إدمانٌ وعِبرة د. حاتم عيد خوري
2016-08-09 12:13:12
دعاني احد طلابي السابقين في الكلية العربية للتربية في حيفا ( دار المعلمين العرب آنذاك) الى حفل تأهيل نجله الاصغر. سرّني تلبية دعوته الكريمة، كما سرني جدا ان التقي هناك مجموعة من زملاءِ مُضيفي، من المعلمين المتقاعدين. منهم من كان لي شرف تعليمه في الكلية العربية او في جامعة حيفا و/أو شرف ارشاده إبّان عملي مفتشا في وزارة المعارف.
تحلّق المعلمون حولي بعد الغداء. كنّا نجلس في كنف شجرة توت وارفة الظلال خيّمت علينا وكأنها تتواسط لنا لدى شمس تموزالحارقة كي تخفف من وطأة حرارتها، فاضْفَت على لقائنا خصوصيةً أعادتْنا جميعا عبر نفق الزمن، الى عهودٍ مضت حافلةٍ بذكريات جمة امتنعُ حاليا عن ذكرها لضيق المجال، باستثناء قصة مؤثرة رواها الاستاذ ابراهيم(اسم مستعار) حيث قال:
"انا من قرية في منطقة الجليل الغربي، إستشرى فيها لعب الميسر(القمار) في فترة راس السنة الميلادية في منتصف السبعينات. هذا الفيروس اللعين اصابني انا ايضا، فتملّكني مُحْكِما قبضتَه على إرادتي وكأنه قد صادر مني قدرتي على المقاومة. تماديتُ في اللعب ضاربا عرض الحائط إعتراضَ زوجتي واحتجاج اخوتي وانتقاد زملائي. كنتُ إن ربحتُ ولو مبلغا بسيطا، أتّخِذُ من هذا محفّزا لمتابعة "المسيرة" وإن خسرتُ حتى ولو مبلغا كبيرا ، كنتُ أعلل النفس، ب"ان غدا لناظره قريب"، وبالتالي فلا بدّ من تعويض الخسارة. وهكذا عندما ابلغني مديرُ المدرسة بان المفتش سيزورني يوم الاثنين القادم، وان الامر يستوجب مني تحضيرا لائقا واداءً مميزا، لم أعِر الامرَ اهتماما يُذكر".
توقف ابراهيم عن الحديث لحظة ليرتشف فنجان القهوة السادة الذي دأب اهلُ الفرح على تقديمه لنا بين فينة واخرى، ثم تابع حديثه قائلا: " لقد قلتُ لنفسي بان لديّ رزمة كاملة من دفاتر التحضير ذات الماضي العريق وخلفي سنوات طويلة من الخدمة في سلك التعليم، ينهال عددُها الضخم ليصبح قنابل تتفرقع على راس كل من تسوّل له نفسُه ان يتعرّض لكفاءاتي التعليمية بكلمة سوء. وهكذا اقنعتُ نفسي بان كل شي سيكون تمام التمام وانني مستعد لزيارة المفتش، وبالتالي فلا مانع إذن من الانضمام كعادتي الى "شلة المقامرين"، يوم الاحد مساء اي عشية زيارة المفتش. لقد قضيتُ تلك الليلة وانا أبحث عن "شنصي" التائه بين اوراق اللعب(الشّدة). طار النومُ من عينيّ وانا أرى راتبي الذي كنتُ قد قبضتُه للتو، يُغتال امامي ليتقمَّص في جيوب "اولاد الحلال" من زملائي على الطاولة الخضراء. إستمرَّ اللعبُ حتى رقّ الليلُ واصبح شفافا تبزغ من خلاله شمسُ نهار جديد، تواكبها عقاربُ ساعة تلهث دونما تعب او كلل، وقبل ان تبلغ السابعة، "ضبْضبتُ" حالي وهرولتُ مسرعا الى بيتي لأحلق وأستحم وأغيّر ملابسي وأنطلق الى المدرسة".
سكت ابراهيم وكانه يعيش من جديد تلك اللحظات، ثم تابع قصته قائلا: وصلتُ الى المدرسة قبيل زلغوطة الجرس. كنتُ يقظا جدا في الحصة الاولى، لكني شعرتُ مع بداية الحصة الثانية بتعب يتسلل الى جسمي، ثم ما لبث هذا التعب ان استولى علي عندما انتقلتُ الى الصف الخامس في بداية الحصة الثالثة. إرتميتُ بما تبقى لديّ من قوة، على كرسي المعلم، لأخذ الحضور والغياب، فغبتُ رغما عن حضوري، إذ هوت جفوني على بعضها في عناق طويل بعد ان ذاقت الم البعد والحرمان ليلة بطولها ولربما اكثر. ولقد كاد يُصيبني ما اصاب زميلَنا السابق الاستاذ ابا عرفان ذلك المعلم المسنّ الذي كان قد استولى عليه النعاس في الحصة الخامسة، فغطَّ في سبات عميق على الطاولة. شاءت الاقدار ان تضيع مع ضياع الوقت المخصص للحصة، ممحاة احد التلاميذ واسمه سامي، فيتهم هذا زميله شكري بانه قد سرقها. يُقسِم شكري لسامي همسا (لئلا يفيق الاستاذ ابو عرفان) يمينا مغلظة، بانه لم يسرقها. بينما يصرّ سامي على ذلك. يصرخ شكري، وقد عيل صبره، قائلا: "فتّش، فتّش"، فيهبّ الاستاذ ابوعرفان مذعورا وهو يفرك عينيه ويتلفت يمنة ويسرة ويقول: "ولكْ وين المفتش؟!".
توقف ابراهيم عن الحديث برهة ريثما تهدأ موجة الضحك، ثم تابع حديثه: "لكن ما حدث حقيقةً لي كان اصعب وامرّ من ذلك بكثير، إذ افقتُ من نومي، على يد المفتش وهي تهز كتفي. ذُهِلتُ وشعرتُ ان الارض تميد بي، وان كياني ينكمش خجلا ليبلغ عدمية قاتلة، سيما عندما سمعتُ المفتش يقول لي بصوت منخفض: "سلامتك يا استاذ. يبدو انك مش مبسوط، لذا ساؤجل زيارتي الى الاسبوع القادم. ولا يهمّك".
سكت ابراهيم ربما ليشعر بوقع قصته علينا، ثم كشف عن العبرة التي استخلصها قائلا: "هذا الموقف علمني درسا لم ولن انساه، وخلق منعطفا في حياتي وحياة اسرتي، وحررني نهائيا من إدمان كاد يقضي علينا"، ثم نظر اليّ واضاف: "وبالتالي فانا مدينٌ لك بذلك".
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير