بلغني قبل نحو اربعين يوما، خبرُ وفاة صديقي العزيز جميل سليمان خوري(ابومروان) في دبي عن عمر يناهز 93 عاما. هذا الخبر المؤسف الذي حمله الي البريدُ الالكتروني، حملَني بدوره بعكس تيار نهر الايام، عائدا بي 35 سنة الى الوراء، ليحطّني من جديد في لندن، وليذكرني بلقائنا الاول في اواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1981.
كنت آنذاك طالبا مبتدئا للدكتوراة في جامعة لندن، واسكنُ مع عائلتي(زوجتي واولادي الثلاثة الذين تراوحت اعمارهم بين 4-12 سنةً) في منطقة غرب ويمبلدون (Wimbledon West)، عندما وصلتني من صديقي طيب الذكر المرحوم الدكتور سامي جرايسي ابو فرح، رسالة مؤرخة في 27/10/1981، يقول فيها :"عزيزي حاتم، تحياتي واطيب التمنيات واجمل التهاني لإقبالك على الدراسة...... لمّا رايتُ من عنوانك، أنك تسكن قرب صديق حبيب عليَّ، سارعت بالكتابة اليك كي تتعرف عليه. تجمعني وإيّاه ذكرياتُ التلمذة واختبارات الشباب وموافقةٌ في الفكر والفلسفة ووجهات النظر، هو السيد جميل سليمان خوري وعنوانه في لندن هو.....".
تلاقِينا وتعارفُنا أصبحا رأسَ الزاوية بل حجر الاساس في صرح صداقتنا المدعَّم بلطف ابي مروان وفيض محبته وسداد رأيه وسعة معلوماته العامة وتملكه من اللغة العربية وانتمائه الوطني وحبه للعطاء. لطفُه اسرني فجَسَرَ بيننا فجوةً عمرية قوامها عقد ونصف. محبتُه الفياضة جعلت منه أخا كبيرا لنا وجَدًّا حانيا محبّا لاولادنا. معلوماتُه الواسعة عززت معرفتي بالغرب عموما سيما بريطانيا. سعةُ إطلاعه على الادب العربي وعمقُ معرفته باللغة العربية وحضورُ بديهته واعتزازُه بجذوره الفلسطينية الشفاعمرية ومحبتُه لناسِها قد زاد من متعتي بمجالسته، فارتحتُ له نديما مميّزا يُتحفُني باقوال وحكم ونوادر وحكايات لا يتسع المجال، في هذا السياق، لذكرها...أمّا الميزة الابرز في شخصية ابي مروان، فلعلها تتوضح من خلال القصة الشخصية التالية:
كنتُ في اواخر مرحلة دراستي للماجستير في التخنيون في حيفا، عندما فزتُ بمنحة تعليمية لسنة واحدة، من قِبَل الجمعية البريطانية (المعروفة باسم British Council). طلبتُ من الجمعية ان تكون دراستي جزءًا من دراسة منتظمة للدكتوراة، وقمتُ بناءً على طلب الجمعية، بتوقيع وثائق رسمية أعفي فيها الجمعيةَ البريطانية من اي مسؤولية تجاهي، بعد السنة الاولى لدراستي. كنتُ أدركُ جيدا ان توقيعي وتعهدي هذا ينطوي على مغامرة كبيرة، ومع ذلك ابتسمتُ لاني تذكرت نكتة ذلك العالِم الذي تعهد ان يعلم حمار الملك القراءة خلال سبع سنوات، قائلا لمن استهزأ به انه خلال سبع سنوات، قد يموت الملك او يموت الحمار او يموت العالِم. لقد قلت لنفسي: "الصناديق كثيرة ولا بد ان اجد من يساعدني على متابعة دراستي في السنة الثانية والثالثة، سيما وانا اشعر ان لدي من العزيمة والتصميم والارادة ما يعينني على اثبات نفسي".
وهكذا ومنذ اليوم الاول لوصولي مع عائلتي الى لندن ومداومتي في الجامعة، عدتُ الى جذوري فلاحا يجيد الحرثَ عميقا. جِدٌّ واجتهاد وإصرار لا يعرف الكلل، ولا يخلو من تحدٍّ مقنَّع لمن قال لي ممازحا: "بعد ما كبر وشاب، راح للكتّاب". كنتُ آنذاك في الثالثة والاربعين من عمري، وعلى مسافة سبع عشرة سنة من حصولي على اللقب الجامعي الاول(B.Sc) سنة 1964.
لاحظ مرشدي للدكتوراة بروفيسور ارثر لوكس(Arthur Lucas)، الذي كان يتابع عملي الاكاديمي عن كثب، حصيلةَ ما انجزتُه في اول ستة اشهر، فزودني برسالة توصية دافئة جدا، ارفقتُها بكل طلبٍ وجّهتُه الى عشرات الصناديق التي تُقدِّم منحا تعليمية لطلاب الدكتوراة. اخذت ردودُ الصناديق الخطية تصلني تباعا، وكل منها يمتدح اهمية البحث الذي اقوم به، من حيث النوعية والمستوى وضرورة تطبيقه مستقبلا خدمةً لرفع مستوى تدريس العلوم وطرق إعداد المعلمين، مضيفا "لكننا لا نستطيع لاسفنا الشديد، تقديم منحة تعليمية لك" ....لأسباب مختلفة منها: "عمرك اكثر من ثلاثين سنة" أو "لانك لستَ من مواطني دول المنظومة الاوروبية او رابطة الشعوب البريطانية اي أل Commonwealth" أو "لان مصادرنا المالية هذه السنة شحيحة ...... أو... أو...الخ".
إزاء هذا الوضع، قررتُ ان اتوجّه باعتباري مواطنا اسرائيليا، الى الملحق الثقافي في السفارة الاسرائيلية في لندن، الذي "تكرم" فارسل الي قائمة تضمنت اسماءَ وعناوين نحو عشرة صناديق تشترط جميعها الخدمة العسكرية أو الانخراط في نشاطات المؤسسات اليهودية او الصهيونية...الخ، وبالتالي لم اقدم طلبا لاي منها. فقلت لنفسي: "إذن لماذا لا اتوجه الى وزارتي اي الى وزارة المعارف التي عملتُ فيها سبع عشرة سنة متواصلة، وما زلتُ محسوبا عليها وساعود اليها لاحقا باعتباري حاليا في إجازة بدون راتب....عندما وصلني ردُّ الوزارة، وقرأتُه إنفجرتُ بضحكة هستيرية...جعلت زوجتي التي كانت تراقبني وانا افتح المغلف منفعلا، جعلتْها تظنُّ انني اضحك فرِحا بضمون الرسالة، ثم ما لبثت ان ادركتْ انني كالطير الذي "يرقص مذبوحا من الالم".... لم يغضبني رفضُ طلبي بمدى ما أغاظتني علةُ الرفض، حيث قيل لي "إن عملك في وزارة المعارف لا يتطلب شهادة دكتوراة" علما باني كنت في حينه اعمل مفتشا لتدريس العلوم في المدارس العربية ومحاضرا ومرشدا تربويا في دار المعلمين العرب. هذا الرد الذي امتنعُ عن وصفه تأدبا، اضحكَني لانه ذكرني بنادرةِ زميلي في دار المعلمين الاستاذ مراد ميخائيل. كان الاستاذ مراد وهو عراقيُّ الاصل مرِحَ المزاج، قد حصلَ في سن متاخرة، على الدكتوراة في اللغة العربية من جامعة تل ابيب.عندما سألناه في غرفة المعلمين "هل حصلتَ يا استاذ مراد على علاوة الدكتوراة في راتبك"، أجاب ضاحكا: " لا لم احصل، لانه ماكو(اي ما في) احد في وزارة المعارف، يعرف ان هناك شهادة اسمها دكتوارة".
صحيح ان جواب وزارة المعارف اضحكني إستخفافا، كما اضحك مرشدي، إلا انه جعلني اشعر لاول مرة، ان كل الطرق قد سُدَّت امامي، وان كل ما انجزتُه سيضيع وان تعبي سيذهب سدى، واني قد اصبحتُ اقفُ على مفترق طرق وامام خيارين صعبين جدا: فإمّا ان اقطع دراستي واعودَ الى حيفا خائبا، وإما ان اتوجه ثانية الى الجمعية البريطانية، فاخترتُ مرغما الخيار الثاني.... وبتُّ اتلظى على جمرِ انتظارِ جواب الجميعة....محاولا التكتم، سيما امام ابي مروان، عمّا ينتابني من قلق وما يجتاحني من توتر، لاني لا اريد ان اثقل على عواطفه....غير انه استطاع بنظرته الثاقبة وبقلبه المحب، ان يلاحظ بعضا ممّا اخفيه من قلق، فاصرّ على استجلاء الامر منتهزا فرصة جولة لنا على الاقدام، في بارك ويمبلدون (ً(Wimbledon Park المترامي الاطراف، ثم ما لبث ان نجح في إماطة اللثام عمّا يختلج في صدري من قلق وما ينتابني من توتر، وإذ به ينتفض امامي ويهب لاحتضاني بذراعيه قائلا لي بانفعال: " نحن هنا، ولن ادعك تعود الى حيفا إلا سالما غانما...."
اعتقدُ جازما ان تلك النخوة الاصيلة التي ابداها ابو مروان وذلك الكرم الصادق، جعلاه يوم هاتفتُهُ (بعد نحو اسبوعين) لأزفَّ اليه بشرى موافقة الجمعية البريطانية على تمديد منحتي لسنتين كاملتين، يقول لي بانفعال مسموعٍ: "أنا فرِحٌ لحصولِكَ على ما اردتَ، لكني حزين ايضا، لانك فوَّتَّ عليّ فرصةَ نعمة العطاء". رحمك الله ايها الحبيب....