"يصنع الحاضر ويبني المستقبل" بقلم د.حاتم خوري
2016-03-17 20:34:26
حالفني الحظّ فكنتُ واحدا من جمهور ضخم تجاوز الالفين عددا، توافدوا على قاعة المؤتمرات في حيفا، لمشاهدة عرضٍ موسيقي للموسيقار الكبير سيمون شاهين.
لن اتناول هذه اللوحة الفنّية بالتحليل والتقييم، لاني بحاجة الى بركته تعالى عملا بالمقولة المعروفة "بارك الله امرءًا عرف قدر نفسه". فانا اعرفُ قدْرَ نفسي لاني اقرُّ واعترفُ بانني لستُ موسيقيا ، ولا أحسِن العزف على اي آلة موسيقية. لكني اعرف ايضا، وبكل تواضع، أنني مستمع "مش بطّال" يمتلك اذنا تسمع وذاكرةً تختزن الماضي الفني، وبالتالي يحقُّ لي أن أسلُكَ كما سلك ابو سليمان في القصة التالية التي تجعلني استميحُ قرّائي عذرا وانا اعود الان لاذكّرهم بها:
يُروى أن "الست فوزية" التي تُصرّ أن تُنادى بكنيتها "أم سليمان"، كانت تعتقد جازمةً بأنها أحسن طبّاخة في البلد، وأنّ "أكلاتها بتشهّي"على حد تعبيرها. كانت الست فوزية تنتهز كل مناسبة لتشيد بكفاءاتها ومواهبها "المطبخية" أمام ضيوفها. ذات مساء، وبينما كانت تمارس هواية الإطراء الذاتي، قرّر زوجُ الست، أي "أبو سليمان"، أن يستفزَّها أمام ضيوفهما وقد أنهوا للتوّ وجبة العشاء. إسترخى أبو سليمان في جلسته وسحب نفسًا عميقًا من نرجيلته، قائلا بابسامة خبيثة: "كل كفاءاتكِ ومواهبكِ هذه، هي بفضلي أنا". فقدت الست فوزية صوابَها، وقفزت عن كرسيها واقفةً وقد وضعت كفّي يديها على خاصرتيها، قائلة له: "بفضلك انت؟!! ليش انت شو بتعمل غير إنك بتوكُل؟". ضحك أبو سليمان ملء رئتيه قائلا لها: " هذا هو بيت القصيد، شو قيمة أكلك لولا ما أنا باكل؟". حكاية الست فوزيه هذه جعلتني أتساءل في هذا السياق ايضا، كما تساءلتُ سابقا في سياق أدبي: " ما هي قيمة الفن على إختلاف انواعه من موسيقى ورسم ونحت ومسرح الخ، إن لم يُسمع وٍ/أو يُشاهد؟ ألا يواجه ذات المصير الذي يواجهه طعامٌ لم يؤكل؟ وهل الجوارير التي كانت تُستودَع مؤلفات فنية ناشئة، تعملقت يومًا لتصبح واجهاتٍ يطلّ منها فنانون معروفون؟ أو تطورت لتصبح دفيئاتٍ تنمّي قاماتٍ فنية؟ أم انها قد أمست مقبرةً مندثرةَ الشواهد تُطمرُ في أعماقها مواهبٌ فنية واعدة؟ أوليست العلاقة بين الفنان وجمهوره، هي علاقة تكافلية حية تتحركُ على محورِ أخذٍ وعطاء متبادل؟
من هذا المنطلق، ومن وجهة نظري كمستمع ومشاهد عادي، يحق لي أن اقدّم شهادة شاهد عيان، فاقول ان العرض كان ممتعا للغاية، عزفا ورقصا وغناءً وتنظيما....لقد سحرني سيمون بروعة عزفه على العود والكمان، ولباقةِ إدارته للفرقة الموسيقية بايماءاتٍ مبتسمة مشجِّعة، وبحُسْن تواصله مع الجمهور عِبْر ابتسامات آسِرةٍ ومداخلات مثقِّفة وتعليقاتٍ عفوية لطيفة مهضومة ومزيلة للكلفة، إكتملت جميعها بإعلانه عن الاستمرار في مشروع توفير منح تعليمية كاملة في جامعة بركلي في الولايات المتحدة الامريكية، لطلابنا الواعدين موسيقيا. إن سيمون بمبادرته هذه، يحتضن الزمنَ بابعاده الثلاثة: فهو سليل ماضٍ جرّدته النكبةُ الفلسطينيةُ من فنانيه باستثناء افراد قلائل كوالده المرحوم حكمت شاهين، وهو(اي سيمون) صانعُ حاضرٍ مشرق اطلت شمسُ أنغامه فغمرت عالما بأسره ، وهو ايضا، بمشروع المنح التعليمية هذا، يساهم في خلق ركيزة فنيّة موسيقية، يُبنى عليها مستقبلُنا الثقافي الحضاري المستهدَف والمُهَدَّد حاضرُه اليوم، من فئتين: (اولا) فئة ظلامية تكفيرية ترى في المسرح والسينما والرسم والنحت والغناء.....حواجزَ كحواجز الاحتلال الاسرائيلي، توصِدُ امام المؤمنين ابوابَ الجنة، و(ثانيا) فئة مؤسساتية حكومية اسرائيلية باتت ترى في الثقافة العربية تهديدا لسياستها الراعية لقِطاعِ قُطّاع الحطب وسقاة الماء، فجفّفت بالامس القريب مسرحَ الميدان تمهيدا لإقفاله نهائيا، وفرضت على مؤسساتنا الثقافية الاخرى، شروطا تتنافى مع ابسط قواعد الابداع الفني... والحبل على الجرّار....
اما بالنسبة للرقص والغناء، فلقد بهرتْني راقصةُ الفلامنكو الاسبانية باللوحات الفنية الراقية التي رسمتها بمنديلها وبحركاتها على خشبة المسرح، وبالسمفونية الإيقاعية التي عزفتْها بكعبيّ حِذائها. واخيرا وليس آخرا، أطربني غناءُ المطربين وتألقُ دلال ابو آمنه بطلَّتِها المهيبة ولباسِها الجميل المحتشم وحركاتِها الرصينة وصوتها الشجيّ العملاق المرن المُنصاع لإرادةِ أدائِها للألحان الاندلسية كما هو للعربية....
شكرا لجمعية تطوير التعليم العربي في حيفا التي بادرت الى هذا الاحتفال وقامت بتنظيمه، وشكرا الى سيمون والى جميع مرافقيه على المنصة. الله يحميكم.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير