العقل الأسمى والعقل الأدنى .. بقلم كميل فياض
2015-09-21 10:37:45
ما هذان العقلان .. هل هما قابلين للتعريف والادراك والتحديد ، ام مجرد مصطلحين فلسفيين دينيين مجردين ..؟ ما علاقتهما في حياتنا الدينية والاجتماعية والاخلاقية .. هل يمكن الاستفادة منهما في معاملاتنا وفي علاقاتنا الحية وفي علاقاتنا وتصرفاتنا اليومية ؟ هل يمكن الاستناد الى العقل الأسمى - مثلاً - في حياتنا الثقافية والعلمية والحضارية ؟
لا نكاد نسمع او نقرأ شيء عن الموضوع رغم وجود هذين المصطلحين في تضاعيف تراثنا الروحي ، ولذلك اقرر اقتحام الموضوع في محاولة متواضعة لإلقاء الضوء عليه من منطلق رؤيتي العرفانية والفكرية ، التي اراها لا تنفصل عن سياق المفهوم التوحيدي في العمق ..
العقل الأدنى:
في الواقع هناك اوجه متعددة لمفهوم العقل وذلك لتعدد نشاط العقل ولاختلاف صفاته ومهماته ، ولاختلاف استخداماته عبر التطور الاجتماعي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي والثقافي الخ .. ولعل اهم صفتين او ابرز صفتان للعقل – كما هو معروف عمومًا – الصفة العلمية النظرية التي نستخدمها في التمييز بين الأشياء صحيحها وخطئها ، والصفة الأخلاقية التي نستخدمها في التمييز بين التصرفات جميلها وقبيحها ، فعندنا هنا عقل علمي نظري ، وعقل اخلاقي ، او الأصح صفتان للعقل تنسحبان عمليًا على النشاط الجمالي الذوقي عمومًا : كالأدب الشعر ، الفن ، الموسيقى ، الديكور ، وهندسة الحدائق وغيرها ..
لكن كيف نميز بين عقل اسمى وعقل ادنى في غمرة مختلف الافكار والمفاهيم والصفات والنشاطات والتصرفات ؟ فما هو العقل الأدنى وما هي حدوده ؟
العقل الأدنى يحمل اكثر من وجه ، وفي الأساس وجهين : وجه تلقائي ارتجالي انطباعي ، يشارك فيه الحيوان ، يتمثل في ردود افعال اولية على محرضات الطبيعة ، وهو عقل غريزي نابع من الجهة الحسية كواق او كرد مباشر على افعال الطبيعة من برد وحر وعطش وجوع وطلب أمن الخ ..
من هذه الردود ما هو تلقائي بدائي ، كما في حياة الحيوان ، فالحيوان لا يدرس كيف يرد على عوادي الطبيعة ، بل يلجأ الى ما هو قائم من كهوف واوكار وجحور، او يحفر بمخالبه واظافره واظلافه ومناقيره ، ولذلك فإن العقل الأدنى في الحيوان هو محض غريزة ورد فعل ..
لكن هل يعني ان الرد المدروس والمتطور والمعقد على الطبيعة يتخطى العقل الأدنى ؟ لا فهو امتداد له وان بعد الفرع فيه عن الأصل .. فما نعرفه ونشاهده من تطور مدني وصناعي وتجاري وتنظيمي في حياة الانسان ، لا يخرج عن مفهوم العقل الأدنى في الحقيقة ، فهو تطور عنه ويعود اليه في كل ما يبتكر الإنسان ويصنع ، ولا يخرج المنطق المتطور شكليًا وجدليًا وكماليًا وجماليًا عن نطاق الدوافع الأولية البدائية في الانسان والحيوان على حد سواء ، فالنظام البشري الوضعي المثالي يعكس نظام الطبيعة الخالصة في حياة النحل والنمل ، ومظاهر الجمال المطلوبة عند الطاووس والأسد نفسها مطلوبة عند المرأة والرجل في كل محفل اجتماعي ..
طيب اذا كان كل هذا " التطور" وكل هذا " التقدم " في حياة الانسان تمثيل للعقل الأدنى ، اين مكان العقل الأسمى واين تمثُّله ؟
لقد سبق وطرقت الموضوع من زاوية اخرى في الماضي .. وأقول هنا بما اننا نتعامل هنا مع موضوع لا حسي ، فقد يساعد في فهمه وفي فهم علاقتنا به ،التعبير بأمثلة مجازية من العالم الحسي .. يمكننا تصور العقل الأدنى : ضوء يصدر عن عالم الأشياء الخارجية الحسية بإيحاءاتها الشكلية ، بينما العقل الأسمى ضوء ينبعث من الداخل الروحي المباشر بإيحاءاته الحدسية .. فالعقل الأسمى هو ذات وليس نشاط ، وهو مصدر الحياة فينا وفي كل شيء ، ولكونه ذات هو غير مكتسب بل قائم ، وعلاقته بمصدره كعلاقة الشعاع المنبثق من الشمس بالشمس ، لا فاصل بينهما بل هو هي وهي هو في الماهية والجوهر ..
وكما ان الضوء الحسي المنبعث من الأشياء مصدره الأساس الضوء المنبعث من الشمس ، كضوء القمر والصفيح والزجاج وكل ما يعكس الضوء على الارض .. كذلك الضوء المعنوي – اذا صح التعبير - مصدره الأساس هو الله او الروح الكوني المطلق ، لكنه يفقد صفته الروحية الأصلية كانعكاس متمثل في ما سميناه عقل ادنى ، وهو يحمل صفات الغرائز دون الغرائز ، وصفات الافكار المتعلقة بالغرائز وبالعواطف وبالأشياء المرتبطة ، دونها ، كما تحمل المرآة صور الأشياء دون الأشياء .. ولذلك فإن علاقة العقل الأرفع بالأشياء ليس علاقة تفاعل في الماهية والجوهر ، كتفاعل مادتين كيماويتين ، بل هو تفاعل بسكلوجي ايحائي وحسب ، ولذلك فان علاقته بالأشياء هي علاقة توحد عرضي بين بعدين وطبيعتين ، لا بين جوهرين متفاعلين .. كتوحد الصور مع المرآة لا يوجد حلول فيها ، ولا تفاعل كيماوي ، بل علاقة انعكاس فقط .. وكما ان الصوَر لا تشغل حيزاً في المرآة ، هكذا لا يشغل وجود الأشياء والنشاطات الفكرية والشعورية والحسية حيزاً في الروح او في العقل الأسمى، وهما شيء واحد يحمل صفتين .. فالإشكالية المعرفية هي إشكالية بسكلوجية لا اكثر في النهاية ، والتحول من العقل الأدنى الى العقل الأسمى ، كتحول الوعي من حالة الحلم الى حالة اليقظة ، وهذه هي المعرفة بالحقيقة ..
اهمية الاتصال بالعقل الأسمى وكيف يتم :
تتمثل اهمية الاتصال بالعقل الأسمى كونه ذاتنا الجوهرية الخلفية ، وكونه يحافظ بطبيعته العليا على تفرده عن الأشياء ، فلا يلحقه تغيير ولا فساد ، وهو خالد ازلي ابدي ..اما كيف يتم الاتصال به فبمزاولة التأمل الروحي وعبر التحقيق والحوار الداخلي ، وبالتزام الطلب اليومي ، حتى يغدو محور اهتمام الفكر والشعور ، هكذا حتى بلوغ الكشف الفجائي العميق بلمحة واحدة ، ومن ثمة يغدو الطلب تلقائيًا وطبيعيًا عبر حياة اليوم يوم ، بغض الطرف عن التواجد الزماني المكاني ..
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير