الأستاذ حنا ابراهيم الأديب والشاعر الشيوعي الأصيل والعروبي الإنساني بقلم : الدكتور منير توما –كفرياسيف
2016-09-20 20:56:50
الأستاذ حنا ابراهيم الأديب والشاعر الشيوعي الأصيل والعروبي الإنساني بقلم : الدكتور منير توما –كفرياسيف
قد يحتار من يريد أن يكتب َ عن الأستاذ المخضرم حنا ابراهيم الإبن العريق لقرية البعنة العامرة ِ بأهلها ,ايكتبُ عن الشاعر أم القاصّ كاتب القصة ِ القصيرة والرواية , أم كاتب المقالة الصحفية الإجتماعية والسياسية , فهو بتعدّد مواهبهِ قد طرقَ هذه الأقانيم الأدبية الثلاثة بمهارةٍ وإتقان حيث أجادَ في كتابتها جميعاً شكلاً ومضموناً , فكان سيّداً للكلمة الصريحة الصادقة , وباعثاً للفكرة النيّرة الجليّة , ومؤتمناً على تاريخ عايشهُ بحلوهِ ومرّهِ , وإن كان قد تذوّقَ مرارة َ الدنيا أكثر من حلاوتها , فحلاوة ُ الدنيا لجاهلِها , ومرارة الدنيا لمن عقِلا وفقاً لقول الشاعر , ومع كلّ هذا كان قانعاً راضياً بدربهِومسيرتهِ الكفاحية الكادحة , ومتمرّداً على الظلم والقهر والطغيان على مرّ العقود من حياته ِ العريضةِ الطويلة ِ الملآى بالمنجزات والمآثر المثمرة على شتى الصُعُد الشخصية والاجتماعية والسياسية والوطنية , متمنين له موفور الصحة ِ والعمر المديد ليبقى نموذجاً ومثالاً للإنسان الوطني الحُرّ المعطاء لشعبهِ ومجتمعهِ وعالمهِ الإنساني الواسع .
وعلى صعيد أدبيات الأستاذ حنا ابراهيم , فإنني بعد أنْ اطلعتُ على جانبٍ كبيرٍ من إنتاج وإبداع شيخ أدبائنا المُخَضرم , فقد ارتأيتُ أن أكتبَ وأتحدث َ اليوم َ عن شعره ِ بشكل خاص من خلال مجموعتهِ الشعرية التي تحمل عنوان " صرخة في واد " , وذلك انطلاقاً من كون الشعر زينة المجالس على حد قول الخليفة العباسي المأمون . وهذا لا يعني أن كتابات الأستاذ حنا ابراهيم النثرية تقلُّ جودةً أو أهمية ً عن قصائده ِ , وإنّما لا يتّسع المجالُ هنا لتناول مؤلفاتهِ غير الشعرية الغزيرة بالبحث والتحليل , تلك المؤلفات التي تتّسم أيضاً بالأناقة الفكرية , والرشاقة الأسلوبية ِ , والتعبير التصويري الثري الذي يلامس الحياة َ الشعبية الفلسطينبة , ومشاعر معاناة الإنسان , وظروف المعيشة القاسية , وتماهيِهِ مع محبة ِ الإنسان للوطن وارتباطه ِ وعشقهِ للأرض التي تعكسُ تعاطفَ وتآلفَ الكاتب مع المستضعفين َ والمعذبين َ في الأرض بكونهِ المثقّف الكادح الذي ناضل َ وتألّمَ وصبرَ رغم كلِّ المنغّصات ِ والمظالم ِ والمشاقّ التي واجهها وكابدها دون أن ينتابه ُ يأس ٌ أو يعتريه ِ ابتئاس ٌ , بل أنه كان وما يزال يسيرُ بإصرارٍ متبنّياً الروحَ الشبابية بفكرهِ وأدبه ِ وشعره ِ وكيانه ِ متحديّاً الزمن بعنفوان ِ النسر المُحلِّق , وحكمة العصر المُدَقِّق .
وفي ضوء هذه المعاني , فقد كان َ أول ُ ما استوقفني في مجموعة شاعرنا قصيدة " نشيد للشباب " ( ص 25 ) من حيث كون هذه القصيدة تشكَّل ُ عالماً صغيراً ( microcosm ) وصفياً تراثياً لحياة الإنسان الفلسطيني القروي في الأرياف , يبرز فيها الشباب ركيزة َ هذا المجتمع وقوة ِ دفعه ِ نحو الحياة ِ الكريمة ِ بحُرّية ٍ وسؤدد ٍ , بعيداً عن الذُّل والهوان ِ وامتهان ِ الكرامات ِ واستباحة ِ الحقوق ’ فهذه القصيدة بمثابة لوحة صوتية ( vocal painting ) رسمها الشاعر برفاهة ِ حسّ ٍ , وجمال ِ فكر ٍ , وصدق ِ واقع ٍ ملموس دون أن يبالغ َ أو يغالي في عرض ِ الأمور مما يدل ُّ على تشبّثِه ِ بجذوره ِ وانتمائهِ المتمثّل في صدق لهجته ِ , ونقاء ِ فكرهِ , وصفاء عبارته ِ . ونلمحُ في هذه القصيدة دلالات ِ الفرح ِ والسرور في مناسبات ِ القرية الفلسطينية بكل ما فيها من جمالية ِ الأجواء والاندفاق ِ التعبيري الجميل لأهلها وشعبها بعفويّة وتلقائية منسابه كما يتجسّد في الأبيات التالية :
وعرساً يدبكُ الفتيان ُ فيه ِ
تكاد رؤوسُهُم تصل ُ السحابا
وصفُّ السحجة ِ المشهور ُ يزهو
الحداةُ به ِ فيصطخبُ اصطخابا
وجوُ القرية ِ المملوءُ سحراً
يحيلُ المرَّ حلواً مستطابا
وتنوراً تجمّعت الصبايا
قريباً منهُ يغوينا الشبابا
وشيخاً لا يفُكُّ الحرف َ يروي
حكايا تملأ الصغرى كتابا
فيا لك ِ من ذكريات ٍ إن تداعت
يبز ُّ شريطهَا الخيل َ العِرابا
أبيت َ اللعن َ إنْ أنشدت َ أكمِل
ولا تحتسب لذي عَذْلٍ حسابا
ويتابع شاعرنا إكمال َ الصورة ِ , بإشارته ِ الى معاناة ِ وفقر ِ الإنسان العربي ماديّاً رغم الثروات التي جاد بها الخالق على الصحراء العربية من نفط ٍ وثروات ٍ معدنية التي يتمتع بخيراتها أولئك الذين يبذرونها على الغواني تمشيّاً مع رغباتهم وملذاتهم مهملين شعبهم ومتناسين استصلاح ورعاية أرضهم نحو الخير العام . ولكنَّ شاعرنا يبقى مُعَلِّقاً الآمال على الشباب لإصلاح الأمور وتقويم الاعوجاج . وفي كل ذلك يقول في نهايات القصيدة :
وينسى أنَّ للفقراء ربّاً
دعاهُ القاعدونَ فما استجابا
حباكَ الّلهُ صحراء َ استحالت
رمالُ قفارِها تبراً مذابا
ليجري بين اثداء الغوالي
ويترك ُ أرضنا قفراً يبابا
فليتَ ربوعَها بقيت مراعي
وليتَ رمالَهَا ظلّت سرابا
ونعلمُ أنَّ بعد َ العُسر يسرا
وأنَّ لكُلِّ مُعضِلة ٍ جوابا
ألا أنَّ الشبابَ رقاةُ سِحْرٍ
تَفُكُّ القيد َ تختصرُ العذابا
وتصنعُ في البلاد ِ سلامَ بيت ٍ
وللمحتلِّ تكتبُ الإنسحابا
وتوجِدُ للشريدِ حمىً وبيتاً
وتمنحُ كَفَّهُ ظفراً ونابا
لكَ الدنيا فأوْرِثها الشبابا
وحَمِّلْهُ الأمانة َ والكتابا
ومن هذا النمط من الكلام الهادف يقوم الشاعر بتحقيره ِ وتنديده ِ بإهمال المهملين والمتغافلين والمنتفعين من المتنفذين في بلاد العرب , وذلك بِنَفَس شعري اصيل , وصراحة تتجسّمُ فيها عاطفتهُ الصادقة وطاقاته الفكرية والفنيّة , وحماسةٌ لافتة , وكلمةٌ مؤثرة ثنبثقُ منها إيحاءاتٌ وتداعياتٌ رحبةُ الآفاق ِ .
إنَّ الأستاذ حنا ابراهيم هو شاعرٌ مُجيد تنقادُ له القوافي , وتتغلغلُ روحُ الشاعريةِ في كيانه ِ , فهو الشاعرُ المُحلِّقُ المُبدعُ الجامعُ بين متانة ِ اللغة ِ وجزالة ِ الأسلوب , تلمسُ روح َ الوطنيّة ِ الحقّةِ الصّافية في شعره الوطني وفي شعره الإنساني عموماً , وتطالعُ انتقادَهُ اللاذع في شعرهِ الإنتقادي وفي طيّات قصائدهِ , وتطربُ ويهتزُّ شعورك َ وتشاركُهُ عواطفَهُ الجيّاشة مع قوافيهِ عندما يأتي على ذِكْرِ أمانيهِ بالسلام في هذا الوطن وهذه الديار , ففي قصيدة " ويكون سلامٌ ... أمنية " ( ص 50 ) نلتقي مع حنا ابراهيم شاعراً سلامياً ( pacifist ) يدعو للسلام بين شَعبَي هذه الديار بتحقيق حلّ الدولتين , لأنَّ في ذلك حقناً للدماء حيث ليس هناك من جدوى في الحرب والعداء والتشدّد , وأنَّ المصالحة وإنهاءَ الصراع هي النهايه ُ المثلى التي يصبو اليها الحكماء والشرفاء من منظور الشاعر الذي يعبِّر عن ذلك في الأبيات التالية من هذه القصيدة :
ويكونُ أن يتصافحَ الغُرَماءُ
ويكونُ أن يتصالح َ الأعداء ُ
ويكونُ أن يتعانق َ العلمان في
القدس الشريف وتمحّي البغضاءُ
ويرفرفُ العلَمُ الفلسطينيُّ في
الأقصى ولا تتعكّرُ الأجواء ُ
ما ينفعُ البسطاءَ أن يتكاثر َ
القتلى وأن تتناثر الأشلاء ُ
أو ينفع َ الشهداء َ أنَّ دماءَهم
طُـلّتْ وأن التضحيات هباء ُ
هذا الدمُ المسفوك ُ ليسَ بخمرة ٍ
بجمالها يتغزَّلُ النُدماء ُ
بلغ العداء ُ القرنَ لم يثبتْ سوى
أنَّ التشدّدَ خطةٌ حمقاء ُ
لو راجع َ المتشدّدونَ حسابَهُم
لم يحسبوا أنَّ الدواء َ الداءُ
ورأوْا الخسارة َ في السلام ِ غنيمة ً
منها القويُّ يفيدُ والضعفاء ُ
لا تُرجِعُ الوطن َ المضَيَّع َخطبة ٌ
ناريّة ٌ وقصيدة ٌ عصماء ُ
طال َ الصراع ُ ولن تكون َ نهاية ٌ
إلّا بأن يتصالح َ الغرماء ُ
ويكونُ أن يتصافحَالأعداء ُ
ويكون َ من بعد ِ القنوط ِ رجاء ُ
ويكون َ .. لكن لن تكون َ نهاية ٌ
إلّا التي يسعى لها الشرفاء ُ
من هنا نرى أنَّالأستاذ حنا ابراهيم وطني ٌّ مثمر ٌ في خدمة ِ القضيّة ِ الفلسطينية ِ والدفاع ِ عنها والدعوة ِ الى سلام ٍ يضمن ُ الحقوق , فهو يناضل بقلمه ِ ولسانه ِ في هذا السبيل , مُثابراً كمناضل ٍ شريف ٍ مُميّز , في سبيل شعبهِ وأمته ِ وحريتها ودفاعه ِ عن القضايا المصيرية ومقاومته ِ للظلم والطغيان وسعيهِ في إنتهاج ِ الحلول الإنسانية ِ السلامية الواقعية التي تنبذ ُ التشدُّد والعداء َ المتواصل َ الذي لا طائل ً منه ُ سوى سفك ِ الدماء ِ وإهدار ِ الطاقات .
إنَّ شعر الأستاذ حنا ابراهيم يمتاز بمتانة ِ العبارة على بساطة ٍ وسلاسة ٍ , وبرشاقة ِ السياق على رصانة ٍ وغزارة ٍ واندفاق ٍ , فأُسلوبُهُ جليُّ العبارة ِ , واضحٌ بعيد ٌ عن التعقيد والمواربة , وهذه خاصّةٌ تشهدُ لصاحِبهَا بالقدرة ِ على تناول ِ الموضوعات ِ العامرة ِ بالعاطفة ِ والشعور والوجدان الدالعلى صدق الأحاسيس ونُبل ِ الأخلاق والصفات وما يتمتّع به من حكمة، جرأة وتعقُّل , وروح ٍ نبيلة ٍ وتصلّب ٍ أمامَ الشدائد ِ وتقلّبات ِ الزمن .
وفي دعوته ِ الى السلام والأمان والاطمئنان لشعبه وأمتهِ والإنسانية جمعاء , فإنّما يعكس شخصية إنسان تكمنُ في أعماقه ِ فضائلُ المحبة ِ والتسامح والوفاء التي تتجلّى في مشاعره ِ وغرامه ِ الفريد ببلدته ِ البعنة الحبيبة الى قلبه ِ حيث يقول في قصيدة " الحب الأول " ( ص 45 – 46 ) :
محبوبتي يا بلدتي أيتها الأجملُ في البلدان
يا بعنتي نفديك ِ بالأرواح والأموال ِ والولدان
ويا أعز َ موطنٍ خيرُ جليس ٍ أنت في الزمان
قريتُنا يا إخوتي لا تنجبُ الملوك َ والأبطال
بضعةُ فلاحين َ لُصّت أرضُهم فأصبحوا عُمّالْ
لكن لهم في الأمر عند الجدِّ ما يُقالْ
يدرون َ أنَّ الله َ لا يغيّرُ الأمور َ والأحوال ْ
ما لم تُغيّرها – كما هم أثبتوا – سواعد ُ الّرجال ْ
بالعَزْمِ والحِكمة ِ والصمود ِ والنضال ْ
وهكذا أحببتُها ولم ء أزلْ أحبّها لروحها الشّمّاء
لأنّها أرضعت ِ الأجيال َ من تربتها السمراء
وربّت النشءَ على الشموخ ِ والعِزّةِ والإباء
فقال كلُّ الناس عنها البعنة َ الحمراء
واليوم َ لا لونَ لها لكنها نقيّة ٌ كالماء .
وهكذا , وبعد هذه الجولة القصيرة في ثلاثة ِ نماذج َ من شعر الأستاذ حنا ابراهيمفي مجموعته ِ الشعرية " صرخة في واد " التي قرأنا قصائدها بعناية ٍ واهتمام , نكونُ قد بلورنا موجزاً تحليلياً تقريبياً للموضوعات المطروقة في قصائد المجموعة باعتبار أنَّ القصائد الثلاث الواردة في هذه الدراسة تعكس وتعبِّر عن مُجمل معاني المجموعة كمحصلة لما اعتملَ في صدر شاعرنا وفكرِه ِ في مواقف متعددة ومتنوعة شملت الوطنيات , والاجتماعيات والإنسانيات , والتي لا يخلو الكثير منها من الأبعاد السياسية المباشرة وغير المباشرة ذات الطابع الوطني تارة ً , والأممي تارة ً أخرى , وبالتالي نكون قد لمسنا ما لهذا الشاعر من مواهبَ شعرية ٍ أثبتت أنّه فيّاض القريحة ِ يتدفقُ الشعر ُ عندهُ بإحساس ٍ , وبتعبير ٍ صادق ٍ عن وجدانه ِ , مُفعم ٍ بشعور ٍ مستكنّ ٍ في أعماق ِ ضميره ِ , ويترجم ُ عمّا يجيش ُ في نفسه ِ من حسّ ٍ صادق ٍ أصيل لا تصنّعَ فيه ولا تكلّفَ , فلا غرو أن يكون شاعرنا من اصدق المترجمين َ عن آلام ِ شعبه ِ وأحزانه ِ بمختلف جزئياته ِ .
فللأستاذ الكبير وشاعرنا الأديب حنا ابراهيم أجمل التحيات وأطيب التمنيات بالصحة والعافية وطول العمر والمزيد من العطاء والتوفيق .
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير