بقلم : الدكتور منير توما / كفرياسيف
افتُتِح يوم الأربعاء 23/11/2016 في صالة العرض " ابداع " في كفرياسيف , المعرض الجماعي الدولي " جاري " لمجموعة فنانين يهود وعرب وفنانين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة , والذي قام وأشرف على تنظيمه الفنان الكبير الأستاذ ايليا بعيني حيث قمت بمشاهدة اللوحات الفنيّة المعروضة هناك , وفي الوقت ذاته أقدمت على بلورة أفكارٍ نقدية تحليلية للجانب الفني الجمالي لهذه ِ اللوحات الذي أبدعها فنانون وفنّانات من الرسامين الموهوبين الذين أتقنوا التعامل بريشة الفنّان الأصيل المحترف والمتمكّن من فنّه ِ الرفيع هذا .
في أثناء جولتي في المعرض ساعة الافتتاح , استرعى انتباهي واستوقفني عدد كبير من اللوحات بجماليتها وبما تحمله من معانٍ ورمزية على شتّى الصُّعُد الإنسانية والاجتماعية والفكرية , وقد كانت أولى مشاهداتي ترتيباً للوحة " عمال غير شرعيين " للفنان أحمد كنعان , وفيها – وفقاً لمنظوري التحليلي – يصوِّر الفنان ما يعانيه ِ الإنسان العامل في الطبيعة من معاناة وبؤس بفعل الظروف القاسية التي تحيطُ به ِ حيث يتجلّى ذلك في وجوه العمال الظاهرين في اللوحة بألوانٍ أحسنَ الفنان استخدامها لا سيّما في جو الطبيعة اللافتة التي يتواجد فيها العُمّال.
فهذه اللوحة تتخلّلها لمسات إنسانية بامتياز , ونفحات من مشاعر التعاطف التي تنشأ في نفس المتلقّي المُشاهِد الذي يتفاعل مع المعاني المستوحاة منها .
أما في لوحة الفنان أيمن حلبي , فإننا نجد ملامح التمسّك بالوطن المتجسّدة بظلال هذا الوطن حيث أنَّ طيف الإنسان يتماهى مع الحنين دائماً لما هو كامنٌ في الصّدور من عواطف جيّاشة تجاه الانتماء بما في ذلك من حيرة تتمثّل في دوّامة الإنسانية التي يعبّر عنها الفنان من خلال الألوان الدكناء وبروز اللون الرمادي في اللوحة .
ونجد في لوحة الفنانة جهينة حبيبي قندلفت تصويراً لفكرة الجمال والعدل باعتبارهما صنوين , وفي هذه اللوحة تجعلنا الفنّانة نستحضر مقولة الروائي الروسي فيدور ديستويفسكي بأنَّ
" الجمال ينقذ العالم " ( beauty saves the world ) وكذلك ما ورد في قول الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي الكبير جون كيتس بأنَّ " الجمال هو الحقيقة " " beauty is truth" .
وتعمُّد الفنانة جهينة في هذه اللوحة الى إبراز العيون متوخّية في رأينا التحليلي النقدي أنها تقصد في اللاوعي ما معناه أنه " في العين تعيش الروح " مما يؤكد قول السيد المسيح أنَّ " العين سراج الجسد " . كما يظهر في هذه اللوحة تشديد على الشفاه بكون الشفاه تنطق بكلمة الحق المؤدية الى العدل , فبِتوفُّر العدل في الحياة يسود الجمال بكل أبعادهِ ومعانيه ِ وأشكالهِ , فالعيون رمز الجمال , والشفاه تمثّل قول الحق لإحقاق العدل الإنساني , فالعدل والجمال متكاملان من هذا المنظور فلسفياً ومنطقياً وفنيّاً .
ونأتي الى لوحة الفنانة تغريد حبيب التي تعني في إيحاءات رسمها أنّه عندما نتصالح مع أنفسنا نشعر بالحرية وكأننا نتصالح مع الأنا ( ego ) في ذواتنا ومع ذاتنا الأخرى alter – ego) ) فاللون البني الطاغي في اللوحة يرمز الى ثبات وتماسك الذات الساعية نحو الثقة بالنفس والصمود أمام مغريات الحياة المتنوّعة .
وفي لوحة الفنانة ديالا مدّاح , نستشعر وجود الشيء ونقيضه من حيث الثنائية ( duality ) أو الإزدواجية التي تعيشها المرأة في هذا الوجود . فاللون الأحمر الطاغي في اللوحة يرمز الى المحبة من جهة , والى الصراع المحتدم المتوهج دائماً بين الشقاء تارةً , والإنطلاق المُتَحَرِّر في أجواء ديمومة الحياة تارةً أخرى .
وحين ننظر الى لوحة الفنانة ليخيا متاني , نرى رسماً لفنجانين من القهوة , أحدهما مقلوب , والآخر ملقىً على جانبه والقهوة منسكبة منه , وبطبيعة الحال فإنَّ القهوة عموماً حينما يرتشفها أو يشربها الناس ترمز الى حميمية ( intimacy ) العلاقة البشرية اجتماعياً وإنسانياً , كما أنَّ هناك العادة التراثية السائدة والشائعة في الكثير من المجتمعات وخصوصاً الشرقية , وهي قراءة فنجان القهوة لمعرفة واستكشاف الغيب والمستقبل من الأمور التي توحي بها هذه ِ اللوحة حيث أنَّ وضْعَي فنجان القهوة مقلوباً على وجههِ , ومنسكباً منهُ السائل جانبياً يشيران الى حالات الصعود والهبوط في الحياة , الفرح والحزن , الازدهار والابتئاس وغير ذلك من الثنائيات المتناقضة في حياة الإنسان التي قد تخبرنا بها قارئة فنجان القهوة كعادتها المألوفة في كشف المخبوء مستقبلاً والذي يعرف بمصطلح ( fortune – teller ) .
ومما أثار إعجابي ودهشتي الشديدة تلك اللوحة التي رسمتها الفنانة ماجدة حلبي من هضبة الجولان , والتي جعلتني في بداية الأمر اعتقد أنَّ لوحتها هذه هي صورة فوتوغرافية , وذلك لشدة إتقان الفنّانة في رسمها صورة نصفية لفتاة ذات وجهٍ جميل جداً وعيون خضراء فاتنة وكأننا نحسبها فتاة حقيقية على وشك أن تنطق وليست رسماً في لوحة رُسِمت بريشة فنّانة مبدعة خلّاقة أجادت في عملها أيَّما إجادة كأنّك أمام بورتريه ( portrait ) فائقة الروعة يشهد بمهارة وبراعة الفنّانة في الأداء الفني المتميّز للجمال الشامي السوري المشهود له محلياً وإقليمياً وعالمياً .
ومن اللوحات الفريدة في هذا المعرض لوحة الفنّان كريم ابو شقرة التي تظهر فيها نبتة الصبّار وكذلك الزعتر , فكلتاهما تمتازان بخصائص شفافية كدواء يُحضَّر أو يُستحلب منهما , ويتصفان باللون الأخضر رمز الحياة والديمومة , ومن خلال هذا الرسم فإنَّ الفنان يبغي في اعتقادنا الإشارة الى ما يرمز اليه الصبّار بشوكهِ من الشعور بالمعاناة في هذه الحياة , وبفائدته ِ الدوائية الشفائية كنبتة ذات وجهين فيها القسوة واللطف معاً , بينما الزعتر بجمال شكلهِ ورائحتهِ الفوّاحة , يشكّل رمزاً غذائياً علاجياً دوائياً , وبالتالي فإنَّ الصبّار والزعتر يجتمعان في هذه اللوحة لبيان اخضرار الحياة بكافة أبعادها ومعانيها بحُلوها ومرِّها وباختلافاتها وتنوعاتها .
ونلمس في لوحة الفنانة جانيت بشارة اللولبية اللونية التي تشير وترمز الى دوامة الحياة وتموّجاتها وتناقضاتها بمختلف صورها وأشكالها .
وإذا أمعنا النظر في لوحة الفنانة نوغا شبيط نرى وجهاً لصبيةٍ باسمةٍ ذات وجه شبابي مشرق يرمز الى ربيع الحياة , بينما نجد في اللوحة خلفية تتضمن أوراق شجر متساقطة ترمز الى الخريف , وهنا اجتمع الربيع ممثلاً بالفتاة ذات الابتسامة المتفائلة مع الخريف الممثّل بأوراق الشجر المتساقطة كما لو أنَّ الفتاة الصبيّة تبقى مبتسمة متفائلة في ربيع العمر رغم علمها بأنَّ خريف العمر لا محالة آتٍ , ومع كل هذا فإنَّ الفنانة تريد أن تقول أنَّ التفاؤل ممثلاً بالربيع سيبقى هو الغالب على التشاؤم ممثلاً بالخريف على سبيل الرمز .
ونرى أنَّ لوحة الفنان عميرام عيني تصوّر العمل الارتجالي ( improvisation ) الذي يتّسم بفوضى الحواس ( אנרכיה של רגשות ) حيث يسود التشتّت والتشظّي في المعنى بإيحاءاته ِ وتداعياته ِ .
ونجد في لوحة الفنانة دوريت فيلدمان معاني التعدديّة بأبعادها المتنوّعة ( multi – dimensions )
من منظور أحادي خاص ( private vision ) .
وتمثِّل لوحة الفنان سلام دياب خطوط الحياة المتّسمة بالتناقض والاختلاف حيناً , وبالتناسق والتوازي والانسجام حيناً آخر . وفي ذلك تكمن رمزية التضاد في المعاني الحياتية
symbolism of paradoxical meanings of life ) ) وترمز لوحة الفنان برندو شكولنيك الى معاني الحب بكونهِ تعبيراً ممثّلاً للفن والجمال والتوافق والانسجام artistic harmony) ) .
ونختم هذا التحليل النقدي بما قدّمه وعرضه الفنان عيران جيل من صورتين فوتوغرافيتين ترمزان الى أناقة عالم المدينة وطمأنينة الحياة في أحياء هادئة راقية تتَّصف بجمالية الترتيب واستتباب الاستقرار في شوارعها .
وهكذا , نكون قد تناولنا بالتحليل الفني اللوحات التي عُرضت في هذا المعرض الراقي متعدّد الفنانين المشاركين فيه ليعكس رسالة جمعية " ابداع " – رابطة الفنانين التشكيليين العرب – لإعلاء شأن الفن في أوساط أهل الفن التشكيلي من محترفين موهوبين وصاعدين ناشئين ومتذوقين لتبقى كفرياسيف حُضناً دافئاً للثقافة والمعرفة والأدب وسائر الفنون بمختلف فروعها.
تشرين الثاني 2016