دخلَ الإسلامُ إِلى هذِهِ البلاد انخفضتْ أَهميَّةُ مَعَاصِرِ العِنَبِ في إِنتاجِ العصيرِ مِن أَجلِ صُنعِ الخمر، وأَصبحَ العصيرُ يُستخدمُ، خُصوصًا في المناطقِ التي أَصبحتْ تدينُ بالإِسلامِ، في صُنعِ دِبسِ العِنَبِ، ولم ترجعْ لعصيرِ العِنَبِ أَهميَّتُهُ في صُنعِ الخمرِ مرّةً أُخرى عندنا إِلاَّ خلال الفترةِ الصَّليبيَّةِ (1099 – 1291 للميلاد)، وكانَ ذلكَ في المناطقِ التي سكنَهَا الصَّليبيُّونَ بشكلٍ خاص.
وكُنَّا نسمعُ مِنِ المُعَمَّرينَ عندنا أَنَّ كُرُومَ العِنِبِ كانتْ فيما مضى واسعةَ الانتشارِ في البلادِ إِلى درجةِ أَنَّ السُّكَّانَ كانُوا إِذا أَرادُوا أَن يُوصِلُوا خَبَرًا إِلى مدينةِ دمشق، كانُوا يطلبونَ مِن أَحدِ نواطيرِ كُرُومِ العِنَبِ أَن ينقلَ الخبرَ إِلى أَقربِ ناطورٍ مِنهُ، وهكذا كانَ الخبرُ يُنْقَلُ بالنِّداءِ مِن ناطورٍ إِلى ناطورٍ، ولكثرةِ الكُرُومِ واتِّصالِها مَعَ بعضِها، سرعانَ ما كانَ الخبرُ يصلُ هَدَفَهُ بِتلكَ المدينةِ.
لعلَّ أَقربَ أَنواعِ الخمرِ عنَدَ الرُّومانِ إِلى دِبسِ العِنَبِ الذي نعرفُهُ اليومَ، والذي لا يزالُ يُصنعُ عندنا في منطقةِ الخليل، وكذلكَ في لُبنانَ وسُوريا، وفي بعضِ دولِ الغربِ، كانَ النَّوعُ الذي أَطْلَقَ عليهِ الرُّومانُ الاسمَ "Defretum".
يُطْلَقُ على دِبسِ العِنَبِ بِالاﻨﭽليزيَّةِ الاسمُ "Grape molasses"، وبِالفرنسيَّةِ الاسمُ "Mélasse de raisins"، وأَصلُ الَّلفظتَيْنِ الأَجنبيَّتيْنِ "Molasse" و "Mélasse" هي الَّلفظةُ الَّلاتينيَّةُ "Mellaceum "، التي تعني "الخمرُ الجديد"، وهي صيغةُ الجامدِ لِلَّفظةِ ُ "Mellaceus" ، التي تعني "شبيهٌ بِالعَسَل"، وعلى العَسَلِ نفسِهِ يُطلقُ بالَّلاتينيَّةِ الاسمُ ُ "Mel".
مَعَاصِرُ العِنَبِ بِلُبنانَ في رِسالةِ ماجِستير مُفصَّلةٍ ورائِعةٍ لفتاةٍ مَوْهُوبَةٍ مِن لُبنان
توجدُ في هذا الشَّرقِ عشراتُ الآلافِ مِن مَعَاصِرِ العِنَبِ، وفي لُبنان وحدِها يُوجدُ الآلافُ منها، وقد حَظِيَتْ مَعَاصِرُ العِنَبِ الجميلةُ والكثيرةُ والمُتْقَنَةُ الموجودةُ في قضاءِ المَتْنِ الشِّمالِيِّ بِلُبنانَ بِدراسةِ مُفصَّلةٍ ودقيقةٍ ورائِعةٍ لفتاةٍ لُبنانيَّة مَوْهُوبَةٍ وعاشِقةٍ للفنِّ ولِلآثارِ، اسمُها زَيْنَة ﭽَبْرِييل، والرسالة تقع في 391 صفحة، وهي مكتوبةٌ بالَّلغةِ الفرنسيَّة، وقد أَعدَّتها زينة في نطاقِ دراستها لموضوع الآثار في الجامعةِ الُّلبنانيَّةِ بِبيروت، والرِّسالةُ مليئَةٌ بالرُّسُومِ والصُّورِ والجداولِ والخرائِطِ والمقاطعِ والتفاصيلِ الدَّقيقةِ، وقد حصلتْ هذِهِ الرِّسالةُ على درجةِ الامتياز، ونحنُ كُنَّا نتمنَّى أَن تستمرَّ زينة في دراسةِ الآثارِ، وفي بحثِ معاصِرِ العِنَبِ وسائِرِ آثارِ لُبنانَ، ولكنَّها، كما أَخبرَتْنِي، توقَّفتْ حالِيًّا عن ذلك، ونحنُ نأْملُ أَن تعودَ إِل دراسةِ وبحثِ الآثارِ في يومٍ مِنَ الأَيَّامِ، وأَن لا يكونُ ذلكَ اليومُ بعيدًا.
كلمةٌ أَخيرة
ونحنُ نعودُ ونكرِّرُ ونقولُ ما كُنَّا قد قُلْنا في حديثِنا الذي نشرْناهُ في هذا الموقعِ عَنِ الأَتُونِ الأَثَرِيَّ في أَرضِ القريةِ، هكذا قُلْنا يومَهَا:
نرجو ونأملُ مِن الجميعِ أن يحافِظوا على هذا الأثرِ التَّاريخي، وعلى كلِّ ما يتواجَدُ في أراضي يِرْكا ومُحيطِها، وأينما كانَ أيضا، مِن آثارٍ تاريخيَّةٍ، فهذه الآثارُ تشهدُ على تُراثٍ عريقٍ وتاريخٍ مجيد، إنَّهُ تُراثُنا وإنَّهُ تاريخُنا، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يُخفيهِما أو أن يمحُوهُما.
ونرجو ونأملُ أيضا الحِفاظَ على المعالِم الطِّبيعيَّة الرَّائِعة الموجُودة في أراضي يِرْكا ومُحيطِها، وأينما كانَ أيضا، فالطَّبيعةُ مدرسةٌ، ومكانٌ للتَّأَمُّلِ، ولراحةِ النَّفْسِ، ولِلعِبادةِ.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير