منطق العشوائية كميل فياض
2016-07-13 16:18:10
بقراءة موضوعية للواقع وللتاريخ نرى منطق العشوائية بارز في الحياة وفي الطبيعة ، يمكن ملاحظته في العواصف التي تدمر المزروعات ، يمكن مشاهدته في براكين وفيضانات وهزات ارضية تدمر اماكن عبادة، كنائس ،مساجد واديرة ، كما تدمر خمارات ومعسكرات جيوش ومستشفيات ومدارس وحضانات اطفال، وكل ما هو مقدس في حياة البشر دون تمييز ..
 وربما ما نعتبره عشوائياً ومأساوياً هو كذلك فقط مقابل منطقنا العقلي والاخلاقي الصارم .. واعتقد مهما حاولنا فرض هذا العقل في حياتنا في انظمتنا وفي اساليب عيشنا وفي مناهجنا وفي طرق تفكيرنا وتحصيلنا وفي بنائنا للواقع الخ، سيظل لهذا العقل بصفته الايجابية مدى محدود جدا ، وسنظل نواجه صدامات مع العشوائية التي هي عمليًا جزء لا يتجزأ من منطق السببية ، وما العشوائية الا عدم تلاقٍ  لسببية العالم الموضوعي مع مصالحنا البشرية ، وهي تبدو ربما من جهة الطبيعة فعل طبيعي .. 
 
والمنطق العشوائي قائم، ليس فقط  في العالم الخارجي الحسي الموضوعي ، بل ايضاً في حياتنا الذهنية والنفسية ،وهو يظهر بصور مختلفة واحيانا حادة جداً في التناقضات والتصادمات بين المشاعر والافكار والاحساسات المختلفة، بين الوازع الاخلاقي والغرائز ، بين الضمير الديني وبين الدوافع البيلوجية والنفسية ، بين المصالح الشخصية والمصالح الغيرية .. المنطق العشوائي والعبثي يُبطل مصداقية سلوكنا السوي ، ويبطل شرعية ما نحاول اظهاره كعادات وتقاليد محافظة ، كذلك في ما يحاول فرضه القانونيون والسياسيون ورجال المجتمع ، كقوانين وانظمة وضعية تسيِّر حياتنا..
 
وبالذات على قدر ما نحاول تطبيق عقلنا  بصورة اكثر صرامة على الواقع، يكون للتصادم وقع اشد معه ، وحياة اجتماعية مبنية على مثل هذا الواقع ، كبيت مؤسس على رمال متحركة ، ولك ان تتذكر صور الدمار للمدن التي سببتها الحروب عبر التاريخ ، وتشاهد ما يحدث اليوم في مناطق مختلفة ، كي تسأل اين هذا العقل .. ويبدو ان العقل الذي يصنع وسائل التدمير ويستعملها ، هو جزء من عشوائية الاقدار التي جاءت بهذا العالم ، وهو بوسائل التدمير التي يصنعها هو ضد نفسه حين يبني وينظم، وذلك قمة العبث .. 
 
ان منطق الواقع يتناقض مع منطق الاديان السماوية الوضعية ، اي المفروضة من الخارج ، من خارج الانسان( افتراضًا) ، وما الاديان والفلسفات العقلية المثالية الا اثواباً بشرية نلبسها للواقع بحسب رغباتنا ومصالحنا .. منطق الاديان يتعارض مع الواقع في فكرة العناية الالهية ، سواء كعناية مباشرة واعية ، او عن طريق قوانين عليا نيابة عن الوعي (الالهي الميتافيزيقي) ..
 
كلنا يذكر ضحايا التدافع في مكة ، وضحايا الاعتداءات في الاماكن المقدسة عند الشيعة وسواهم ، اين العناية الالهية، الا تجب للعباد ،على الاقل وهم في الأمكنة المخصصة للسماء..
ربما يقل قائل قال الله: اعقل وتوكل ، والاحداث المؤسفة التي وقعت داخل الحرم المكي راجعة لسوء في التنظيم والاستعداد البشري .. اوكي وماذا مع البراكين والزلازل والعواصف التي تدمر اليابس والاخضر في حياة الناس ، هل هي من سوء تنظيم ..! اين العناية الالهية .. المجاعات والامراض التي تودي بحياة الملايين من اطفال وعاجزين ..! أليست حروب البشر ضد بعضهم البعض انعكاس لتلك العشوائية .. 
 
مع ذلك اقول : ليس المشكلة في عقلنا وفي نزوعنا لعقلنة هذا العالم ، وانما في محاولتنا عقلنته في غير مكانه ،ولا غنى عن العقل في حياتنا طبعاً ، لكن مشكلة الانسان انه يحمِّل العقل ما لا يحمله ويضعه في مواجهة مع كل شيء ويثق به حيث يجب ان يشك فيه ،وفي اننا نعيش في واقع يخضع لحيثيات مغايرة لوجودنا الذاتي من داخل سيكلوجية مفهومية محددة ،وضمنها نحاول التصالح مع الطبيعة بصورة اعتباطية ، خصوصاً في عهد التمدن والحداثة وتعقد العلاقات وتداخلها مع التقنيات المتطورة .. لكن مكان العقل هو صميم الانسان ، ليس العقل النازع لتحويلنا الى آلية من آلياته في الواقع المادي، بل العقل كوعي خالص وكماهية للحياة ، كنرفانا خارج كل تحديد وتقييد ، فاذا كشفنا عنه فينا لا نعد نسعى لتطبيقه على عالم متحول متغير متناقض بطبيعته، وهذا الكشف يجعلنا نتقبل الاستسلام لأقدار الواقع بدل المحاولات العبثية والمضنية لإصلاحه وعقلنته وتعميره وتخليده ،يجعلنا نميل الى الأخذ بأسبابه الضرورية فقط ، دون ان يعني ذلك الاستهتار حيال ما يفرضه الوازع الاجتماعي والوطني والانساني ، انما يعني عدم التعلق بالعالم على حساب الكشف عن حقيقته على اي حال ..
 
ان منطق العشوائية الظاهر بقوة في حياتنا وفي الواقع ، هو ما استبعد فكرة الخالق المفارق المصمم لدي ، ورجَّح فكرة الفيض العفوي التي هي خليط  من عقل ومادة بنسب تتجلى في الكائنات وفي الحركة العامة في الكون والطبيعة ، هذا دون ان انفي بالمطلق اي اتجاه آخر لأي اعتبار اذا ما تأكد او رجح ، فالواقع وما يحدث فيه كما نشاهده ،هو ما يقرر المفهوم وليس المفهوم هو الذي يقرر ما هو الواقع وكيف يكون ، اي ليس رغباتنا واعتقاداتنا واحلامنا .. 
 
كميل فياض
 
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق