هل كرست أعظم ما فيك لأعظم فكرة؟ بقلم كميل فياض
2016-07-07 11:53:58
هل كرست أعظم ما فيك لأعظم فكرة؟
وجود الله :
ان فكرة وجود الله كانت ولا زالت اعظم فكرة ، ليس فقط بالنسبة للمؤمنين ، بل ايضًا بالنسبة للكافرين والملحدين والشكاك واللاأدريين ، وان غاب عنهم ذلك .. فمسألة فكرة الله هي ذاتها مسألة العلاقة بمصدر الظواهر والموجودات ازاء المؤمن والملحد على حد سواء ، وهو اختلاف في الموقف وفي التفكير والاستنتاج ، ثم ما يترتب على ذلك من اشكاليات وانعكاسات اجتماعية وتاريخية ، سواء بالنسبة للفرد والمجتمع .. فالملحد تمامًا كالمؤمن يقصد الطمأنينة والراحة ازاء المجهول ، وهو يأخذ قرار مصيري ازاء المجهول خارج نطاق الظواهر، عندما ينفي امكانية وجود خالق ، وذلك رغم النزعة المغروزة في الملحد والمؤمن على حد سواء للخلود ، فلا احد يرحب بالموت وبالعدم ..
ان حب الحياة ونزعة الحياة للخلود ، هي في الحقيقة ذاتها غريزة البقاء مغلفة بالطبيعة في النبات والحيوان ، وتظهر في الوعي لدى البشر بدرجات مختلفة ، تعبر عنها عقائدهم وفنونهم وآدابهم وفلسفاتهم وحضارتهم ، سواء كانوا مؤمنين او ملحدين .. ومجرد وجود هذه النزعة في الجميع علينا ان نستنتج ان ما يقف فينيا خلف الظواهر هو شيء مختلف في جوهره ..هو بالتأكيد ليس الظواهر ذاتها ، وليس من جنس الظواهر ، اذ الظواهر خاضعة للتحول وللتفكك والاندثار ، بينما العطش فينا للبقاء لا ينقطع ولا يتغير في جوهره ،في كل مراحل التغير والتحول التي تعتري وجودنا الحسي وحتى لحظة زواله ..
اذن هناك وجودين : وجود جوهري يقف خلف النزعة للبقاء والخلود – فيما يتعدى الظواهر – ووجود عرضي هو وجود الظواهر .. ونسأل: هل مسألة وجود الخالق مرتبطة ارتباطاً حياً ومباشراً ووثيقاً بمصدر نزعتنا للبقاء والخلود ، ام ان لها مصدر او مصادر اخرى، وهل الخالق امر ضروري للوجود او غير ضروري ؟
اولاً الذين ينفون فكرة وجود خالق هم الذين ينفون فكرة وجود شيء خارج الظواهر ، ويعتبرون الظواهر هي الحقيقة النهائية للوجود ، وهم لا يقبلون اي حجة لا دليل حسي عليها ، وعلى الغالب يبررون وجود الكائنات على اساس عزامل الحظ والصدفة واللقدر الأعمى ، وهم الدهريين بالمصطلح القديم ، فالدهر هو الخالق في نظر هؤلاء .. اما الملحدون المحدثون فيقولون بنظرية التطور والانتخاب الطبيعي ، وهكذا يحلون مشكلة ضرورة وجود خالق من خارج عالم الظواهر – رغم وجود تلك النزعة فيهم لحب الحياة والبقاء وكراهيتهم للموت ورغم اقرارهم بها ، لكن الملحدين ماديي النظر ، حادين في صفاتهم الذهنية وفي امزجتهم عموماً ، وهم يعزون النزعات الروحية والوجدانية لتطور الانسان وارتقائه حضارياً ، لكن دون ان يعطوا تفسيراً مقنعاً لهذا التطور والارتقاء ، حين يقرروا ان جوهر الانسان ومصدر الحياة هو محض مادة ..
ما هي مصادر المؤمنين وما هي حججهم حيال وجود خالق ؟
اذا كان الملحدون يعتمدون الدليل الحسي لنفي فكرة وجود خالق ، فإن دليل المؤمنين على وجود خالقهم هو حسي ،فكما ان" البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، فإن الارض والبحار والسماء تدل على خالق حكيم خبير " وهذا الدليل قياسي سببي .. وللمؤمنين مصدر آخر للاستدلال على وجود خالق هو وسيط سماوي ، وحي ونبي ، رسول كتاب الخ ، وربما هو دليل اعظم في نظرهم ..
تفنيد لموقف الملحدين : الملحد يعتبر هويته الأساس في الوجود هو جسده ، لكنه لا يقدم اي تفسير مقنع ازاء نزعته للخلود وازاء القيم العليا من حق وخير وجمال ،التي يقر بها ويشعر بها في اعماقه، من حيث تجاوزها للمطالب الحسية المحض جسدية .. فلو كنت انا ذاتي هو الجسد لما طلبت ما يتخطاه .. افهم ان من الجسد تصدر الرغبة والحاجة للطعام والشراب وسائر ضروراته ، لكن فكرة الخلود نفسها لا تصدر ولا يمكن ان تصدر عن الجسد نفسه ، من منطلق ان فاقد الشيء لا يعطيه.. اما السؤال اذا كنا خالدين بجوهرنا فلماذا اذن نطلب الخلود ، فذلك لكون الجوهر الخالد فينا اختلط بالعرضي الزائل ،ونتيجة لفقدان الاتصال به بسبب الحائل العرضي ، فقدنا الوعي المباشر بجوهرنا ..
تفنيد موقف المؤمنين : لا ادري لماذا فكرة الخالق لدى المؤمنين غلبة فكرة الصانع، اذ الخلق يعني ايجاد من لا شيء من عدم ، بينما الصنع ايجاد من مادة موجودة .. أقول هذا كي يكون لمنطق القياس السببي الذي يعتمده المؤمنين معناه .. فالبعير كائن حسي موجود ، كذلك السائر الذي يترك اثر على الطريق ، اما خالق البحار والارض والسماء لا وجود حسي له كي تتم صحة نسب صلة خلق مادية له ، وبالتالي هو كائن افتراضي من استنتاج العقل الإيماني .. ومن هنا اختلفت العقائد حول فكرة الخالق ، حسب ثقافة ومزاج وبيئة كل ملة وكل امة .. وكما ان حواس الجسد تشارك في صنع العالم الموضوعي وتبلوره بمقاييسها الخاصة - ودليل على ذلك ان الكائنات المختلفة في الطبيعة تدرك العالم بصور مختلفة - فإن للعقول مشاركتها وأثرها واختلافها في صنع العالم الافتراضي والعقائدي والمعنوي عموماً ، باختلاف المكتسبات المعرفية ، ولذلك تعددت صور الله في نفوس البشر ، ولم يحصل التوحيد المزعوم بالتحول من الأديان الوثنية الى الأديان السماوية ..
اما الحاجة لفكرة خالق لدى المؤمنين ، فنابعة من تماهي الجوهر الخالد فيهم مع الجسد - بصورة وهمية على اي حال وصدور ادراكاتهم بالوجود من خلال هذا التماهي العفوي - وفي هذه الحالة يحتاج المؤمن الى من يحميه ويعتني به ويضمن له البقاء الأخروي على شاكلة صورته الارضية، فهو كجسد ضعيف وحقير ، وفكرة الخالق الرحيم المعتني هنا ضرورية كضرورة وجود اب وام للطفل في الدنيا ..
يظل هناك قلائل من الصوفيين والعرفانيين المتحققين في كل الازمنة ،استطاعوا ربما بفضل الصدفة والقدر وعوامل لا نعرفها ، ان يكشفوا عن حقيقة الوجود المطلق فيهم ،التي اتخذت صفة اله او الهة وملائكة لدى المؤمنين ، وهي جزء لا يتجزأ من وجودهم الذاتي ، وحيث طغى العرض في المؤمنين على الجوهر ، وبصورة لاواعية منهم انطلقوا بكل افكارهم ومفاهيمهم من هذا التماهي مع صورهم الحسية ، وقد شكلوا في اذهانهم صورا لكائنات ما ورائية بصفات مثالية غير واقعية ،واكسبوها قدسية ..
كميل فياض
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير