خوري يُفتي إماما بقلم د. حاتم عيد خوري
2016-06-05 19:54:14
كلما هلّ علينا الشهر الفضيل، تستوقفني قصة واقعية حدثتْ لي إبّان فترة إعدادي لرسالة الدكتوراة في جامعة لندن ، قبل نحو 35 سنة.
هناك في أروقة الجامعة، تعرفتُ إلى شاب مصري قدّم نفسه إليّ باسم يوسف الإمام الحسيني، وهو طالب للدكتوراه سنة أولى، متزوج يقيم في لندن مع أسرته: زوجة وأطفال ثلاثة أكبرهم أقل من ست سنوات. تقاسمتُ مع يوسف إحدى الغرف المعدّة لطلاب الدكتوراة. كانت غرفتنا، كمعظم غرف زملائـنا، ضيقة وبالكاد تتسع لطاولة كلٍ منّا ومكتبته الخاصة. باب الغرفة يؤدي إلى ممر داخلي طويل، وشبابيكها طويلة ومرتفعة تلامس السقف، ممّا جعلنا نطلق عليها اسم الزنزانة..على سبيل الدعابة.
كان يوسف أسمر البشرة، خفيف الظل، حاضرالبديهة، كما كان متدينًا حريصًا على تأدية الصلاة في مواعيدها، حتى في ظروف غيرمريحة. كان يفترش للصلاة في غياب السجادة أو البساط، أشرطة الحاسوب الورقية العريضة التي كانت تـُستعمل آنذاك، وكان يكتفي بالحيز الضيق المُـتاح في "زنزانتنا " بعد تعديلٍ آنيّ لموضع الكرسي والطاولة. وهكذا كانتْ غرفتنا تكتسب يوميًا بـُعدًا وظيفيًّا مميزًا، لتصبح مصلى مؤقــّـتـا ، بالإضافة إلى كونها غرفة دراسة ومستودعًا للمراجع، وزاوية مسامرة تحتضن جلسات استراحة قصيرة نفرضُها على أنفسنا. كنّـا ننتزع تلك الدقائق المعدودة من برنامج يومي مثقلٍ بالدراسة الجادة، لاحتساء القهوة أو الشاي وتبادل الأحاديث والنكات. وبمدى ما كان يوسف مبدعًا كمعظم إخوتنا المصريين، في رواية النكتة، فقد كان لا أقل إبداعًا في فن الإصغاء والتجاوب مقهقهًا مع نكتة جديدة يسمعها: " حلوه، حلوه أوي والله ِ". جلساتُ الاستراحة تلك أصبحتْ، بالنسبة لنا، روتينا يوميا يخفّف من توتر الأعصاب المصاحب عادة لطلاب الدكتوراة، ولا سيما الأجانب منهم، في جامعاتٍ كجامعة لندن، تحترم نفسها وتحرص على مستوى خريجيها وهيبة شهاداتها. كما أصبح لتلك الجلسات طقسٌ ثابت: إذ حوالي الساعة العاشرة صباحًا، يبادر أحدُنا إلى إخراج "عدّة الشاي أو القهوة " - كما كنّا نسميها- من خزانة صغيرة في زاوية الغرفة، ثم يقوم بتسخين الماء وصبّ فنجانَين واحد له والآخر لزميله، إيذانًا بافتتاح حديثِ مسامرة طوله عادة كطولِ الوقت الكافي لارتشاف كلٍ منّا، ما في فنجانه. وهكذا غدتْ جلساتنا اليومية ، متـنـفـسًـا ننتظره بشوق.
استمرّ الحال على هذا المنوال، حتى أطل علينا شهر رمضان المبارك في فصلٍ صيفيّ طالتْ ساعاتُ نهاره. توقف يوسف بحكم صيامه عن إعداد الفنجانَين المعهودَين ، وتوقفتُ أنا احترامًا لمشاعره وعدم إثارة شهيته وإزعاج صيامه، عن تناول أي مأكل أو مشرب في غـرفـتـنـا إيّاها.
بدا لي يوسف متماسكا في الأيام الأولى لصيامه بالرغم من طول النهار، لكن بعض علامات التعب المتسللة عبر تثاؤب لم آلفه لديه قبل الصيام، جعلتْني أقلقُ عليه وعلى إنتاجه الأكاديمي كمًّـا وكيفًا . ولأني كنتُ أرى في يوسف موهبة عربية واعدة تتخطى حدود مصر، ولأني خشيتُ من أن يكون مردّ عدمِ تراجعِه عن الصيام، إحساسٌ بالحرج أمامي، قررتُ أن أُ ُريح ضميري وأعرض أمامه وجهة نظري المنطلقة ممّا أعرفه عن الإسلام كدينِ تسامحٍ ودينِ يـُسر لا عسر، ودين "لايكلّف الله نفسًا إلا وسعها "، لا سيما وأن يوسف يتحمل الآن وفي بلاد الغربة بالذات، مسؤولياتٍ جسامًا ويجابه تحدّيات جمّة كربّ أسرة وكباحثٍ ومُعدّ لرسالة الدكتوراة في مجالٍ إعتبرناه آنذاك، فـتحًا جديدًا في التربية العلمية.
إصغاءُ يوسف لحديثي كاد يغريني بالاستطراد والاستفاضة، لكني ما لبثتُ أن استدركتُ نفسي لئلا أبدو، وأنا أتحدث عن سماحة الإسلام أمام يوسف الشاب المتدين المثقف، كمن يبيعُ الماء في حارة السقائين. لذلك، قررتُ أن أغـلـف حديثي بدعابة، فقلتُ ليوسف : " قلما يتسنى لك يا عزيزي سماع " فتوى من ابن الخوري إلى ابن الإمام. أليس كذلك؟ ". ضحك يوسف ملء رئتيه، شاكرًا إيّاي على اهتمامي به ومقدرًا قلقي عليه.
رأيتُ يوسف في صبيحة اليوم التالي، يتقدم نحو الخزانة ليتناول من هناك عدّة الشاي ويـُعدّ الفنجانين، ثم يتوجه إليّ واضعـًا كفّ يده اليمنى على كتفي اليسرى، قائلا لي: "هذا الموقف يذكرني بنكتة الكنافة والليمونادة التي كنتَ يا حاتم، قد رويتها لي قبل أشهر قليلة....ألا تزال تتذكرها؟" قلت لنفسي: "لا بد أن يوسف يعني قصة ذلك الرجل الذي اعتاد، طيلة شهر رمضان، المجيء يوميًا بعد الإفطار، إلى محلٍ لبيع الحلويات الشرقية. كان يطلب في كل مرة من النادل أن يأتيه بوجبتَيّ كنافة شريطة أن تكون كل وجبة في صحن منفرد مشابه تمامًا للصحن الآخر، كما كان يطلب أيضًا كأسَي ليمونادة متشابهَين تمامًا. إستغربَ النادلُ هذه الظاهرة، فسأل الزبون: " لماذا يا سيدي لا تطلب صحنًا واحدًا فيه وجبة مضاعفة، وكأسًا واحدة كبيرة من الليمونادة ؟". أجاب الزبون: "كان لي صديق عزيز مغرمًا مثلي بالكنافة والليمونادة ، وكنّا في السنوات الأخيرة نترافق يوميًّا بعد الإفطار وعلى امتداد الشهر الفضيل، إلى أحد محلات الحلويات الشرقية، حيث يتناول كل منا وجبة واحدة من الكنافة وكأس ليمونادة . ثم هاجرصديقي من الوطن وأنا كما ترى، بقيتُ هنا حريصًا على تناول الوجبتين احترامًا وتقديرًا لصديقي".
في السنة التالية، ومع بداية الشهر الفضيل، لاحظ النادلُ أن الزبون العزيز وقد وصل للتو إلى المحل، لكنه طلب منه (أي من النادل) أن يأتيه بوجبة واحدة فقط من الكنافة وبكأس ليمونادة واحد أيضًا. أثارهذا التغيير فضول النادل، فسأل الزبونَ: " هل جرى لصديقك مكروه لا سمح الله؟ "، فأجاب الزبون: " صديقي ولله الحمد عال العال، أما أنا - كما دلـت الفحوصُ المخبرية التي أجريتْ لي مؤخرًا- مصابٌ بداء السكري. لذا توقفتُ عن أكل الحلوى، أما صديقي فلا ". ضحك يوسف من أعماقه مرة اخرى، وكأنه يسمع هذه النكتة لأول مرة، ثم قام بوضع فنجانَيّ الشاي أمامي على الطاولة قائلا لي بابتسامته المعهودة : "صديقك بخير يا عزيزي، لكنه صائم ولله الحمد!! أستحلفك بالله أن تشرب الفنجانين"، ومضيفًا بلهجته المصرية الموسيقية: "طيّب أنا صايم وإنتَ ذنبك إيه؟".
تحياتي الحارة إلى صديقي يوسف. أتمنى له ولكل الصائمين صيامًا مقبولا، متوّجًا بعيد الفطر السعيد، وكل عام والجميع بألف ألف خير.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير