ناقدٌ رغمًا عنه بقلم د. حاتم عيد خوري
2015-10-30 08:14:57
ناقدٌ رغمًا عنه بقلم د. حاتم عيد خوري
كدتُ أعتذر عن قبول دعوة هاتفية وجهها إليّ الصديقان الأستاذ فتحي فوراني والأستاذ المحامي فؤاد نقاره (رئيس نادي حيفا الثقافي) لتقديم مداخلة في أمسية إشهار كتاب السيرة الذاتية للأستاذ فتحي بعنوان "بين مدينتين". لقد تساءلتُ مستغربًا: "ما لي وللمداخلات الأدبية ولما تتضمّنُه عادة من بُعدٍ تقييمي قد ينطوي على نقد أدبي لا أجيده ولم أمارسْه يومًا، سيما وأن كليهما يعرف أن موضوع تخصصي هو التربية العلمية (Science Education) وأن علاقتي بالأدب العربي تقف عند حدود كوني مطالعًا يعشق لغة الضاد ويرى فيها إناء جميلا يختزن موروثنا الحضاري ومعلمًا بارزًا (وحدانيًا!) من معالم انتمائنا القومي. أقول كدتُ أعتذر عن قبول تلك الدعوة الكريمة ، لكني ما لبثتُ أن قبلتُها وذلك بعدما تذكرتُ الحكايةَ التالية:
يُروى أن "الست فوزية" التي تُصرّ أن تُنادى بكنيتها "أم سليمان"، كانت تعتقد جازمةً بأنها أحسن طبّاخة في البلد، وأنّ "أكلاتها بتشهّي"على حد تعبيرها. كانت الست فوزية تنتهز كل مناسبة لتشيد بكفاءاتها ومواهبها "المطبخية" أمام ضيوفها. ذات مساء، وبينما كانت تمارس هواية الإطراء الذاتي، قرّر زوجُ الست، أي "أبو سليمان"، أن يستفزَّها أمام ضيوفهما وقد أنهوا للتوّ وجبة العشاء. إسترخى أبو سليمان في جلسته وسحب نفسًا عميقًا من نرجيلته، قائلا بابسامة خبيثة: "كل كفاءاتكِ ومواهبكِ هذه، هي بفضلي أنا". فقدت الست فوزيه صوابَها، وقفزت من كرسيها واقفةً وقد وضعت كفّي يديها على خاصرتيها، قائلة له: "بفضلك انت؟!! ليش انت شو بتعمل غير إنك بتوكُل؟". ضحك أبو سليمان ملء رئتيه قائلا لها: " هذا هو بيت القصيد، شو قيمة أكلك لولا ما أنا باكل؟".
حكاية الست فوزيه هذه جعلتني أتساءل في هذا السياق: " ما هي قيمة الأدب، إن لم يُقرأ؟ ألا يواجه ذات المصير الذي يواجهه طعامٌ لم يؤكل؟ وهل الجوارير التي كانت تُستودَع إنتاجات أدبية ناشئة، تعملقت يومًا لتصبح واجهات يطلّ منها أدباء معروفون؟ أو تطورت لتصبح دفيئات تنمّي قاماتٍ أدبية؟ أم انها قد أمست مقبرةً مندثرةَ الشواهد تُطمرُ في أعماقها مواهب أدبية واعدة؟ أوليست العلاقة بين الأديب وقرائه، هي علاقة تكافلية حية تتحركُ على محورِ أخذٍ وعطاء متبادل؟
من هذا المنطلق، وكقارىء عادي، يحق لي أن اقول إن ما يستهويني من الإنتاجات الأدبية، أكانت كتابًا أو مقالة أو قصة إلخ، هو ما تتوفر فيه المواصفات أو المقومات الثلاثة التالية:
(اولا) أن يكون متسلسلا لا مقطع الأوصال، له بداية ونهاية يربط بينهما خيط يحدّد الطريق لي كقارىء ولا يدعني أضيعُ في متاهات يبتدعُها فكرُ مدّعيّ الكتابة.
(ثانيا) أن يخاطبني من حيث المكان، الزمان، العبرة و/أو الرسالة.
(ثالثا) أن يكون غنيًا بل زاخرًا بالصور الكلامية، لأن قلم الأديب، في رأيي المتواضع، ينبغي أن يكون جهاز تصوير(كاميرا) يعرض أمام القارىء مشاهدَ منسوجةً من كلمات الأديب وفكره. هذه المواصفات أو المقومات الثلاثة، سأعتبرها الآن معايير أستعين بها، على تقييم الكتاب الذي نحن بصدد إشهاره.
إن التسلسل في كتاب السيرة الذاتية للأستاذ فتحي فوراني، قد تخطى حدود التسلسل الطولي ليصبح تسلسلا دائريًا، حيث تتعانق نهاية الكتاب مع بدايته. وهذا يبرز في دائرتين:
الدائرة الاولى: الكتاب نفسه. بداية السيرة كانت مع "بنت الكلب" والتي"هي المسؤولة الاولى.. وهي المحرّض الرئيس لميلاد هذه السيرة، فلولاها لما كانت هذه السيرة الذاتية.."(ص8). أما نهاية كتاب السيرة، فكانت عندما كشف جهاز السي تي عن "بنت الكلب" تلك وقال الطبيب في غرفة العناية المكثفة "لقد ألقينا القبض على المجرم، إنه سكتة دماغية"(ص285).
الدائرة الثانية: هي محطات مسيرة الحياة ذاتها: حيفا مسقط رأس صاحب السيرة، صفد مسرح ذكرياته "قبل انقشاع الضباب عن ذاكرة الصبي"، الناصرة مدرج طفولته وولدنته وفتوته وبداية عهد الشباب وتفتح براعم الكتابة الخ، وحيفا الاستقرارعملا ودراسة أكاديمية وبناء أسرة. إذن فقد اكتملت الدائرة مرة أخرى. من حيفا الى حيفا.
أما المخاطبة فحدّث عنها ولا حرج. إن الكتاب حافل بأحداث تخاطبني على امتداد واتساع خارطة حياتي. فحديث فتحي عن صفد وعن وجه جدّه الذي يبدو(صفحة 28) "كرغيف الخبز المقمر الخارج لتوّه من أحشاء الطابون" وعن حطته وعقاله وعلبة التتن (الدخان العربي) أعادني إلى صورة جدّي في فسوطه الذي كان يعمل مستنطقًا في بيت السراي في صفد إبان الحكم التركي، كما ذكرني بدموع والدي التي ذرفها يوم أخذني معه، لزيارة بيوت أصدقائه في صفد، لأول مرة بعد النكبة، سنة 1951. كان يشير بيده إلى العمارات المهجورة: هنا دار الحداد وهناك الصباغ وعائلة الخوري، لننتقل فيما بعد إلى حارة أخرى حيث وقف طويلا أمام عمارة قائلا بانفعال شديد: "هون بيت عمي المفتي الشيخ أسعد قدوره" مفتي مدينة صفد الذي كان وصيًّا على والدي وأعمامي بعد وفاة جدّي في سن مبكرة. وعندما يتحدث فتحي عن أكياس الإسمنت الفارغة التي كان يلملمها (صفحة 53) وعن مدرسته الابتدائية المكتظة وعن الفلقة (ص59) وعن دور "المحّايات" في تجديد شباب الدفاتر وخلق صفحات بيضاء مجددة (ص68) شعرت وكأنه كان يتحدث عن مدرستي الابتدائية في فسوطه. لكنه عندما توقف عند "جامعة الصفوري" والعلاقات الأخوية بين روادها (ص 124) كان يحملني معه إلى ثانوية تيراسانطه في الناصرة، وعندما تطرق إلى قضية نسخ دواوين الشعر كان يبعث بي في رحلة خيالية إلى المكتبة الرئيسية في الجامعة العبرية (جفعات رام) حيث كنّا كطلاب نحرص على نسخ أخبار وبيانات من صحف ومجلات مصرية.
لقد حرص فتحي وهو صاحب القلم المبدع أن يرصّع "سيرته الذاتية" بصور كلامية تشكل بمجموعها لوحةً فريدةً أخّاذة ووجبةً فكرية ذات نكهة مميزة، فنرى "اللهفة الجامحة تقفز من القلب ويقتلها الشوق لاكتشاف المدينة الضائعة"(ص20) ذات "الجبال التي تسكن فوق الضباب"(ص27) ونشاهد "لغة العيون التي تسير عارية كما خلقها ربها"(ص264) ونشم رائحة "رغيف الخبز المقمّر الخارج لتوّه من الطابون"(ص28) ونتحسس " القرش الشريف الذي يدخل إلى الجيب عبر بوابة العرق المقدس"(ص53) ونسمع "الصمت البليغ"(ص266) ونصغي "لانطلاق صوت إبراهيم طوقان شلالَ عذوبة من حنجرة صديق العمر حنا نقاره"(ص216) بينما كان "يتدفق من عيني فدوى طوقان شلال من الفرح الغامر"(ص217) وعندما "تتمرد اللغة على صاحبها"(ص256)، يكتب فتحي مشهدًا مسرحيًا مميزًا، أقتبسُ منه الجمل التالية: "في اليوم التالي ينهض الصباح من نومه"..."دفتر المذكرات على الطاولة ينتظر فيضَ المشاعر"..."يمتطي القلم صهوة اللغة ويتأهب للانطلاق في سمائها"..."فتتمرد اللغة على صاحبها..تتحصّن في قلعتها..وترفع راية التمنع والعصيان..وتأبي أن تخطو ولو كلمة". لكنّ القلم وقد عرف "كيف يعتلي صهوة الجموح والتمرد....يمدّ لسانه ساخرا"......"ثم تكون هدنة مؤقته"..."يرفع القلمُ الرايةَ البيضاءَ".
وعندما يرفع القلمُ الراية البيضاء تبقى الصفحة عذراء. والصفحات العذارى بمئاتها وألوفها تتطلع إليك يا حبيبنا فتحي، لتفضّ بكارتَها ولتزرعَ في أحشائها جنينًا جديدًا يولَدُ في غضون السنوات القليلة القادمة، ليحمل اسم "الجزء الثاني من السيرة الذاتية لفتحي فوراني"، وهذه المرة دونما حاجةٍ الى "بنتِ كلبٍ" ثانية.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير