"صوتُ التراتيلِ المقدسةِ" قراءة في ديوان " حيث أنثى الحب تلد " للشاعرة ابتهاج خوري
2016-08-06 13:53:48
بقلم: نجاح إبراهيم
كما تتهادى التراتيل من صومعة ، كذا يكون صوت قصائد أنثى مشبعة بالنقاوة .
 
تسلك طريقاً تفضي بها إلى السّماء حيث السّعادة المرجوّة.
 
هذا الصوت يسكنُ في داخل الشاعرة " ابتهاج الخوري" يتماهى مع الطهر والضوء ، يتحدّى النفاق والكذب والخطيئة.
 
صوتٌ تعمّد بماء تعاليم منزّلة ، فلاعرفَ إلاّ الصلاة لكلّ جمالٍ وحقّ وخير.
 
في ديوان (حيث أنثى الحبّ تلد) قصائدٌ تنشدُ حياة صافية ، هانئة على امتداد وطن يُفتدى بالنفس والابن ، ليبقى مشعّاً  حرّاً. فمن خلالها نشمّ رائحة رغبة أكيدة لغد أفضل، ترسمه الشاعرة مؤكدة على الحبّ الحقيقيّ، الذي يكون بمثابة مخلص أوحد ، إذ يشابه المسيح الذي سيظهر ويطهّر العالم من الآثام ، ويزرع بدلاً عنها حبّاً سامياً وسلاماً:
 
" الحبّ نجده خصباً متجدّداً
 
يتكاثر
 
فالحبّ فعل
 
وصدى فعل.."
 
والحبّ عندها يتنابع ، فتغدو أكثر من أناها ، تتمدّد وتتسع ، فيصبح داخلها فضاءات لها لون الفرح.
 
و الشاعرة لا تُنقص من قيمة الرّجل، فهو حين يكون عاشقاً تنتشرُ حدوده فيها وتعي امتداده ، وهي قادرة على أن تبوح له بما فعل حبّه بها .لأنّ هذا الحبّ الذي يجمعهما ليس حبّاً عادياً وإنما خلاقاً  ومبدعاً ، يدفعهما إلى السير في دروب تتناسلُ مدىً من عطاءات ونور ونجوم تتراقص:
 
" سأغني حتى ينصهر
 
السكوت ويقشعك
 
فللحبّ عواقب
 
لا تسأل عن سبب يقنعك
 
لحظة ألمحك.."
 
والحبّ لا يقفُ عند حدود الرّجل ، وإنّما ثمّة حبّ أكبر من ذلك وأعمق ، حبٌّ يُفتدى بالولد والرّوح ،إنه الوطن الجميل الذي يستحق من الشاعرة قرابين غالية ، ليبقى في كفّ الله آمناً ورافلاً بالجمال والكرامة :
 
" نذرتُ للوطن ابني
 
في ليلٍ يترجى
 
عنقود البصر
 
ولؤلؤة شباب يفتدى
 
يصوغ البطولات
 
ويطلق كهنوت الشجاعة والجسارة.."
 
إن متتبع قصائد (حيث أنثى الحبّ تلد) يتلاهف ليقتفي أثر مواضيع أخلاقية مكتنزة بالمبادئ والمُثل ، والتي تسعى إليها الإنسانية جمعاء ، وهذا ما يبعدها عن شؤون الواقع المرير وفساده ، ومعاناة الفرد في هذا العصر الذي ينحدر صوب الخراب والدّمار وبحيرات الدم.
 
لقد حلّقت الشاعرة مسافات فوق هذه المآسي ، وهذا ليس تعامياً عما يجري على الأرض، وإنما لتوقها إلى خلاص منشود، فالإنسان أترع بالهمّ والمصائب ، وامتلأ صبراً وانكساراً وقد آن الأوان كي يحظى بطوق النجاة ، ويرتقي بمصابها، وذلك عبر المثاليات التي أطلقتها الشاعرة من خلال الألفاظ التي تناولتها ممهورة بروح الكتاب المقدس مثل:
 
(كهنوت- تقدّس- صلاة- الإثم – السّماء- المعبد – مخلّص – أوحد – تنسك – النواميس – صومعة – إيمان – روحي- جسدي – حب – موت ...الخ) ولم تبتعد العبارات أيضا عن تلك الرائحة الممعنة بالقداسة مثل:( طريق سعادة-  طوق النجاة هو.. الصعود إلى حضن الإيمان..)
 
في لغة القصائد استطاعت الشاعرة كسر نمطية اللغة الشعرية، والإتيان  بلغة أخرى كمعادل آخر ، لها صبغة الاصطفاء والقيم التي تحدثنا عنها، وهذا ما نراه مغايراً ومختلفاً عما قرأناه في أجواء القصيدة عامة. اختارت لغتها التي تشبه ما في داخلها من عوالم قد لا نستطيع فهمها من القراءة الأولى ، أو الوصول إلى أغراضها . ثمة إيحاء يختلط مع وعي الشاعرة لتنسكب قصيدة لها ملامحها الخاصة . وباعتقادي حين يحطم الشعر لغة عادية فعلى الأرجح أنه يعيد بناءها على مستوى أعلى ، وذلك حسب رأي " جان كوهين" وهذه حقيقة يؤكدها عدد من النقاد ، إذ بعد فك البنية التي يقوم بها الشكل البلاغي تحدث عملية إعادة هذا البناء في نظام جديد. فهل وفقت الشاعرة "ابتهاج الخوري" في تشكيل لغة جديدة في نصوصها :
 
" تساقط سيلان ندم
 
عطشاً يرتع
 
فبين الكلمة والشهيق
 
حضارة من عيون
 
أجراس قهرها تتضرع.."
 
هي  لغة تتزاوج بين رمز لا يدرك إيحاؤه، ووضوح موارب ، بمعنى أنّ الشاعرة تريد أن لا يجيء اللفظ بمعناه المحدود، وإنما ينفتح على أكثر من ذلك. وبذات الوقت نجد أنّ العبارة تتجه نحو محدوديتها وذلك حين تصرُّ الشاعرة على تقييدها بقافية لا لزوم لها، ظناً منها أنّ القافية تجعل ما يُكتب شعراً ، في حين أن القصيدة النثرية التي تكتبها من أشد الضرر بها أن تقيد بقافية ، ففي بعض الأحيان أتت لترهل العبارة وتأسرها بما لا معنى يفيد :
 
" حوادث قدرية
 
لا يصادف المنطق دربها
 
يلجأ للبديهي انعتاق
 
قانعة
 
بتجديد المعالم
 
ورسم حدود الأشياء
 
تدونها بعين التمرد
 
وقد زاغ باتفاق.."
 
لقد حدّت القافية من انفتاح المعنى، فالتمرّد يكون قوياً ، جامحاً ولا يزوغ باتفاق ، إذ لا يمكن أن يتفق التمرد على أمر لتنفيذه ، ولكن لهاث ورغبة الشاعرة لكلمة تحوي أحرف بعينها، جعلتها تقع في هذا الخطأ ، وكذلك حين قالت:" خطيئتي ذلك القدر المعاق.." فالقدر لا يأتي بأمرنا كي يشكل لنا خطيئة نقترفها، وهو لا يكون معاقاً ، وكذلك في قولها:" سأصاهر الفرح ثم العناق.."  كلمة العناق تبتر المعنى وانطلاق الفرح وتحدّ منه ، فلو قالت: " الرقص" لكان أفضل.
 
ومع ذلك..
 
لا يمكن أن ننكر أنّ قصيدة الشاعرة ابتهاج لا تحمل أسئلة في أعماقها، بحيث تدفع المتلقي لأن يقف عندها، ويفكر ملياً ، بل إنها تستدرجه إلى عتباتها وتدخله في محرابها، وتحتفي به على طريقتها ، فإما أن يستنكر هذه الاحتفاءات ويمضي عنها ، وإما أن يصاب بالدهشة بعد أن يرفع طبقة إثر أخرى عنها.
 
 وأنا بدوري وبعد قراءة قصائد الدّيوان،  طرحت على نفسي أسئلة هامة :
 
بماذا انشغلت الذات الشاعرة عند ابتهاج الخوري؟ بم هي مسكونة؟ ما القضايا التي أرقتها لصوغ قصيدة ؟
 
والحقيقة أنها قضايا سامية ، ترفّ كأجنحة الملائكة فوق عالمنا. هي قضايا الحبّ والصدق والغناء الذي ينصهر حتى السكوت. والحياة النقية ،والإيمان بالوطن والولد الذي يقدّم نذراً له . والطريق المؤدية إلى السعادة من خلال طرح الآثام .هذه هي انشغالات الشاعرة النقية التي تنضح رأفة وإنسانية  وفداء . ففي الدّيوان ثمة قربان تمّ التضحية به ، إذ نذرت الشاعرة قصائدها لصياغة عالم يفيض بالرّوحانية ، وهذا يؤكد نزوعها إلى توازن مؤمل للإنسان بين هجوم طاغ للمادة
 
والحقيقة أنها قضايا سامية ، ترفّ كأجنحة الملائكة فوق عالمنا. هي قضايا الحبّ والصدق والغناء الذي ينصهر حتى السكوت. والحياة النقية ،والإيمان بالوطن والولد الذي يقدّم نذراً له . والطريق المؤدية إلى السعادة من خلال طرح الآثام .هذه هي انشغالات الشاعرة النقية التي تنضح رأفة وإنسانية  وفداء . ففي الدّيوان ثمة قربان تمّ التضحية به ، إذ نذرت الشاعرة قصائدها لصياغة عالم يفيض بالرّوحانية ، وهذا يؤكد نزوعها إلى توازن مؤمل للإنسان بين هجوم طاغ للمادة ، وشغفه نحو الرّوح، بين عناصر ذاتها الحالمة بيوم أجمل وأطهر ، وبين مدّ الفساد الجارف. لهذا قد أقامت بين العالمين المتناقضين حواراً تعبره قصيدة لا تعرف الإطالة ، أو النثر المجاني ، فالشاعرة اختزلت عبارتها بصورة فنية مغايرة تحرّض قارئها على البحث فيما ترمي إليه، لتمسك بيده ارتقاءً إلى سمو الرّوحانيات والمُثل والأخلاق، بعيدة كلّ البعد عن الثرثرة التي لا ضرورة لها على جسد قصيدة وكأن حروفها لا تطيق الكلام!:
 
" الحبّ مخلّص أوحد
 
حيث جيوش الرّوح
 
التزاماً وجدانياً تسأل
 
فالحبّ تمهيد لتنسك النفس
 
مقرّه صومعة هشة.."
 
إن نصّ ابتهاج يحتفل في كلّ الاوقات بالصلاة والضوء والحبّ المقدس والجمال.
 
ربما تريد حياة عادلة تليق بالإنسان، وهي بهذا تؤكد مقولة " رامبرانت": لن تكون الحياة لدى الناس عادلة إلاّ إذا كانت طافحة بالجمال."

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق