"حقيبة العقل الخاوية" بقلم:شريف صعب-أبوسنان
2015-10-15 08:36:32
"حقيبة العقل الخاوية"
قصة قصيرة بقلم:شريف صعب-أبوسنان
قام فراس صباح هذا اليوم باكرًا،كعادته،اغتسل وفرشى أسنانه ثم شرع يلبس ثيابه الفاخرة.وضع ربطة العنق على عنقه،فتدلّت على صدره،كأبي عوّاد، وكانت عنّابيّة الّلون،أحبّها أكثر من باقي ربطاته. تدلّت على صدره...محكومةً بأمر دبّوسٍ ذهَبِيّ الّلون والأصل. اشترى فراس تلك الربطة في إحدى سفراته إلى المدينة الّتي نادرًا ما كان يسافر إليها لشراء بعض لوازمه الضروريّة ،فاليوم...أصبحت كلّ قرية بمثابة مدينة بعد أن"طمرت" الخيرات رؤوسنا حتّى النّخاع! تحكّم ذلك الدبّوس بالرّبطة حتّى أنّها لم تتمكّن من الحركة...وإنّما التزمت حدودها...!
توجّه فراس نحو حقيبته"الخاوية"، بنيّة الّلون، الّتي أكثر ما تُذكّر بشنطة المعلّم "برهوم" الّتى كان يحملها ليعلّمَ بضعة طلّابٍ في القرية...في أواخر سنوات الإنتداب البريطانيّ!
جهّز الحقيبة ثمّ وضع على رأسه العقال العربيّ الأصيل...فوق الكوفيّة الوطنيّة،أُسوة بما كان يفعله والده في الماضي البعيد.خرج من غرفته الفقيرة الّتي غطّت جنباتها طبقات من الغبار الداكنه الأزليّة...الجاثمة في كلّ مكان.
خرج من البيت بعد أن أقفله بمفتاحٍ أسودَ الّلون،ذي أسنانٍ كبيرةٍ لا يقِلّ عمره عن ثمانين عاًمًا،خرج إلى عالم المجهول،كعادته،لا يقصد مكانًا معيّنًا وإنّما لإمضاء وقت فراغه في شوارع القرية الّتي لعب فيها بطفولته مع أبناء جيله،عندما كان"مُدلّل" أمّه الصغير.خطا بضع خطواتٍ ثمّ عاد إلى الباب،فتحه ودخل إلى المطبخ وإلى الثلّاجة،لفحصها. على ضوئها الخافت لاحظ كيف أنّها خاوية، الّلهم إلّا من حبّتيّ طماطم...ونصف كأس لبنٍ مُصنّع،نفذ تاريخهُ، وحبّة خيار واحدة وصحنٍ صغيرٍ فيه بضع حبّاتٍ من الزيتون...كشح لونها وتغيّر طعمها،بقايا اسطوانة كان قد كبسها...من كرم الزيتون الّذي ورثه عن والدهِ! لم يعجبه منظر الثّلّاجة الخاوية فأقفلها بعنفٍ وبعنفوانٍ ملحوظَينِ،ثمّ أزاح نظره نحو المجلى الحجريّ الّذي تكدّ ست عليه بعض الصحون القذرة حيث أنّه لم يتعوّد على غسل صحونه بالماء والصّابون وإنّما بالماء فقط، فالصّابون "غاليًا"،في عُرفه،ولا حاجة...للتبذيرِ!
على المجلى شاهد أساطيلَ وجيوشًا من النمل،تسرح وتمرح،تتعاون لنقل..فُتات كِسرةِ خبزٍ يابسةٍ كان قد وضعها منذ أيّامٍ...ولم يُزحزحها من مكانها.
توجّه نحو المرآة القديمة المثبّتة على خزانة"جِهاز أمّه"،نظر إلى وجهه ثمّ ابتسم ابتسامة عريضةً وهو يرقب ملامحه الأنثويّة ووجهه...الأمرد،،ثمّ صاح بعد أن صَلّبَ:"آهٍ لو تشاهدني أمّي على هذه الصورة،لكانت فرحت...بابنها"المُدلّل!"
خرج من البيت تاركًا جيوش النملِ تُجاهد لتأمين قوت مُستقبلها...المُظلمِ في الشّتاء!
سار يترهّل وهو يلوح بشنطته البنّية ويراقب المارّة من حوله باستغرابٍ ملحوظ،مُؤمنًا أنّهم يُكنّون له الإحترام الكبير ويعتبرونه من...مُثقّفي القرية وأثريائها وزعمائها.آمن أنّه إنّما يُلفت أنظارهم...بمشيته المتبخترة وبشنطته السمينة...وببزّته وعقاله العريق،المُميّز الّذي لا وجود له،تقريبًا،في أيّامنا في أيّ قريةٍ عربيّةٍ.لقد أصبح العقال في خبر كان ولم يعُدْ محطّ اهتمام أيّ عربيٍّ في بلادنا...كالكرامة!
في الحقيقة،لم ينتبه له أيّ إنسانٍ من بني البشر لأن غالبيّتهم إعتبروه أهبلًا، ثمّ أنّهم كانوا منشغلين أكثر بشؤونهم وأمورهم الحياتيّة وفي همومهم اليوميّة، وهو،لا همّ عنده ولا غمّ ،خصوصًا بعد أنه يعيشُ وحيدًا فريدًا في بيت والديه،ذلك البيت الّذي كان في أحد الأيّام موئلًا لزعماء ورجالات القرية.
كانت بطنه خاويًةً وها قد شارفت السّاعة على الثالثة من بعد الظهر، وراحت معدته تُصدر أصواتَ الاستغاثة،تُنبّهه إلى صعوبةِ أحوالها.بدت نظرات المارّة إليه نظرات ازدراء وسخرية إذ أنّه،بشكله الخارجيّ،لم يُثرْ فيهم إلّا الاستخفاف بشخصه،أمّا هو،فقد كان يعيش في بَوْتقته المتخلّفة...على بقايا أمجاد الماضي البعيد،الّذي لا ينمّ إليه بأيّة صِلةٍ!
في الشّارع الرئيسيّ،وسط القرية،جلس فراس ليستريح قليلًا،يرنو إلى السّيارات المارّة أمامه يُمنةً ويُسارًا،والبعض ينظرون إليه غير آبهين بذلك "المضروب" القابع إلى جانب الطريق،وكثيرًا ما تعتري بعضهم موجة من الضحك التهكّميّ،خصوصًا لرؤيةِ عقاله ...المائل بشئ من الغرابة...كأمراء الخليج العربيّ.
بعد قليلٍ من الوقت وقف وتابع مسيرته،اليوميّة، باتّجاه مطعم الفلافل الشهير التّابع لأبي جرير.دخله ثمّ حيّا صاحبه،اقترب من صحن الفلافل الطّازجة،تناول قرصًا،غطّهُ بالطّحينة وابتلعه دفعةً واحدةً.كان القرص ساخنًا فشعطه وكاد يكوي حلقه فاغرورقت عيناه بالدموع،وراح يقلّبه بفمهِ ليتداركَ سخونته وهو يمازح الحاضرين لإلهائهم،رغم ما بان على وجهه من الألم..وهم يبتسمون إليه باحتيالٍ...ملحوظ. ثمّ تقدّم ثانيةً وتناول قرصًا آخرَ..رغم أنف الحاضرين...وأبي جرير وتناوله رويدًا رويدًا ثمّ طلب من أبي جرير أن يلفّ له...نصف رغيفٍ...للبيت،لوجبة الغداء.
خرج من "مظافة" أبي جرير بعد أن وضع الفلافل في شنطته الخاوية الّتي...تآنست برائحة الحمص والبقدونس المفلفل ثمّ سار وهو يتغندر في مشيته و...بغنيمته،يرمق الناس مُبتسمًا لهم وعلى وجهه علامات الرّضا.
بعد ذلك توجّه إلى ملحمة"النّوري" وطلب من القصّاب المناوب أن يُقطّعَ له...خصيتيّ جديٍ"كانز"،أسود لأنها...تُقوّي الدّورة الدمويّة، كما أخبره والده قبل عشراتِ السّنين!
في مَحمصِ ألكِنديّ لم يشترِ إلّا مئةَ غرامٍ من الفستق المُقشّر بعد أن تذوّق جميع ما عُرِضَ على البسطة،ليس .وضع الفستق في شنطته الأصيلة واشتعلت معركةٌ ساخنة ما بين...رائحة المُحَمّص والمُقلّى.
كان يعتقد أنّه من كبار الفلاسفة والإُدباء ك "هاينه ودانتي وابن خلدون" وآخرين وكثيرًا ما كان يُدير جدلًا فلسفيًّا و...سياسيًّا مع بعض من كانوا يقارعونه في هذا المجال،لإثارته.لقد كان دارسًا ومطالعًا في عهد صِباه ،خصوصًا في الكتب الدّينيّة...ومُلهمًا بالسّيّد المسيح وبأفعاله،كباقي أبناء طائفته،أمّا اليوم فقد أصبح مخبولًا في ذاته مع قلّةٍ في التّركيز و شئٍ من السّذاجةِ.
في طريق عودته مرّ بجانب سوبرماركت"النّعمة"،د خله وراح يتمشّى بين الرّفوف المكدّ سة بالبضائع ثمّ أخذ ليفةً صغيرة...للجليِ،دون أن يأخذ أسطوانة صابون،بعدها دخل إلى مرحاض المُجمّع ولاحظ عددًا من لفّات ورق"التواليت" على الرّفِّ فَ..."لطشَ"لفّةً ووضعها في الشّنطة ثمّ أقفلها بإحكامٍ. إتّجه إلى صندوق المحاسبة ودفع ثمن الّليفة وخرج من المكان باتّجاه بيته المُظلم العتيق...كقلبه، رأسًا للخزانة فتحها وتأكّد أنّ...رزمَ "الدولارات" ما زالت في مكانها،على حالها.ضحك وفرك يديه ببعضهما،علامة الرّضا وارتمى على سريره العتيق المليئ بال... ليستريح...من عناء المشوار!
اليوم، هو يعيش لوحده في ذلك المكان الّذي أضحى كالكوخ قياسًا بالبيوت الفاخرة الّتي شيّدها أبناء هذا المجتمع بفضل ...وفرة العيش وتيسّر الأحوال في البلاِدِ.
أخوه،مُفيدٌ يعيش مع زوجته وأبنائه في فرنسا،مهندسٌ في أحد المصانع وأختاه،ريمة وسُهى،مُتزوّجات خارج القرية وهو يقبعُ لوحده في ذلك الكوخ...العَفِنِ،وحيدًا،يُناجي دولاراتهِ، كلّ ليلةٍ ويحلمُ أحلامًا...ورديّةٍ.
توفيت أمّه بمرضٍ عُضال وكانت حاولت،حتّى الرّمق الأخير أن تزوّجه بأجمل فتيات القرية،إلّا أنّه رفض مُتزمّتًا مُتعجرِفًا، كلّ اقتراحاتها وتوسّلاتها.
ها هو اليوم قد جاوز السّبعين عامًا ..كاليتيم المقطوعِ من صخرةٍ،لوحده يتسوّل بعض الفتاتِ ,...يلطشُ من هنا وهناك ما تيسّرَ، لا يخرج القرشُ من جيبه إلا بطلوع الرّوح،كما يقولون،فالبُخلُ يكاد يقتله،مُعشّشًا في مُخّهِ.
مررت بسيّارتي وشاهدتهُ جالسًا على مقعد البلديّةِ وسط القرية،مُتمنطقًا عقاله العربيّ الأصيل في ساعات القيظ، وإلى جانبه شنطته البنيّة، يشخص بالمارّين أمامه،كأنّه يعدّ السّيارات الذاهبة والعائدة. انتابني الضحك من تلك الشّخصيّة الغريبة المُعقّدةِ الّتي لا تُثير إلّا السخريَة. لقد قدّرتُ أنّه يعتبر نفسهُ ويُقيّمها كثيرًا،وربّما يظنّ أنّه هو...وبسّ!
صحتُ،تلقائيًّا لأبنائي في السيّارة :ها هو،ها هو فراس المسكين.الأهبل،كما يسمّيه الكثيرون.نظر أبنائي إلى الرّجل المسكين الغريب في زيّه ثم همس أحدهم بصوتٍ خافتٍ:"والّله صدق من قال إنّ للّه في خلقهِ شؤون!"
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير