عرفانيتي .. كميل فياض
2016-11-25 21:32:07
عرفانيتي ليس فقط تجربة ذاتية خاصة ، بل هي عقيدتي ايضاً وأيديلوجيتي لمواجهة الظلاميات الاجتماعية والدينية المختلفة ، ومنها ما يسمى العقائد السماوية التي هي عقائد انفصامية ثنائية تغريبية .. وعندما اقول شعراً او فكراً في تصوير علاقاتي بالوجود او الوحدة الذاتية مع الله او ما يسمى الله ، لا اقصد فقط التعبير عن حالة روحية وجدانية ، ولا اقصد الشطح ، بل التأكيد على حقيقة ما ..
ومن الهموم العرفانية الوجودية إبراز الأولويات التي تشغل عقول الناس ، بقصد إلفاتهم الى ان اولوياتهم باطلة كما هي في واقعهم .. وللتوضيح مثلاً وافتراضاً ان أولى أولويات رجل الدين (السماوي والتقليدي) إقامة علاقة مع الغيب من خلال الصلوات والعبادات والشعائر ، لفهمه بأن الله غيب او يسكن في غيب ، ولذلك يحرص رجال الدين على تنزيه الله عن العلاقة المباشرة وعن المعرفة به معرفة يقينية ، يحاولون اثبات الجهل والقصور الانساني تجاه الالوهة خدمة لذلك التنزيه وخدمة للفصل الكلي بين طبيعة الهية وطبيعة بشرية ، وهذا الموقف نابع من الجهل بجوهر الوعي وبحقيقة انفسهم، وسبب الجهل والتنزيه الاعتقادي ، هو تماهي الوعي الذاتي اللاشكلي واللاحسي لديهم مع الفهم الشكلي والحسي لأنفسهم اولاً ثم للواقع ولكل ما يتصلون به ، عليه يتصورن الله شخصاً او قوة مستقلة عن ذواتهم ، ويعتبرون الجنة ملذات وحوريات وانهار عسل وخمر الخ ، بينما الجحيم هو العذاب الحسي والحرمان ..
اما اولى اولويات رجل السياسة، هي القضايا الوطنية والحقوق والواجبات المدنية والسياسية وقيم الديمقراطية وخلاف ذلك ،لرؤيته العالم الحسي المباشر هو الواقع النهائي وهو الأولى بالاهتمام والاصلاح والتغيير، واما القضايا المعرفية والفلسفية والوجودية الأخرى يعتبرها رجل السياسة ثانوية او عدمية او عبثية الخ.. لعدم اتصالها مباشرة بمشاكل الواقع وبمصالحه ..
ان اولى اولويات علماء وخبراء المادة على اختلافهم ،هو الكشف عن قوانين الكون والمادة ،وعن كيفية استغلال واستخدام مختلف الطاقات والثروات والمواد، سعيًا لإخضاع الكون لإرادة الانسان ،ولذلك فتركيزهم على البيئة وعلى الطبيعة والفضاء ..
اما الاجتماعيين والانمائيين وخلافهم فأولوياتهم الانسان من خلال علاقاته المتعددة ، وتركيزهم منصبّ على الأحوال والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتربوية الخاصة للأفراد .. وهذه الأولوية تشمل هموم علماء النفس الحديث وسيكلوجياتهم المختلفة ..
اما الغالبية من الناس لا اولويات خاصة لديهم ولا وعي بضرورة وضع اولوية معينة في سلم اولويات الحياة ، فهم يعيشون على ردود الافعال وهمهم العيش والراتب لا اكثر من ذلك .. اما بالنسبة للمثقفين ادباء وفنانين وشعراء تختلف اولوياتهم ، لكن همهم اعمالهم وانتاجاتهم نفسها ، حتى بدت كأهداف وغايات في ذاتها ..
الآن لماذا انا عرفاني وجودي ولماذا يجب في نظري ان تكون العرفانية الوجودية اولوية سابقة على كل الأولويات الأخرى ؟
لسبب بسيط وهو ان هناك وجود اول اساس هو وجودي الذاتي الواعي المباشر الحي ، ثم وجود ثان هو وجود الآخر الذي هو العالم والناس الله الخ ، ولا يمكن ان اعرف الآخر الا من خلال الكشف عن ذاتي وعن كيفية قيام المعرفة ذاتها بذاتي اولاً وبالتالي بالآخر .. ومعرفتي لذاتي تتم بوعي ذاتي لا بطريق الذهن والحس والظن والقياس والمنطق ، لا بتحليل الافكار والمعلومات ، لا باختبار تفاعلات كيماوية ،لا بتفكيك الذرة للكشف عن محتوياتها ، لا بدراسة (الدي ان اي ) والحمض النووي وعناصره وسلوكياته ، لا من خلال العلاقات الاجتماعية ، حيث كل ذلك وبكل الأحوال يمر طريق العقل والخمسة حواس ويتحصل بي بالتالي كمعطى رمزي شيفروي ، اذ ان هذه الأشياء ليس وجودي الأول والأساس بل ما يرافق وجودي ويغلفه ويحجبه ويطغى عليه بمداركه وتأثيراته ، وهي ادراكات وظيفتها التواصل مع الوجود الآخر في الدرجة ليس مع وجودي الذاتي .. والمفارقة ان وجودي (الذاتي) يشكل خلفية وسببية للوجود الآخر - من جهتي على الأقل - اذ ان وجودي الذاتي ثابت ازلي خالد في ذاته بسيط لا يتجزأ ،وهو لا يستمد وجوده او سبب وجوده من غيره بل من ذاته ، ولذلك لا أوجَبَ من الكشف عنه ومعرفته كأولوية سابقة لكل اولوية ، حيث عليها يجب ان تترتب سائر الأولويات .. لكن بما ان تجربة الوجود الأول ليست شعبية – كما هو ظاهر - ولا هي اكتسابية ،هي مجهولة للأغلبية ..
عرفانيتي التجاوزية هي وجودية خالصة ، اي متحررة من المعتقدات الدينية الميتافيزيقية الغيبية ، ورؤيتها واحكامها واخلاقياتها وفكرها وقيمها منها ، من تجربة صاحبها الذاتية، وهي فلسفة فوقية واقعية جدلية تطورية انسانية في آن، تأخذ بالديمقراطية والعدل والمساواة بين كافة البشر ، ولا تجافي الحداثة والتطور ،غير انها لا توافق على كل ما أتى ويأتي به التطور المدني والتقني والاداري من شذوذ عن الطبيعة بمختلف صوره السلوكية والبيئية .
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير