الشَّيخ سِرْحان المَلَهَم مِن يِرْكا يشتري عام 1751 بيتًا بِقِرْشَين
2016-07-13 17:27:07
الشَّيخ سِرْحان المَلَهَم مِن يِرْكا يشتري عام 1751 بيتًا بِقِرْشَين ونصفَ حاكُوْرَةٍ بِجِوارِهِ بتسعةِ قُرُوشٍ وساحةً أَمامَ مدخَلِهِ كُلُّ شِبْرٍ مِنْها بِقِرْشٍ
من ارشيف البروفيسور علي صغيَّر
من ارشيف البروفيسور علي صغيَّر
صفقة بيع وشراء فريدة أُجريت خلال شهر تشرين الأَوَّل عام 1751 في يِرْكا، بموجبها اشترى الشَّيخ سِرْحان المَلْهَم مِن الشَّيخ حسن بن صبح الأَشقر بيتًا بقرشين، ونِصفَ حاكُورةٍ كانت مُتاخِمة لذلك البيت بِتسعة قُرُوش، والمساحةُ التي كانت مُتواجدةً أَمامَ مدخل البيت اشتراها بقِرشٍ لكلِّ شبر مربَّع منها، وبحوزتنا وثيقة من ذلك التاريخ تثبت عمليَّة البيع والشِّراء هذه. مُدوِّن الوثيقة يقول في وثيقته أنها دُوِّنَت ووُقِّعَ عليها "يوم الأحد" خلال شهر ذي القعدة عام 1164 للهجرة، وذلك الشَّهر وذلك العام مُوافقان لشهر تشرينٍ الأَوَّلِ عام 1751 ميلادي، ولكنَّ كاتب الوثيقة لا يذكر التَّاريخ الموافق ليوم تدوينها والتَّوقيع عليها.
البيت الذي نتحدَّث عنه مبنيٌّ من الحجارة الجيريَّة المحليَّة التي اقتُطعت من موقع الأرض المعروف باسم "ظَهْر مْتِيبِن"، الواقع إِلى الشَّرق من يِرْكا، وبعض تلك الحجارة صُلب وبعضها ليِّن، وبعضها منحوتٌ ومدقوقٌ وبعضها الآخر ليس كذلك، وهو على شكل قَبْو، والقَبْو هو عقد أُنبُوبيّ (קִמְרוֹן חָבִית, Barrel Vault)، أي أن شكله شبيهٌ بشكل نصف البرميل المقصوص على طُوله، وهو يمتد من الشَّرق إِلى الغرب تقريبًا، وهو ينتهي في طرفيه الشَّرقي والغربي بقنطرتين من الحجارة الجيريَّة الصُّلبة المنحوتة والمدقوقة، قَوْسَيْهِما وسطٌ بين القوس الحجريِّة نصفِ الدَّائريَّة (Semicircular Arch) والقوس الحجريَّة القُوطِيَّة المُدَبَّبَة (Pointed Gothic Arch)، مع أنه أقرب إِلى الطِّراز الثَّاني من بين هذين الطِّرازَين. نحن لا ندري عمر القَبْو بالضَّبط، فلا توجد لدينا وثائق أو أدلَّة أَثريَّة بشأن ذلك، ولكننا نعتقد استنادًا إِلى نمط بنائه أنه يعود إِمَّا إِلى الفترة الصليبيَّة (1099 – 1291 م)، أَو المملوكيَّة (1291 – 1516 م)، أو العُثمانية الباكرة، وعلى كل حال فهو أَقدم من عام 1751 م، العام الذي دُوِّنَت خلاله الوثيقة التي تثبت عمليَّة البيع والشِّراء التي نحن بصدد الحديث عنها. وقد علمنا أنه عُثِرَ خلال أعمال ترميمه خلال العامَيْن 2009 و 2010 على قطع خزفيَّة في التُّراب الذي كان متراكمًا فوق مسطبته، ولكن هذه القطع لم تُحْفَظ، وكان بالإمكان الحصول على فكرة بشأن عمره لو حُوفِظَ عليها، وكلُّ ما وصلنا هو قسم من صحن خزفيٍّ مطليٍّ بالميناء الأَخضر الفاتح من الفترة المملوكيَّة.
وقد أُضيف إِلى القَبْو في طرفه الغربي، خلال الفترة العثمانيَّة المتأخرة، ولا ندري في سنة بالضَّبط، إِسطبلٌ قليل الطُّول، ولكن عرضه مُساوٍ لعرض القَبْو نفسه، وجُعِلَ مدخلُه في جداره الجنوبي، وفوق الاسطبل أُقيمت في حينه "سدَّة"، سقفها كان من الخشب ومسطبتها كانت من الطِّين، ولم يبقَ من أرضيتها سوى خشبتينِ نَخَرَهُما السُّوسُ.
بُنِيَت بلصق الجدار الشِّمالي للقَبْو خلال فترة الانتداب البريطاني غرفةٌ حجريَّة صغيرة، تنفتح إِلى الطريق الدَّاخليَّة الضِّيِّقة والمُلتَوية التي تلتفُّ من جهة الشِّمال حول موقع الأرض الذي يتواجد به القَبْو، وإِلى تلك الغرفة ينفتح القَبْو من جداره الشِّمالي.
الجِداران الأصليَّان اللذان كانا يقومان تحت القنطرتين الحجريتيَّن الشَّرقيَّة والغربيَّة هُدِما منذ عهد بعيد، ومع هدم الجدار الشَّرقي زال المدخل الشَّرقي للقَبْو، وهو المدخل الوارد ذكره في الوثيقة التي ثبتت عمليَّة البيع والشِّراء.
البيت بقسميه، القَبْو والاسطبل، لا يزال قائمًا حتى اليوم، وهو يقع على بُعد مسافة قصيرة من ساحة القرية، إِلى الجهة الشِّماليَّة الشَّرقيَّة منها، وهو يتبع لأبناء المرحوم الشَّيخ نجيب مبدَّا صالح، محمد ويحيى وصالح وكمال، أمَّا الحاكُورة التي بِيْعَ نصفُها طبقا لتلك الوثيقة فتُعرف في هذه الأيام باسم "البَاط"، وموقعها إِلى الشَّرق من القَبْو، ولا يزال قسم منها مستغلاًّ في الزراعة حتى هذه الأيام. العُملة التي استُخدمت في عملية البيع والشِّراء هذه كانت عُملة أَجنبيَّة من النوع الذي كان يُطلق عليه في ذلك الزَّمان اسم "القُروش الأَسديَّة"، وهذه كانت دولاراتٍ فضيَّةً هُولنديَّةً، كما سوف نوضِّح فيما يلي.
تعرضت أجزاء مختلفة من البيت خلال تواجده للهدم والانهيار، وبسبب ذلك رُمِّمَ عددًا من المرَّات، ونحن نعلم عن اثنتين منها، أُولاهما كانت خلال فترة الانتداب البريطاني، حينما رَمَّمَ المرحوم الشَّيخ حسين مُلاَّ (الشَّيخ حسين الحَجَل) جانبًا من الجدار الجنوبي، بين جدار الاسطبل وما تبقَّى من الجدار الأصلي، وثانيتهما كانت خلال العامين 2009 و 2010، حينما استبدَلَ أَصحابُ البيت، أَبناء المرحوم الشَّيخ نجيب مبدَّا صالح، سطحَهُ الطِّينيُّ بسطحٍ من الاسمنت المُسلَّح، ورَمَّمُوا القسم الشَّرقي من الجدار الجنوبي، إلى الشَّرق من بقايا الجدار الأَصلي، وبنَوا جدارًا تحت القنطرة الشَّرقيَّة بداخل القَبْو، ووضعوا أَخشابًا فوق السدَّة في أَسفل سقف البيت في ذلك القسم منه.
ومن الجدير بالذِّكر أن قَبْوًا أُنبُوبيًّا قديمًا آخرَ تواجد على بُعد أمتار قليلة من الزاوية الجنوبيَّة الغربيَّة للقَبْو الذي نتحدَّث عنه، وموقعه كان بجوار بيت المرحوم الشَّيخ مبدَّا الصَّالح من الجهة الغربيَّة، ولهذا القًبْو كان مدخلان، وكلاهما كانا ينفتحان إِلى الشِّمال، وكان مقسومًا بين عائلتين، عائلة المرحوم الشَّيخ أَسعد سلامة في قسمه الشَّرقي، وعائلة المرحوم الشَّيخ حسين قويدِر في قسمه الغربي، وقد بقي هذا القَبْو متواجدًا حتى سنوات الخمسين من القرن الماضي.
والفريد في أمر قضيَّة البيع والشِّراء التي نتحدَّث عنها هي أسعار العقارات المذكورة في وثيقة تثبيتها، فنحن لا ندري لماذا كان ثمن القَبْو كلِّه قرشين فقط، وثمن الحاكُورة تسعة قروش، ولماذا كان ثمن كل شبر مربَّع من مدخل القَبْو قرشا واحدًا، أي لماذا كان ثمن مساحة كل شبرين مربَّعين من المساحة التي كانت متواجدة أمام مدخل القَبْو مساويًا لثمن القَبْو كلِّه.
وفيما يلي نصُّ الوثيقة:
"وجه تحرير الحُروف ومُوجِب تسطير الصُّنوف وهو أَنه اشترا (اشترى) سِرحان ابن مَلْهَم من حسن ابن صُبح الأَشقر نصف الحَكُورة (الحاكُورة) الذي (التي) شرق المزبلة بثمن قدره تسعة قروش أَسديَّة، حدُّها من زاويت (زاوية) بيت شَرَانِق إِلى الطَّريق الشَّرقي وإِلى الطَّريق الشِّمالي وإِلى المزبلة، بهاذا (بهذا) جرا (جرى) الاتِّفاق والرِّضا (الرِّضى) من الجانبين، وكذلك بيت راشد جرا (جرى) الاتِّفاق عليه بقرشين بيعًا صحيحًا شرعيًّا ومخرجُه إِلى الشَّرق، والعايد (والعائد) علي (على) حسن كلّ شبر بقرش، حُرِّرَ ذالك (ذلك) نهار الأَحد من شهر ذي القِعدة سنت (سنة) أَلف وماية (ومئة) وأَربعة (وأَربع) وستِّين من هجرة النَّبي المُكَرَّم صلي (صَلَّى) الله عليه وسلَّم.
شُهود الحال
يوسف ابن محمد سلمان
زيدان مْخِيْمِر".
أبعادُ البيت المذكور في الوثيقة
كل القياسات الواردة فيما يلي هي قياسات داخليَّة، أي أنها أُجريت بداخل المبنى.
القَبْو (وهو الجزء الشَّرقي الرئيسي من المبنى):
الطُّول (من الشَّرق إِلى الغرب، أي من القنطرة الشَّرقيَّة حتى القنطرة الغربيَّة): 9.3 م
العرض: 4.1 م
المساحة: 38.13 مترا مربعا
الارتفاع (أي أكبر ارتفاع، وهو في الوسط): 4.2 م
الاسطبل (موقعه في الطَّرف الغربي من المبنى):
الطُّول (من الجنوب إِلى الشِّمال، أي من الجدار الجنوبي للمبنى حتى جداره الشِّمالي): 6.5 م
العرض (من الشَّرق إِلى الغرب، أي من القنطرة الغربيَّة للقَبْو حتى الجدار الغربي للمبنى): 1.6 م
سُمْك الجُدران:
الجدار الشَّرقي: 1.1 م
الجدار الجنوبي: 1.7 م
الجدار الغربي: 0.7 م
الجدار الشِّمالي: 1.3 م
عُمق المسطبة الحاليَّة للقَبْو (بعد ترميمه خلال العامين 2009 – 2010 ): 0.9 م
الأشخاص الوارد ذكرُهم في الوثيقة:
سِرْحان المَلَهَم (الشَّاري): جدّ عائلة "صالح".
حسن بن صُبح الأَشقر (البائع): على ما يبدو من أَقرباء الشَّيخ أَبي ماضي حسن الأشقر، المدفون في خلوة القرية، والذي كان ينتمي إِلى العائلة التي انقسمت فيما بعد الى العائلتين "شَلّه" و "خطيب"، ونحن لا نظن أنه الشَّيخ أَبو ماضي نفسه لأن الشَّيخ أَبا ماضي تُوُفِّيَ عام 1713 م، أي قبل تدوين هذه الوثيقة بكثير.
راشد (المالك الأَصلي للقَبْو، قبلَ ملكيَّة حسن بن صُبح الأَشقر عليه): نعتقد أنه راشد بَدْران، ولدينا وثائق يُستنتَجُ منها أنه كان ينتمي إِلى عائلة "العبد".
شَرَانِق: لا ندري مَن هو.
يوسف ابن محمد سلمان: لا ندري مَن هو.
زيدان مْخِيْمِر: جدّ عائلة "أَبو يوسف".
موقع المَزْبَلَة الوارد ذكرها في الوثيقة كان قليلا إِلى الشَّرق من القَبْو، وقليلا إِلى الغرب من "البَاط"، وبلصقه من الجهة الغربيَّة. في ذلك الموقع كانت تتواجد مَزْبَلَة عموميَّة لسكان الحيِّ المجاور للقَبْو في ذلك الزمان، وقد دام وجود تلك المَزْبَلَة عددا من عشرات السنين بعد عمليَّة البيع والشَّراء التي نتحدَّث عنها، ثم أُزيلت واستُخدمت أرضها في زراعة الخضار والتَّبغ، ولا يزال جزءٌ منها مستغلاًّ في الزراعة حتى هذه الأيام.
"الطريق الشَّرقي" المذكور في عقد البيع لا يزال موجودا حتى أيامنا هذه، وهو يُعرف لدى سكان القرية باسم "مراح العَجَّال"، و "العَجَّال" هو قطيع البقر، وسبب تسمية هذا الطريق بهذا الاسم هو استخدامه فيما مضى موضعا لتجميع الأبقار قبل إِخراجِها للمرعى.
و "الطريق الشِّمالي" المذكور في العقد لا يزال موجودا هو الآخر حتى هذه الأيام، وهو يربط ساحة القرية مع "مراح العَجَّال".
القُرُوش الأَسَدِيُّة
القروش الأَسَدِيُّة الوارد ذكرها في الوثيقة كانت دولارات فضِّيَّة هولنديَّة، وكان يُطلق على الواحد منها باللغة العُثمانيَّة أحد الاسمين التَّاليين "إِسِدِي غُرُوش" أو "أَسْلانْلِي غُرُوش" Aslanlı guruş) , (Esedî guruş، ولفظة "غُرُوش" بتلك اللغة هي صيغة للمُفرد، وليس للجمع كما هو الوضع في اللغة العربيَّة، واسم القطعة الواحدة منها باللغة الهُولنديَّة هو "ليﭭينْدالْدِر" ((Leeuwendaalder، وبالألمانِيَّة "ليﭭينْثَالِر" (Loewenthaler)، وبالاﻧﭽليزيَّة "لَيُوْن دُولار" (Lion Dollar).
سُكَّت الدُّولارات الفضِّيَّة الهُولنديَّة لأوَّل مرَّة عام 1575 م، خلال حرب الاستقلال الهُولنديَّة، وهي حرب الثَّمانين عامًا (1568 – 1648 م)، بين إِسبانيا والمُقاطعات الهُولنديَّة المُتَّحدة، التي ثارت في ذلك الزَّمان ضد الهيمنة الاسبانيَّة. وقد أُدخِلَت هذه الدُّولاراتُ الفضِّيَّةُ كعُملةٍ رسميَّة في الدَّولة العُثمانيَّة في نهاية القرن السَّادس عشر، وكان ذلك قبل إِنشاء العلاقات السِّياسيَّة بين الجُمهوريَّة الهُولنديَّة والدَّولة العُثمانيَّة عام 1612 م، وبعد ذلك التَّاريخ أَصبحت العُملةَ الاجنبيَّةَ الرئيسيَّةَ في الدَّولة العُثمانيَّة، وبقيت كذلك طيلة القرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر، وكانت تُستخدم بكثرة في البلاد، خصوصا في مدن الجليل وقُراه، لأن التُّجَّار الأوروبيين الذين اتَّخذوا في حينه من مدينة عكَّا مركزا تجاريَّا لهم، كانوا يستخدمونها في شراء القُطن من فلاَّحي البلاد، وسكَّان يِرْكا كانوا يزرعون القُطن بكثرة في "سهل مُرَّان" الواقع إِلى الشَّرق من عكَّا، وكانوا، كغيرهم من فلاَّحي الجليل، يبيعون منتوجاتهم من القطن إِلى هؤلاء التّجَّار، ويظهر القُطن الذي كان سكَّان القرية يزرعونه في ذلك السَّهل في الوثائق المحفوظة لدينا باسم "المَحْلُوْج".
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير